منوعات عامة

حصاد 2016 السينمائي: العرب في المهرجانات العالمية

 

بي بي سي

يشكل عدد من المهرجانات السينمائية الدولية البارزة نقطة استقطاب لأبرز الانتاجات السينمائية خلال العام، ويمكن عبر رصدها استخلاص أبرز الاتجاهات السينمائية فيه وأبرز ممثليها.

وفي وداع عام 2016 سنلجأ إلى رصد أبرز انتاجات السينما العربية التي استطاعت الدخول إلى هذه المهرجانات (من امثال كان وفينيسيا وبرلين وغيرهم)، وتنافس بعضها على الفوز في بعض جوائزها. إذ تشكل مثل هذه الافلام النموذج الأبرز عادة الذي ينجح في تمثيل النتاج السينمائي لهذه البلدان في المحافل العالمية.

وقد حقق المخرجون العرب حضورا جيدا نسبيا في مهرجانات هذا العام السينمائية الدولية بالمقارنة مع أعوام سابقة، إذ حققت السينما التونسية انجازا غير مسبوق في تاريخ السينمات العربية عبر الفوز بأربع جوائز في مهرجانات عالمية كبرى خلال عام واحد، كما حصل بعضهم على ترشيح نادر للقائمة القصيرة في جوائز الاوسكار.

فاتحة مميزة

ففي حفل الأوسكار الذي اقيم مطلع العام، حقق فيلم "ذيب" للمخرج الأردني - البريطاني ناجي أبو نوار انجازا في الوصول إلى القائمة القصيرة (خمسة أفلام) المرشحة لنيل جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وقد نجح أبو نوار والمنتج البريطاني روبرت لويد أيضا في قطف جائزة العمل الأول في جوائز البافتا البريطانية للعام نفسه.

كما رشح ايضا فيلم المخرج الفلسطيني باسل خليل "السلام عليك يا مريم" ضمن القائمة القصيرة لأفضل فيلم قصير وهو انتاج مشترك مع ألمانيا وفرنسا.

وشكل ذلك بالفعل فاتحة مميزة لهذا العام بعد أن ظلت قوائم ترشيحات الأوسكار تخلو من مخرجين عرب أو من انتاج عربي لوقت طويل، ولم يصل سوى عدد محدود من الأفلام التي كان لبعض الدول العربية دور في انتاجها، كما هي الحال مع الجزائر في فيلمي "زد" للمخرج كوستا غافراس، والحفل للمخرج الايطالي ايتورا سكولا، أو ترشحت أفلام فرنسية لمخرجين من أصول عربية أمثال رشيد بو شارب من الجزائر وعبد الرحمن سيساكو من موريتانيا، والاستثناء كان مع المخرج الفلسطيني هاني أبو اسعد الذي ترشح للجائزة مرتين عن فيلمي "الجنة الآن" و "عمر".

و قد نجح أبو نوار ومدير تصويره فولفغانغ تاله في استثمار جماليات البيئة الصحراوية في البادية، وطبيعة وادي رم المميزة، لاسيما تلك التلال والمرتفعات الحجرية فيها، ويعكسها عبر لقطات عامة غنية عبرت عن أزمة الشخصيات وعزلتها ضمن بيئة قاسية.

وهي البيئة ذاتها (وادي رم قرب موقع البتراء التاريخي الشهير) التي صور فيها قبل أكثر من نصف قرن المخرج ديفيد لين أجزاء من فيلمه "لورانس العرب" وأبدع فيها مدير تصويره فريدي يونغ في تقديم مشاهد بانورامية ساحرة للبيئة الصحراوية في هذا الفيلم الملحمي الخالد.

وقد قدم ابو نوار فيلم تشويق ومغامرة بدا أقرب إلى فيلم من أفلام الغرب الأمريكي "الويسترن" منفذ في بيئة بدوية، تتركز أحداثه على الصبي، ذيب، الذي يصبح وحيدا بعد أن يقتل لصوص أخاه وضابطا انجليزيا برفقته، كان يريد ايصال معدات إلى البدو الثوار ابان الثورة العربية في عام 1916، ويظل الصبي وحده مع أحد اللصوص في علاقة كر وفر تنتهي بالقبول بالعيش معا في الطبيعة القاسية و البيئة المقفرة، فتنضج هذه التجربة فيه رجولة مبكرة، وتبعث فيه شجاعة لمواجهة قسوة الموقف والطبيعة.

انجاز السينما التونسية

قطف الممثل التونسي مجد مستورة جائزة الدب الفضي التي تمنح لأفضل ممثل في مهرجان برلين السينمائي هذا العام

وحققت السينما التونسية انجازا غير مسبوق بعد أن قطف بعض مخرجيها ثلاث جوائز في مهرجاني برلين وفينيسيا السينمائيين،إذ نجح فيلم المخرج التونسي محمد بن عطية "نحبك هادي" في أن يحصد جائزتين في مهرجان برلين السينمائي الدولي، هما جائزة الدب الفضي التي تمنح لأفضل ممثل، والتي ذهبت إلى الممثل التونسي مجد مستورة عن دوره في هذا الفيلم، كما توج مخرجه بجائزة أفضل عمل أول.

وتوج فيلم المخرج علاء الدين سليم "آخر واحد فينا" بجائزة أسد المستقبل التي تمنح لأفضل فيلم أول، في الدورة الـ 73 من مهرجان فينيسيا السينمائي، كما حصل لاحقا في بلاده على جائزة التانيت الذهبي للعمل الأول للأفلام الطويلة في مسابقة جائزة الطاهر شريعة في مهرجان أيام قرطاج السينمائية في العام نفسه.

وحصل فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية الوثائقي الطويل "زينب تكره الثلج" على الجائزة الرابعة، وهي جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان مونبلييه لسينما البحر المتوسط، فضلا عن حصوله على جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج الاخير.

حققت السينما التونسية انجازا غير مسبوق في تاريخ السينمات العربية عبر الفوز بأربع جوائز في مهرجانات عالمية كبرى خلال عام واحد

وتوجت جائزتا بن عطية في مطلع هذا العام عودة السينما العربية للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، بعد غياب نحو عشرين عام، وحضورا غير مسبوق لها في المهرجان بـ 19 فيلما بين الروائي والوثائقي الطويل والأفلام القصيرة، ومن أبرزها: فيلم المخرج المصري تامر السعيد "آخر أيام المدينة" الذي عرض في تظاهرة "المنتدى" (الفوروم) إلى جانب ثلاثة أفلام وثائقية هي فيلم المخرجة الفلسطينية جومانا مناع "مادة سحرية تسري في داخلي" (وهو انتاج مشترك مع بريطانيا والامارات) والفيلم اللبناني "مخدومين" لماهرأبو سمرا عن الخادمات في المنازل ونظرة المجتمع اللبناني اليهن، والفيلم السوري "منازل بلا أبواب" لأفو كابريليان (مشترك مع لبنان).عن حياة الأرمن ومعاناتهم في حلب.

كما عرض في تظاهرة "بانوراما" في المهرجان نفسه الفيلم الروائي السعودي "بركة يقابل بركة" للمخرج محمودالصباغ (عرض ايضا في مهرجاني لندن وتورونتو أيضا)، وفيلم المخرج المغربي هشام العسري "جوع كلبك".

ولاشك أن مناخ التعاطف و تسليط الضوء ومحاولة فهم ما يجري في المنطقة العربية بعد التحولات الكبرى التي شهدتها في ما يسمى بالربيع العربي، فرضت نفسها على هذه المهرجانات واختياراتها.

وقد يعود بعض نجاح فيلم "بحبك هادي" إلى مناخ التعاطف هذا على الرغم من أنه لم يتناول بشكل مباشر أحداث الربيع العربي في تونس البلاد التي شهدت انطلاقة الربيع العربي، بل قدم مسحة نقد اجتماعي خفيفة مع قصة هادي الذي يعمل مندوبا للمبيعات لشركة سيارات، ويخضع لسلطة والدته القوية التي تحاول تزويجه بطريقة تقليدية من فتاة لا يحبها، وترسل في طلب اخيه العامل في فرنسا لترتيب إجراءات الزواج، بيد أن عالم هادي يتغير كليا بعد تعرفه على (ريم) فتاة تعمل في مجال السياحة، وتعيش متنقلة وتقدم فقرات ترفيهية راقصة للسواح، ويخرج عن سلبيته وخضوعه في النهاية ليتخذ قرارا، حتى لو كان برفضه السفر مع ريم إلى أوروبا، وبقائه في عالمه الذي لم يعد نفسه بعد هذه التجربة.

يقدم بن عطية فيلما بسيطا بكل معنى الكلمة في تقنياته وفي اقتصاده في حركات الكاميرا وفي مقاربة موضوعته بلمسة إنسانية تذكر بأسلوب المخرجين البلجيكيين الأخوين درادن، الذين اشتركا في انتاج الفيلم، وان افتقد إلى ذاك العمق الذي تحفل به أفلامهما، كما بدا في علاقته بالواقع المحلي الذي يتناوله أقرب الى الانسجام مع المنظورات الغربية التي تركز على ثقل التقاليد الاجتماعية وسحقها للانسان في مثل هذه المجتمعات، مع مسحة من الجرأة في المشاهد الجنسية بالقياس بالأفلام العربية الأخرى.

وقد بدا بالنسبة للبعض مبالغا في تجاوز بعض الاشتراطات الواقعية في الواقع التونسي، كأن نرى البطل وهو بوظيفة مندوب مبيعات يقضي أيامه مقيما في فندق فخم.

ما يحسب لبن عطية هو عنايته بأداء الممثل وقدرته على استخلاص أداء مميز من ممثليه لا سيما الممثل الرئيس مجد مستورة والممثلة صباح بو زيد في دور الأم، وعنايته بالجانب النفسي للشخصيات لاسيما بطله المأزوم هادي والتحولات في شخصيته بعد قصة الحب التي عاشها.

وقدم علاء الدين سليم فيلما مغرقا في التجريد في موضوعته أو لغته السينمائية، فما بدا في البداية قصة شاب من جنوب الصحراء الأفريقية يحاول الهجرة والوصول إلى الشواطئ الأوروبية، استحال إلى فيلم عن العزلة والاغتراب وعودة الإنسان إلى اصله البدائي في العيش في الغابة، عندما يضيع بطله ويصل الى غابة في جزيرة لا يسكنها سوى عجوز اعتاد العيش منفردا في هذه الغابة، مثل انسان بدائي درب حواسه على معركة البقاء في بيئتها القاسية، ليصبح في النهاية صورة أخرى له بعد موت هذا العجوز.

يفتح علاء سليم بتجريده هذا الباب لتأويلات فلسفية متعددة عن الوجود والإنسان والاغتراب ومآل الحياة المعاصرة، بلغة بصرية خالصة حيدت الكلام إلى أقصى حد، حتى في المشاهد الأولى داخل المدينة التي يطغى فيها استخدام المؤثرات الصوتية على الحوار، واعتمد بدلا من ذلك على الايحاء والاشارة والعيون وحركات الجسد لاسيما في مشاهد الغابة.

ومع فقر امكانياته الانتاجية، التي حدت كثيرا من قدرته على تقديم مشاهد بصرية عالية التكوين، نجح سليم في تقديم مشاهد على قدر واضح من الجمال والاتقان التصويري واستثمار الانارة الطبيعية.

وشارك فى مسابقة آفاق للأفلام القصيرة مهرجان فينيسيا فيلم روائى قصير للمخرجة درية عاشور "ما يبقى هو عمل الإنسان" ويتفق مع الفيلمين السابقين في تناول موضوعة الهجرة عبر حكاية اخ واخته المقيمه في فرنسا التي لم يرها منذ عشرين عاما.

كما عرض في تظاهرة أيام المخرجين" على هامش المهرجان نفسه فيلم المخرجة التونسية ليلى بوزيد، ابنه المخرج المعروف نوري بو زيد، "على حلة عيني"، على الرغم من أنه من انتاج العام الماضي.

وتنافس الفيلم التونسي القصير "علوش" للمخرج لطفي عاشور مسابقة الافلام القصيرة لمهرجان كان السينمائي.

السينما المصرية وآخر أيام المدينة

حرم فيلم "آخر ايام المدينة" من العرض في مهرجان المدينة التي صنع عنها، القاهرة، بحجة مشاركته في مهرجانات أخرى.

وتمثلت السينما المصرية، الصناعة السينمائية الأعرق والأكبر في المنطقة العربية، بعدد من الأفلام أبرزها فيلم "آخر ايام المدينة" لتامر السعيد وفيلم "اشتباك" لمحمد دياب و"والماء والخضرة والوجه الحسن" ليسري نصر الله، و "يوم للستات" لكامله ابو ذكرى و"اخضر يابس" لمحمد حماد.

ونتوقف هنا عند فيلم "آخر ايام المدينة" الذي نرى أنه يمثل أحد أبرز انتاجات السينما العربية في هذا العام، وأكثرها تعبيرا عن أزمة الواقع العربي، ونرى أنه ظلم كثيرا على الرغم من عرضه في عدد من المهرجانات العالمية ومن بينها لندن وبرلين، حينما حرم من العرض في مهرجان المدينة التي صنع عنها، اعني القاهرة، بحجة مشاركته في مهرجانات أخرى.

وقد توج الفيلم، الذي لقى قبولا نقديا جيدا في مهرجانات برلين ولندن، لاحقا بالجائزة الكبرى في مهرجان نانت للقارات الثلاث الثامن والثلاثين في فرنسا.

واستحال فيلم السعيد من فيلم طويل عن الحزن (عنوانه الأول) إلى مرثية للمدينة العربية عموما، صنعت باتقان واخلاص وحميمية وبحث جمالي دؤوب عبر فريق عمل وصحبة أصدقاء توزعوا على ثلاث مدن عربية: القاهرة وبغداد وبيروت، فضلا عن مدينة أوروبية كانت محطة اساسية للهجرة هي برلين، فلم تعد تفرق بين عملهم الفني او حياتهم خارجه انهما يتداخلان بشكل كامل ويكون الفن جزءا من هذه الحياة وتعبيرا عنها في نفس الوقت، فلسنا أمام سيناريو فيلم محبوك بل يوميات لشخصيات وثقت على مدى سنوات في أماكن مختلفة وتتبادل المواقع فيما بينها عبر شخصايتها المأزومة جميعا بمصير مدنها وهو الخيط الذي تنتظم حوله تفاصيلها.

وفي مناخ التحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة، وتعثر مسار الحداثة ووعوده الكبرى في القرن العشرين مع أزمة الدولة الوطنية فيها، أمسك السعيد وأصدقاؤه بنسغ صاعد من عمق تراث منطقتهم أعني به "رثاء المدن" الذي شكل منذ حضارات المنطقة الأولى، والسومرية منها على وجه الخصوص، "جنرة أدبية" انعكست لاحقا ايضا في سياق فن الثقافة العربية الاساسي؛ الشعر، وعكسوه بما يتناسب مع الوسيط الجديد الذي يعبرون عن انفسهم فيه؛ السينما. فكنا ازاء نتاج جيل يغرق في النوستالجيا إلى مدينة لم يعشها لكنه يشهد بقوة ووضوح تداعيها.

ينجح السعيد في أن يجعل من أزمة بطله المخرج السينمائي الشاب خالد (الممثل خالد عبد الله) حكاية إطارية تضم إلى جانبها حكايات أصدقائه في المدن الأخرى التي تصبح القاهرة نقطة استقطابهم. فيجد خالد العاشق لمدينته والمأزوم بها صورا اخرى وتنويعات على حكايته في حكايات اصدقائه، والذي يجمع بينهم عالم يتداعى أمام انظارهم، ومستقبل يتسرب من بين أيديهم من دون أن يمتلكوا القدرة على تغيير مآله.

نرى حيرة خالد الباحث عن موضوعة لفيلمه وهو في أيامه الاخيرة في منزل ذكرياته يتنقل مع سمسار من شقة إلى أخرى بما يكشف عن حجم التغير والارتداد الحاصل في المدينة، أو يقضي بعض وقته مع أمه في المستشفى التي يقضم المرض ببطء ما تبقى لها، أوحبيبة تتلاشى علاقته معها مع اختيارها الهجرة، ونراه يغرق في النوستالجيا مع الصديقة الاسكندرانية (الممثلة حنان يوسف) في ذكرياتها عن مدينتها، أو في بحثه عن ذكريات والده وعمله في الإذاعة وعودته إلى المذيعة "أبله فضيلة" التي يتذكرها في طفولته لكنها لم تعد تتذكر الكثير عن تلك الأيام. أو يتقاسم الألم مع البنت المصدومة برحيل والدها في حريق مسرح بني سويف (مريم صالح).

قطف فيلم المخرج تامر السعيد الجائزة الكبرى في مهرجان نانت للقارات الثلاث الثامن والثلاثين في فرنسا

كل تلك الحكايات تدور مع دوران البطل وحيرته في مدينة القاهرة الكبيرة بتاريخها وسعتها وسكانها وتنوعها، وبكل ضجيجها وزحمتها واختناقها، وتجد لها مرايا عاكسه في مصائر أصدقائه الذين يزورونها. لقد اختار السعيد هنا بذكاء أن يقدم شكلا ملحميا مضادا (اذا جاز لي التعبير) في وصف المآل التراجيدي لمدن عظيمة في حكايات إنسانية بسيطة حزينة، لا يشذ منه سوى مصير صديقه حسن المخرج العراقي في الفيلم (حيدر الحلو) وهو الانعكاس التراجيدي الملحمي لشخصية خالد، والذي تصبح حكايته في النهاية خيطا أساسيا يقود السرد في الفيلم إلى نهايته، فحسن العاشق لمدينته(بغداد) والمأزوم بها مثل خالد، يصر على العودة إليها رغم طوفان العنف المهيمن عليها، ولا تنفع محاولات ضده طارق (باسم حجار) المهاجر إلى برلين في اقناعه بالهجرة وثنيه عن العودة الى مدينته، حتى يصبح مصيره التراجيدي بمقتله في انفجار خاتمة لهذا الفيلم المرثية.

ولا ينسى الفيلم أن يقدم لنا صورة أخرى في مراياه العاكسة تلك لبيروت مع المصور اللبناني (باسم فياض) المولع بالصور لكنه غير قادر على تصوير مدينته التي يرى أنها مزوقة وزائفة ويصور البحر بدلا عنها، وهو نفسه مصور فيلم "آخر أيام المدينة" الذي نجح بالفعل في أن يكون قصيدة رثاء بصرية للمدينة العربية (سنتاول جمالياته تفصيليا في مقال لاحق).

وإذا كان "آخر ايام المدينة" تجنب التناول المباشر لأحداث الثورة المصرية واختار رصد ارهاصاتها والمرحلة التي سبقتها، فأن محمد دياب في "فيلمه" اشتباك اختار أكثر لحظاتها توترا والتباسا، وهي اللحظة التي اعقبت إطاحة الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي، والانقسام الذي عاشه المجتمع المصري في سياق المظاهرات والاحتجاجات والعنف الذي رافقها.

استحال فيلم السعيد من فيلم طويل عن الحزن (عنوانه الأول) إلى مرثية للمدينة العربية عموما، صنعت باتقان واخلاص وحميمية وبحث جمالي دؤوب عبر فريق عمل وصحبة أصدقاء توزعوا على ثلاث مدن عربية: القاهرة وبغداد وبيروت، فضلا عن مدينة أوروبية كانت محطة اساسية للهجرة هي برلين، فلم تعد تفرق بين عملهم الفني او حياتهم خارجه انهما يتداخلان بشكل كامل ويكون الفن جزءا من هذه الحياة وتعبيرا عنها في نفس الوقت

وقد أثار الفيلم الذي عرض في افتتاح تظاهرة "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي، وفي المسابقة الرسمية في مهرجان لندن السينمائي، الكثير من الجدل وكأنه امتداد لذاك الجدل داخل الفيلم بين المؤيدين لنظام مرسي والمعارضين له الذين جمعهم كمعتقلين في مكان مغلق هو عربة ترحيلات وسط طوفان من العنف والاحتجاجات في الخارج.

ولا ننسى هنا أن ننوه باختيار الممثلة المصرية نيللي كريم لعضوية لجنة تحكيم تظاهرة آفاق في الدورة 73 لمهرجان فينيسيا السينمائي التي غابت أفلام السينما المصرية عن التمثيل في مسابقتها الرسمية أو اقسامها الاخرى. وباتت كريم أول ممثلة مصرية تشارك في لجنة تحكيم هذا المهرجان العريق.

السينما السورية وحضور الوثيقة

وغلبت الوثيقة على الانتاج السينمائي الروائي في تمثيل السينما السورية التي غاب مخرجوها المعروفون عن المهرجانات العالمية وحضر آخرون، صحفيون أو سينمائيون هواة صوروا مادة وثائقية خاما وعملوا عليها في الغالب مع مخرجين أجانب، حيث فرضت الحرب الأهلية ودوامة العنف الدائرة في البلاد اشتراطاتها على مخرجي السينما الذين يصعب العمل عليهم في ظل هذه الظروف. فغاب الفيلم وحضرت الوثيقة التي تلتقط وتسجل بعضا من وقائع هذه الحرب.

وقدم المصور السوري عيسى توما وثيقة حية عن الأيام الأولى للانتفاضة السورية رصدها من نافذة منزله في حلب، وكشف كيف أتى مسلحون متشددون ليهيمنوا على الشارع الذي خرج إليه في البداية الشباب المحتجون، توجت بمنحها جاهزة الفيلم القصير في مهرجان لندن السينمائي.

وقد دخل الفيلم في المسابقة كاخراج مشترك مع المونتيرين الهولنديين توماس فروغ وفان دي مولين الذين شاركا توما العمل على وثيقته.

وكذلك الحال مع فيلم "استعراض الحرب" الذي عرض في مهرجان لندن وافتتحت به تظاهرة "أيام المخرجين" في مهرجان فينيسيا، حيث عمل المخرج الدنماركي أندرياس دالسغارد مع الإعلامية السورية عبيدة زيتون لانجاز هذا الفيلم من لقطات صورتها هي وبعض الناشطين الآخرين بكاميرات فيديو أو هواتف نقالة ووثقت وقائع ومجريات من الانتفاضة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد في مارس -آذار 2011، وتحولها الى نزاع مسلح لاحقا.

كما اختتمت التظاهرة نفسها بالفيلم الإيطالى «داخل الحرب»، وهو شهادة عن الحرب في سوريا من منظور مراسل صحفي إيطالي إخرجته الصحفية الإيطالية باولا بياتشينسا.

"مختارون"

لفت المخرج الاماراتي علي مصطفى الانظار بالعرض العالمي الاول لفيلمه "مختارون" في مهرجان لندن السينمائي

والى جانب هذه المشاركات كانت ثمة مشاركات أخرى لمخرجين من دول عربية مر بعضها عابرا ولم يلفت الكثير من الانتباه، نذكر بعضها كفيلم المخرج اللبناني الأرمني فاتشي بولغورجيان "ربيع" الذي يبحث في الجراح التي خلفتها الحرب الأهلية في الذاكرة اللبنانية عبر قصة موسيقي أعمى يكتشف خلال سعيه للحصول على جواز سفر للسفر مع فرقة موسيقية إلى الخارج أنه ابن بالتبنى فيبحث عن جذوره وأهله الذين فصل عنهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

كما تمثلت السعودية، البلد الذي يندر فيه الانتاج السينمائي، بفيلم كوميدي هو "بركة يقابل بركة" للمخرج محمودالصباغ (الذي عرض في مهرجانات برلين ولندن وتورنتو ايضا)، ويقدم قصة حب مستحيل في إطار كوميدي بين "عرابي" العامل في البلدية وابنة العائلة الثرية "بركة الحارثي" والنجمة على موقع انستغرام، وسط قيود المجتمع المحافظ والفروقات الطبقية.

ولفت المخرج الإماراتي علي مصطفى الانظار بالعرض العالمي الأول لفيلمه "مختارون" في مهرجان لندن السينمائي، وهو فيلم ظلم كثيرا في توقيت عرضه في أواخر الموسم السينمائي لهذا العام، وحملته الاعلامية التي لم تتناسب مع الجهد الانتاجي الكبير الذي بذل لصنعه، ونتوقع أن يلقى اهتماما أكبر في عروضه الأخرى في العام المقبل.

ففي فيلمه الروائي الثالث هذا، بعد "دار الحي" و "من ألف الى باء"، يبدو مصطفى أكثر نضجا ودربة لتقديم فيلم على قدر واضح من الاتقان والصنعة، فينجح في صنع فيلم تشويق وإثارة من مفردات الواقع المأساوي الراهن الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، التي يصبها في قالب من "الديستوبيا" عن مستقبل المنطقة التي تفتقد للمياه وتستحيل إلى جماعات بدائية متقاتله على كل شيء وعلى خزينها من المياه في المناخ القاحل.

ويحرص مصظفى على تحميل (ديستوبياه) المستقبلية تلك بتضمينات رمزية، واستعارات من التراث الميثولوجي للمنطقة فنرى أسماء الشخصيات تحمل اسماء انبيائها أو شخصيات حاضرة في ذاكرتها الشعبية.

وعلى الرغم من التراجع الذي شهده حضور السينما المغربية في المهرجانات العالمية هذا العام، إذ لم تمثل سوى بفيلم "جوّع كلبك" لهشام العسري في مهرجان برلين، جاء فيلم "الهيات" للمخرجة المغربية الفرنسية هدى بن بنيامينة، ليعيد اسم المغرب إلى الواجهة عبر أصولها المغربية، فالفيلم من انتاج فرنسي، بعد فوزه بعدد من الجوائز المهمة من بينها جائزة الكاميرا الذهبية للعمل الأول في مهرجان كان السينمائي،

ويقدم الفيلم قصة صداقة بين مراهقتين دنيا (أدت دورها بحضور لافت الممثلة الشابة عليه عمامره وقد نوهت لجنة التحكيم في مهرجان لندن السينمائي بحيوية أدائها) وصديقتها ميمونة، وهما من بنات المهاجرين في احدى الضواحي الفرنسية، التي تعج بالمتشددين الاسلاميين وتجار المخدرات، لتقدم صورة جيل ممزق بين ضغط التقاليد والمقدس والرغبة في التحرر والعيش المترف والاثراء السريع الذي يقوده إلى مصير تراجيدي في تلك البيئة القاسية.

 

وقد ترشح فيلم بنيامينة ضمن القائمة القصيرة لجائزة افضل فيلم أجنبي في جوائز غولدن غلوب التي ستعلن في 8 يناير/كانون الثاني من العام المقبل في حفل تقيمة رابطة هوليود للصحافة الاجنبية.