اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

كتاب التوظيف السياسي للفكر الديني

هادي محمود

مقدمة

 

ثمة ما هو مشترك في المواد الواردة في هذا الكراس. فالجامع والمشترك بينها، هو المنهج الذي كُتِب به أولاً، وما يمكن أن نطلق عليه الحقل المتخصص ثانياً. والهدف هو القاء الضوء على تلك العلاقة التي تربط الفكر الديني، بالعمل السياسي. وبالتالي يبدو عنوان الكراس "التوظيف السياسي للفكر الديني" منسجماً مع جملة المواد الواردة فيه.

 

يكتسي التطرق للقضية الدينية، وللإسلام السياسي في بلد كالعراق، أهميةً بالغة. فالتيارات الإسلامية السياسية بمختلف أشكالها واتجاهاتها، تمتلك حضوراً فاعلاً في الحياة السياسية، وفي حياة المجتمع بشكل عام. وهي تطرح توجهاتها من خلال الربط والتلازم بين الإسلام كعقيدة وعبادات، وقيم وجدانية وأخلاقية، وبين مشروع الإسلام السياسي المتمثل بالدولة الدينية المبنية على أسس الشريعة الإسلامية، كمصدر وحيد للتشريع.

 

كما تسعى تلك التيارات الى احتكار التراث الإسلامي، من خلال النظرة الأحادية في التعامل معه، لتجييره لمشروعها السياسي، عبر خلق هوية إسلامية إنعزالية، منكفئة على نفسها، وتجعل من الآخر عدواً دائماً لها.

 

ولا تنصب مسعى قوى الإسلام السياسي على أسلمة الدولة فحسب، بل تسعى أيضاً لأسلمة المجتمع سياسياً، من خلال فرض أنماط معينة للسلوك الاجتماعي، وطرق للمعيشة اليومية، من خلال أساليب القهر التقليدية في المجتمعات. ويتزامن هذان المشروعان من خلال استغلال الهوية الإسلامية لأغلبية جماهير شعبنا، والتي هي هوية حضارية ووجدانية، أكثر من كونها هوية دينية سياسية.

 

ان الصراع على الهوية، صراع اجتماعي، من أجل مشاريع سياسية مختلفة. صراع لا يتعلق بالماضي بقدر تعلقه بالحاضر، وبالمستقبل أيضاً. ودورنا كيساريين ديمقراطيين، هو تجنب النظرة العدمية للتراث، ودفع الأمور باتجاه تقدمي عقلاني منفتح على منجزات الفكر البشري، وعلى أساس استيعاب الديمقراطية كقيم، وكأسلوب حضاري في الحياة اليومية، وعدم التعامل مع مفهوم الديمقراطية كآليات، أو اختزالها في مفهوم الأكثرية والأقلية.

 

ان اختلافنا الأساسي مع قوى الإسلام السياسي، اختلاف حول ما يدور في الأرض، وهو صراع اجتماعي سياسي، لا يتعلق بالسماء. وبالتالي هو اختلاف في المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أن يعني ذلك عدم إمكانية التوافق في هذه النقطة أو تلك، مع جهة أو أخرى، وعلى قضايا مشتركة تخدم التقدم الاجتماعي والتنوير، وقضية الديمقراطية والحريات العامة.

 

مواد هذا الكراس ، مسعى لفهم متجدد للظاهرة الدينية، من خلال فهم عقلاني وواقي للتراث ولوظيفة الدين في المجتمع. وهي مساهمة لتشخيص بعض الإشكاليات المتعلقة بهذا المجال، من خلال النظر الى الظاهرة الدينية في إطار التاريخ، وفي إطار تأثير الجهد البشري.

  

من أجل فهم متجدد للظاهرة الدينية في مجتمعاتنا

  

تعرضت الماركسية، ولا تزال، الى الكثير من التشويه في مواقفها من الظواهر الاجتماعية نتيجة النظرة السطحية التبسيطية في التعامل مع مقولاتها من قبل مريديها، إضافة الى حملات التشويه المقصودة من قبل المعادين للفكر الماركسي. وقد نجم عن هذا الأمر تشويه الطابع المعرفي لمقولات ماركس وتحليلاته للظواهر الإجتماعية.

 

ويتطلب الفهم الديالكتيكي المتجدد لمقولات ماركس، فهم منهجه عبر دراسة وتحليل نتاجاته ومساهماته المعرفية في المجالات المختلفة.

 

يتجسد جوهر أفكار ماركس في كونه ثورة فلسفية اجتماعية تطرح فهمها للظواهر الاجتماعية بترابطها وتأثيراتها المتبادلة. وبعكس المدارس الفلسفية الأخرى، أعلنت الماركسية عدم حياديتها، وكونها لا تكتفي بتفسير الظواهر الإجتماعية بل تسعى الى التغيير الأجتماعي بمعناه الفلسفي، وبرهنت من خلال هذا الطرح عدم الحيادية المعرفية للفلسفات الأخرى أيضاً.

 

شكلت الماركسية ولا تزال تشكل تهديداً مباشراً لمصالح الطبقات المستغِلة المسيطرة على السلطة السياسية ومراكز القرار، لذا لم يتوانَ ممثلو هذه الطبقات في معاداة هذا الفكر، وتشويه مقولاته بشكل مغرض لخلق حاجز نفسي وإجتماعي يمنع التواصل بين هذا الفكر وبين الوسط الإجتماعي الذي بعتبر أداة ومحرك عملية التغيير الإجتماعي.

 

وفي ظل هذا الصراع تعاملت أوساط واسعة من حملة هذا الفكر ـ من الذين لا يمكن الشك في نواياهم الطيبة للتغير الثوري ـ بشكل سطحي، أفضى الى التعامل مع مقولات ماركس، كنصوص مقدسة، لتبرير مواقف سياسية يومية، بدلاً من التعامل مع فكر ماركس كمهنج معرفي وفهم عام لقوانين التطور الإجتماعي.

 

وتصور البعض ضمن هذا الوسط أن مجرد ترديد بعض مقولات ماركس، وتثبيت الإلتزام بالمقولات الماركسية اللينينية في الوثائق التي يعتمدها، ضمان لعدم الوقوع في التحليلات الخاطئة، وبالتالي إيصال مسيرة الثورة الإجتماعية وعملية التغيير الى أهدافها وحتميتها التاريخية.

 

وجرى ترديد الكثير من هذه المقولات بعد أختيار جمل معينة من تحليل مطول لماركس حول ظاهرة إجتماعية، بشكل إنتقائي وتجريدي، بحيث تصبح هذه الجملة أو ذلك المقطع معبراً عن موقف ماركس والماركسية عموماً من تلك الظاهرة، في حين لا يتكامل الفهم المعرفي والعلمي لتلك الظاهرة إلاّ من خلال فهم وتحليل مجمل النص، وبالإرتباط بمساهمات أخرى حول موضوع ذلك النص، وتزامناً مع الواقع المتغير والوظيفة الإجتماعية المتغيرة دوماً للظواهر التي ينبغي دراستها من خلال حركتها المستمرة دوماً.

 

من بين تلك المقولات، تتميز مقولة "الدين أفيون الشعوب"، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، بشيوعها وحضورها الدائم. وقد أستخدمت هذه المقولة على الدوام ذريعةً لمحاربة الماركسية، من قبل التيارات السياسية المعادية للماركسية في بلداننا، بشكل واسع، بحيث لو جرى الإستفسار من أي شخص عادي بعيد عن الإهتمامات السياسية في هذه البلدان عن مقولة لماركس، لما تردد عن ذكر مقولة "الدين أفيون الشعوب" منسوباً الى ماركس.

 

وأدى شيوع هذه المقولة وإنتشارها الواسع الى تعامل الكثير من الماركسيين مع الظاهرة الدينية في مجتمعاتهم من خلال الكلمات الثلاث التي تتكون المقولة منها. وتبنى البعض الموقف السلبي من الظاهرة الدينية وتجلياتها السياسية بشكل عام من خلال الإلتزام بتلك المقولة، وإعتبارها "نصاُ مقدساً"، وخلاصةً لموقف ماركس من الدين والظواهر الدينية. في حين وجد آخرون نوعاً من التناقض بين هذا النص الذي اعتبروه مقدساً كغيره من مقولات ماركس، وبين واقع الحياة الإجتماعية وتأثير الظواهر الدينية على الأفراد، وبضمنهم اوساط الكادحين في مجتمعاتهم، وكيفية إستغلال خصومهم لتلك المقولة لعرقلة عملية التطور والتقدم الإجتماعي، من خلال إبعاد الكادحين عن الحزب الماركسي الذي يتبنى الدفاع عن مصالحهم الطبقية. وسعى هؤلاء الى حل هذا التناقض بين "النص المقدس"، وتأثيره على الواقع من خلال تحريم أو تجنب خوض النقاش حول هذه المسألة، لكي يبقى النص المقدس على حاله من جهة، ويتم مراعاة مقدسات الناس من خلال تجنب النقاش.

 

" الدين.... أفيون الشعب" كلمات منتقاة من نص مطول نسبياً لماركس في كتابه (مقدمة لنقد فلسفة الحق أو القانون عند هيجل). يقول ماركس:

 

" إن العذاب الديني هو تعبير عن العذاب الفعلي، وهو في الوقت ذاته احتجاج على هذا العذاب الفعلي. فالدين هو زفرة المخلوق المضطهد، وهو بمثابة القلب في عالم بلا قلب، والروح في أوضاع خلت من الروح. إنه أفيون الشعب".

 

إن قراءةً متأنية لهذا النص تظهر جملة أمور منها:

 

ـ استخدم ماركس في النص تعبير "أفيون الشعب"، بعكس تعبير "أفيون الشعوب" الشائع والمستخدم من قبل مريديه وخصومه في الوقت نفسه.

 

ـ ورد تعبير "أنه أفيون الشعب" في نهاية فقرة تتحدث عن الدور الإيجابي للدين على الفرد في مجتمع يكون الإنسان فيه مضطهداً. فإذا تعاملنا مع المفردتين في إطار النص الكامل والفقرة الواردة أعلاه، نجد أن ماركس لا ينتقص من دور الدين وتأثيره في تلك الفقرة. فماركس استخدم هذا التعبير في سياق إعتبار الدين تعويضاً للإنسان عن ما فقده بسبب إضطهاد المستغلين له في الحياة الإجتماعية. إنه يمثل عزاء نفسياً لإنسان مطحون معرض للظلم الإجتماعي في عالم بلا قلب و لا روح. الدين هو القلب والروح في عالم فُقِدَ فيه القلب والروح حسب تعبير ماركس. الدين هو زفرة المضطهدين في ذلك العالم، حتى يستمر في الحياة. أنه يمثابة الأفيون الذي يجعل ذلك الإنسان يحلم بالغد وبالأماني المتحققة في الأحلام. أنه يمثل الحلم بالعدالة على الأقل على صعيد الخيال بعد أن لم يجدها أو يحققها على أرض الواقع. وبالتالي فهو يحتاجه كعزاء نفسي لكي يستمر في الحياة.

 

والسؤال المثار هنا هو هل تعامل الماركسيون وخصومهم بهذا الفهم مع تلك المقولة؟

 

الجواب واضح بالطبع. فالشائع هو أن ماركس طلب من الناس الإبتعاد عن الدين لكونه مضراً، وبالشكل الذي يتطلبه الإبتعاد عن الأفيون المضر للإنسان!

 

أزعم أن التحليل السطحي لهذه المقولة الماركسية لا يشكل ضرراً في فهم منهج ماركس المعرفي فحسب، بل يشكل إنتهاكاً للأسس العلمية البحثية في التعامل مع النصوص وتحليلها. فالكلمات والجمل عندما تُنتَقى وتُجَزَأْ عن سياق الفقرة الكاملة، وإرتباطات تلك الفقرة بسابقاتها، تلحق ضرراً كبيراً بالمفاهيم المستنبطة، والأفكار المرادة التعبير عنها.

 

هناك أمثلة كثيرة وشائعة تثبت هذه الوجهة. ومنها إذا قرأنا في النص الديني آية " ولا تقربوا الصلاة "دون أن نتمم بقية النص " وأنتم سكارى" نكون أمام فهم مغاير للفكرة المطروحة في النص إذا قُرِأَ كاملاً.

 

قد يعترض البعض من معتنقي المنهج الديني على إيراد هذا المثل، وهو إعتراض مردود، لأن الحديث يتعلق ببنية النص وإضرار التجزئة والإنتقائية في إختيار المفردة، دون أن نتناول مسألة المقدس أو غيره من النصوص.

 

وأزعم أيضاً أن تجريد هذه الكلمات الثلاث عن مجرى الفقرة الكاملة التي يتحدث فيها ماركس عن ما يوفره الدين من عزاء نفسي وروحي للإنسان في مجتمع الإستغلال الرأسمالي في تلك الحقبة الزمنية التي كتب فيها ماركس هذا النص، أمر غير بعيد عن نوايا مقصودة ومُبَيَّتة ضد الفكر الماركسي من أجل تشويهه لكونه أداةً نضالية لمواجهة المستغِلين والطغاة، وشكَّل أرقاً حقيقياً يقض مضاجع أعداء التحرر. في حين يؤكد ماركس في تلك الفقرة على مساهمة الدين في تخفيف المعاناة الإنسانية، دون أن يكون بديلاً عن سعي الإنسان للإنعتاق كما هو واضح في منهج ماركس وكتاباته بشكل عام.

 

فماركس في الفقرة أعلاه يقدم تقريراً عن حالة موجودة ويحلل الجانب النفسي للإنسان المعرض لكل أنواع الإضطهاد في عالم ينعدم فيه الروح والقلب، دون أن يقصد من كلمة الأفيون وصف الدين بشكل مقرف، أو كحالة مؤدية الى الإدمان.

 

لا يتكامل فهمنا لموقف ماركس من الدين، ومن العقيدة الدينية، ومن الظاهرة الدينية، بمجرد تحليل الفقرة التي أشرنا إليها في بداية هذه المادة. وليس الغرض من تحليل الفقرة أعلاه الدعاية للماركسية أو طرح ماركس كفيلسوف "متدين". فماركس وكثيرون من فلاسفة عصره وقفوا في المسألة الأساسية في الفلسفة الموقف المبين والداعي لأولوية المادة على الفكر. وقد سبق أن كان هذا الموقف موجوداً قبل ماركس. واستمر عند الكثير من الفلاسفة بعد ماركس. وقد وجد عدد من الفلاسفة الماديين في الفلسفة العربية الإسلامية ( وهنا استخدم مصطلح الفلسفة العربية الإسلامية بمعناه الفكري الحضاري، وليس بمعناه العقائدي الديني).

 

وفي الفلسفة الأوروبية يمكن ذكر أسماء عديدة من الفلاسفة الماديين قبل ماركس وبعد ماركس، ومنهم: ديدرو، لامتري، فيورباخ، هايدغر، سارتر ..الخ. وقد جرى تقديم هؤلاء الفلاسفة والمفكرين في مجتمعاتنا بعيداً عن موقفهم المناوئ للدين بشكل عام. كما تجرى ترجمة ودراسة نتاجاتهم الفكرية في الصحف والمجلات دون أن يشكل موقفهم من الدين حاجزاً أمام نشر نتاجاتهم.

 

لم يكن تقديم ماركس في مجتمعاتنا للجمهور كمناهض للدين بشكل عام، نابع عن كونه فيلسوفاً مادياً، بل أخذ معادو الماركسية في بلداننا يقدمون ماركس بهذه الشاكلة للجمهور بناءاً على إعتبارات أخرى، أهمها ما يُمَثِّلُ فكر ماركس من تهديد لمصالح الطغاة والمستغِلين، وطرحه للصراع الطبقي كمحرك للتاريخ وتحول الماركسية الى أداة للنضال الوطني والطبقي، وإجراء التغييرات الإجتماعية في مجتمعاتنا، بما يضمن مصالح الكادحين، وطرح فكرة الإشتراكية وأسسها العامة كبديل للرأسمالية وشرورها. وهكذا شكلت الماركسية، ولا تزال، على الصعيد الفكري، التهديد الأساسي للمستغِلين بلبوسهم وعناوينهم المختلفة التي تبرر الطغيان والإستبداد السياسي والقهر الروحي والإستغلال الإقتصادي والتخلف الإجتماعي والظلامية الشاملة.

 

وقد سعت القوى المعادية للماركسية الى خلق هوة بين جمهور المتدينيين من جهة والماركسيين من جهة أخرى، لا من منطلق فهم ماركس للدين وللعقيدة الدينية، بل لما تشكله الماركسية بشكل عام من مخاطر على المصالح الطبقية والسياسية لتلك القوى.

 

وإذا كان موقف هذه القوى الطبقية من طرح ماركس كعدو رئيسي للدين معروفة الدوافع والنوايا كما بيَّنا في الفقرات أعلاه، إلاّ أن الموقف الملتبس للكثيرين من المحسوبين على قوى التقدم، مِمَّن يكررون عبارة "الدين أفيون الشعوب"، بدون التمعن في معناها ضمن السياق الوارد في العبارة بمجملها، وبالتالي يستنتجون ضرورة العمل وفق فهمهم القاصر، ويعتبرون العبارة خلاصة موقف ماركس من الدين ومن الظاهرة الدينية التي تتسم بالتعقيد الكبير تاريخياً في مجتمعاتنا، أمرٌ يدعو الى التوقف الجاد والتصدي الفكري عبر دراسة الظاهرة الدينية بكل تعقيداته، لأن الإبتعاد عن التحليل العميق والدراسة المتأنية المبنية على أساس إرتباط الفكر بالواقع، من شأنه تعميق الهوة بين جمهور المتدينيين الذين يتطلعون الى تحسين أوضاعهم الحياتية المختلفة، ويشكلون نسبةً كبيرة من الكادحين، وبين الماركسيين وحزبهم السياسي الذي يفترض ان يعبر عن مصالح الكادحين ويوحِد كلمتهم النضالية.

 

تشكل علاقة الفكر بالواقع، عل أساس ارتباط الأول بالثاني ديالكتيكياً، وما ينعكس على علاقة النص بالواقع، كونه نتاجاً للواقع الإجتماعي، أساساً لمنهج ماركس الجدلي في فهم التاريخ. وإذا تعاملنا وفق هذا المنهج من النصوص والمقولات، ومن ضمنها مقولات ماركس نفسه من الضروري رفع القدسية عن النصوص وعدم التعامل معها ضمن وضعها في دائرة المطلق.

 

تعامل عدد من المفكرين في مجال الفكر الإسلامي، وقبل وجود الماركسية، وعبر العصور التاريخية المختلفة، إنطلاقاً من الضرورات الإجتماعية، بدءاً من القرن الأول الهجري، بشكل مرن مع النص المقدس في ظل الفكر الديني السائد والمهيمن على مجالات الحياة الإجتماعية. واستطاع هؤلاء ضمن الآليات المنتجة في الفكر الديني السائد، رغم نزعة الإطلاق السائدة فيه، إيجاد نوع من العلاقة بين النص والواقع وتطويع الأول لخدمة الثاني المتغير على الدوام، وفق منهجية تعطي إهتماماً لحاجات الناس ومتطلبات الحياة الأجتماعية غير المتناهية في ظل وجود نصوص متناهية.

 

هذه المنهجية التي انتبه الفكر الديني المتنور لها، وسعى إلى ديمومتها في مراحل تاريخية مختلفة، لم تجد ما يوازيها على الأقل في منهجية بعض أحزاب اليسار والأحزاب الشيوعية في قراءاتهم لنصوص ومقولات ماركس، في حين كان يتوجب عليهم أن يتعاملوا مع نصوص ماركس وفق منهجيته الديالكتيكية.

 

وفي المحصلة النهائية حمل بعض أحزاب الماركسيين "الأرثودوكسيين" بطاقات التكفير بوجه المحاولات الرامية الى إعادة قراءة الماركسية وفق منهج تجديدي، هو منهج ماركس نفسه. وبذلك استخدموا نفس التابو المستخدم من قبل أحزاب التطرف الإسلامي ضد أفكار ماركس ومنهجيته العلمية، إلاّ أن أصحابنا يستخدمون هذا التابو من مواقع "ماركسية" !

 

إذا تعاملنا وفق أسس منهجية ماركس في فهمه لعلاقة الفكر بالواقع، مع موقف ماركس من الدين ومن العقيدة الدينية، لا بد أن نقول بأن ما كتبه ماركس حول هذا الموضوع وما توصل إليه من إستنتاجات، لم ينزل عليه بشكل وحي في غرفة منعزلة. لقد عاش ماركس الحياة بكل تفاصيلها. وتعتبر طروحاته حول الدِين نتاجاً لتجربته الشخصية، وهي تجربة مثقف في مجتمع أوروبي في حقبة تاريخية محددة، سادت فيها قيم وتراث اليهودية والمسيحية بإرتباطهما الوثيق، وتأثير تلك القيم على الحياة الاجتماعية، وتحديدها للسلوك البشري في تلك الحقبة. وأعلن ماركس في تلك تقاطعه ورفضه لتلك القيم السائدة، بسبب الدور والوظيفة الإجتماعية للدين في تلك المرحلة. لقد تناول ماركس الظاهرة الدينية داخل إطار التاريخ البشري وضمن تأثيرات الفعل البشري. ففي رسالته حول المسألة اليهودية يشير ماركس إلى الأساس الدنيوي لليهودية المتمثل في الحاجة العملية والسعي الى تحقيق المصلحة الذاتية، ويقول: "إن المال هو الإله الغيور لإسرائيل، الذي لا يمكن أن يوجد إله قبله. والحق أن المال ليحط من قدر كل ألهة البشر. ويحيلهم إلى سلع.."

 

أن جوهر المصالح الدينية المستمدة من النصوص الدينية تتجسد في المصالح الدنيوية لمعتنقيها، حسب فهم ماركس. وهذا الإستنتاج لا يزال يحتفظ بصحته. فالمتشددون والمتطرفون الإسرائيليون يستخدمون كل مفردات العهدين القديم والجديد لتبرير دوام الإحتلال الإسرائيلي. ويستخدم المتطرفون الإسلاميون آيات القرآن لتبرير حز الرقاب وتفخيخ البشر والقتل العشوائي، من اجل السلطة.

 

وقف ماركس ضد سلطة الكنيسة ومحاكم تفتيشها وأفرانها الحارقة لأجساد المفكرين المتنورين. ففي ظل سلطة الكنيسة استشهد (جوردانو بردنو) لإيمانه بدوران الأرض حول الشمس. وتعرض مفكرون من أمثال (غاليلو، ديكارت، سبينوزا، بيكون، هوبز) وغيرهم للإضطهاد. هذه اللوحة التي تبيّن الدور القمعي للكنيسة لم تستطع حتى حركة الإصلاح الديني (مارتن لوثر) من تجاوزها، حيث وقفت هذه الحركة الى جانب قمع ثورة الفلاحين عام 1626 بشكل وحشي، وانتهت تلك الثورة بمجزرة بشرية رهيبة.

 

هذه الخلفية التاريخية لسلطة الكنيسة في أوروبا وتلك الممارسات الدموية دفعت أعداد كبيرة من المثقفين والمفكرين إلى معاداة الفكر الديني المتجسد في السلطة المطلقة للكنيسة. ويمكن القول أن الحركة المعادية للدين وللفكر الديني في أوروبا والتي تطورت الى مفهوم الإلحاد، لم تكن نتاجاً للفكر الإشتراكي، بل أن العديد من المفكرين المعادين للفكر الديني، وأنظمتها المعادية لغالبية الشعب، لم يكونوا مؤمنين بالمادية الديالكتيكية أو بالمادية التاريخية. إلاً أن أعداء الفكر الإشتراكي في بلداننا اليوم يعتبرون الحركة المعادية للدين وللفكر الديني نتاج الفكر الإشتراكي.

 

حملت اللوحة المتعلقة بالوظيفة الإجتماعية السياسية للدين وللفكر الديني في المجتمعات العربية الإسلامية في العصور التاريخية المختلفة نوعاً من الإزدواجية الوظيفية. فالسلطات الحاكمة وجدت "مشروعيتها" في الحكم وقمع المقابل في نصوص سائدة في الفكر الديني. كما أوجدت التطورات الإجتماعية نصوصاً تفسيرية للنصوص التي إعتبرت مقدسة وثابتة، أفضت مصالح السلطة نوعاً من التقديس على تلك النصوص التفسيرية وآراء المفكرين المسلمين، لاتقل عن القدسية الملازمة للنصوص الواردة في القرآن أو الأحاديث المنسوية الى النبي.

 

واستطاعت السلطات في الدول الإسلامية، في أدوار تاريخية كثيرة، قبل نشوء الفكر القومي أو الفكر الإشتراكي، سحق المعارضة والتنكيل برموزها التي استمدت مشروعيتها في معارضة السلطة من الفكر الديني السائد أيضاً، من خلال سلطة التبرير الديني التي وفرها فقهاء ومفكرو السلطة للحكام المسلمين. لذا شهدت العصور الأسلامية محاكمات صورية دينية جرت فيها تصفية رموز القدرية كغيلان الدمشقي وعمرو المقصوص، كما جرى تقديم المعارضين كذبائح في عيد الأضحى من قبل الولاة الجائرين، وحُرِقَ البعض بتهمة الزندقة. ولكن، وفي نفس الوقت، استمدت حركات المعارضة للسلطة الجائرة، في تلك العهود التاريخية، مشروعيتها من الفكر الديني ومن النصوص التي اعتبرت مقدسة عند جميع المسلمين، ومن التفسير والتأويل اللاحق لتلك النصوص. وهنا تكمن الطبيعة الإزدواجية لوظيفة الفكر الديني. ولذا لا يمكن أن نضع الدور الفكري والسياسي الذي لعبته القدرية والمعتزلة كأيديولوجية دينية للمعارضة في المجتمع الإسلامي بموازاة أدوار الجبرية والأشاعرة التي كانت ايديولوجية السلطات الحاكمة بشكل أو آخر، رغم تحرك كل الأطراف في إطار الفكر الديني بشكل عام. لقد أصبح الفكر الديني الغطاء المعبر عن الصراع بين مصالح سياسية وحياتية ويومية متباينة في المجتمع الإسلامي.

 

وإذا كان الحديث في هذه النقطة يتعلق بتوظيف الفكر الديني كأيديولوجية سياسية، فإن الأمر لا يتعارض مع حقيقة مساهمة الظاهرة الدينية في المجتمع في خلق الفكر الديني عبر توظيفه للتعبير عن المصالح السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتباينة.

 

يتميز الدور الإجتماعي للدين في بلداننا بمميزات في غاية التعقيد، لذا يصعب الحكم على هذا الدور دوماً بالأبيض أوالأسود، دون تحليل عميق لكافة مظاهر هذا الدور وأطروحات القوى المكونة للتيارات الدينية, فالماركسيون واليساريون في بلداننا يجب أن يدركوا بأنهم لا يتعاملون مع الدين أو الظاهرة الدينية في نفس العصر الذي كتب فيه ماركس تحليلاته عن الوظيفة الإجتماعية والدور الذي يلعبه الدين في المجتمع. ففي بلداننا وبسبب طبيعة وتائر النمو الإقتصادي والتطور الإجتماعي، يختلط الدين بالتراث وبالثقافة السائدة. ويجد دوره، بشكل أو آخر، في الحياة السياسية من خلال الفكر الديني. وعليه ينبغي التمييز بين الدين كمعطى ثقافي وحضاري وتراثي، وكحاجات روحية للأفراد بشكل عام من جهة، وبين الفكر الديني من جهة أخرى، الذي يطرح نموذجاً ومثالاً سياسياً للسلطة، وفي مجال تأطير المجتمع بغية تقَبُّل تلك السلطة.وهذا ما نطلق عليه مصطلح الدين السياسي، المصطلح المرفوض من قبل القوى السياسية الدينية، لأنه يحد من سطوتها على جمهور المتدينيين، ويقلل من تأثيرها ومساعيها الرامية إلى تهيئة المجتمع لتقبل بديل سياسي يستمد قوته من الفكر والإيديولوجية الدينية، ويولِّد روحية الإذعان والوحدانية الفكرية المستبدة.

 

ومن الناحية العملية، ومن خلال تجربة العمل السياسي في بلداننا، نجد أن هناك جمهوراً كبيراً من المتدينيين يستمدون من الدين مبادئ العدالة والخير، وينخرطون في العمل السياسي والنضال الوطني الديمقراطي، دون أن يدعوا الى نموذج سياسي مبني على أساس الإيديولوجية الدينية، ودون أن يطالبوا بدولة الخلافة أو الإمامة، رغم كونهم متدينيين. ومن ضمن هذا الجمهور نجد رجال الدين المتنورين الذين يجدون توافقاً فكرياً في دعوتهم للإصلاح الديني، وإنخراطهم في العمل السياسي داخل أحزاب وطنية ديمقراطية كالحزب الشيوعي، الذي انخرط في صفوفه شخصيات دينية مرموقة مثل الشيخ عبدالكريم الماشطة، والشيخ محمد الشبيبي، وغيرهما كثير. وكذلك انخرط غالبية الفلاحين العراقيين، وهم متدينون، في النضال الذي حمل شعارات الحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة 14 تموز 1958، وبعدها، في التصدي لمظالم الحكم، والنضال من أجل الإستقلال الوطني الناجز والحريات الديمقراطية، وموقفه الحازم من موضوع الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين، وغيرها من المطالب الشعبية.

 

من جانب آخر تتحرك قوى الإسلام السياسي في مجتمعاتنا على جمهور المتدينين، وتعتبر هذا الجمهور ملكاً خاصاً بها، بل وتجعل معيار تديين الأفراد في مدى دعمهم للمشروع الساسي المطروح من قبل تلك القوى.

 

أن فهماً متجدداً لكافة جوانب الظاهرة الدينية في مجتمعاتنا، عامل أساسي لكسب جمهور المتدينين الذين يشاركوننا الهم الوطني والحاجة الى الحريات الديمقراطية، وضرورة تحسين أوضاعنا الإقتصادية. وبالتالي فأن الأحزاب الوطنية والديمقراطية العراقية ومن ضمنها الحزب الشيوعي العراقي تُعتبر ميداناً نضالياً لأوساط الكادحين العراقيين بمن في ذلك جمهور المتدينين الذين لا يجدون تناقضاً بين قناعاتهم الدينية وإقامتهم للشعائر الدينية، وبين إنتمائهم للحزب الشيوعي.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.