اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

العشاء الأخير للشهيد ناصر عواد (ابو سحر)// نبيل عبد الأمير الربيعي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

عرض صفحة الكاتب 

العشاء الأخير للشهيد ناصر عواد (ابو سحر)

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

    التعقيدات وصعوبة الحياة كانت سمة التكلف والتعقيد الشديد لحياة الفقراء، ولا يمكن التغلب عليه إلا بالسعي والخوض عكس التيار، وقتل الرغبات والأمنيات، وكل ذلك ينفقه الإنسان من حساب عمره وضميره وعقله، وثمنهُ باهض ليس باليسير تعويضه إن صدمته الأيام وضاع وضيع  إنسانيته التي يسعى لها إلى الخير والعمل بشرف، ويصون الكرامة. والنظرة التي تجعل النضال مرادفاً للعمل اليومي؛ هي نظرة صائبة ولكنها عسيرة جداً، من خلال النضال والسعي إلى محاصرة الفقر وتحرير الإنسان من مخالبه بمختلف الطرق والأشكال لكسب العيش وكلاهما يحتم عليه الابتعاد عن العواطف والمحركات بمشاعر ومؤثرات فطرية واستخدام الخبرة والثقافة والعقل.

 

    بهذا الحديث كان النقاش مع الشهيد ناصر عواد عام 1976م في مقهى (ابو تريجي) في مدينة الديوانية، مع حضور الأصدقاء جواد الروازق وعلي صبر وهادي شاكر (ابو دية)، ومن خلال الحوار صدفة يمر كيطان ساجد (ابو عمش) بشاربه الكث ليكمل النقاش والحوار، تلك الأيام لا انساها وأنا بعمر الشباب والاندفاع في العمل الحزبي، والبحث عن المصادر الثقافية والأدبية والماركسية، فالإنسان كما يحتاج الى الغذاء لكي يحافظ على استمرار حياته ويحافظ على تطوره الذهني والجسدي، كذلك العقل يحتاج إلى العناية ويحتاج إلى التغذية وإلى المراعاة والاهتمام، لذلك فأن القراءة تعتبر جزءاً اساسياً لغذاء العقل، وهي التي تؤدي إلى تطوير الإنسان وتفتح أمامه آفاقاً جديدة.

 

    وبعد مرور الأعوام والاهتمام بالدراسة الجامعية كنت اسأل عن الأصدقاء عن ناصر عواد، فقد انقطع الاتصال بعد انفراط التحالف الوطني بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم عام 1978م، وبعد الهجرة خارج العراق عام 2001م والالتقاء صدفة بزميلة الدراسة نصيرة عواد في العاصمة كوبنهاكن والسؤال عن ناصر عواد، فكان الخبر قد نزل كالصاعقة عليَّ بسماع استشهاده في احداث بشت ئآشان مع أخيه اقبال.

 

    وقبل أيام حصلت على مذكرات النصير ونقيب الفنانين السابق صباح المندلاوي (تعال معي إلى قنديل) وهو يوثق الساعات الأخير لحياة الشهيد ناصر عواد (ابو سحر)، كان رفيقه في الحركة الأنصارية وألتقاه لحظات هجوم عناصر الاتحاد الوطني الكردستاني على منطقة بشت ئآشان بقيادة انوشيروان مصطفى.

 

    وبشت ئآشان قرية معناها (ما وراء الطواحين) تقع قرب سلسلة جبال قنديل في كردستان العراق، واتخذها الحزب الشيوعي العراقي مقراً للإدارة والإذاعة الناطقة بـ(صوت الشعب العراقي)، والإذاعة كانت مهداة للحزب من قبل الجيش السوفياتي (سابقاً)، ونقلت عبر سوريا وتركيا وإيران إلى منطقة (ناوزنك)، ومنطقة بشت ئآشان تبعد مسافة اثنى عشر ساعة سيراً على الأقدام من (ناوزنك)، تلك المنطقة التي كانت مكاناً لأول إذاعة للحزب، يقول النصير صباح المندلاوي في مذكراته (أذكر أنا والرفيق كاظم الموسوي والنصير ناصر عواد كنا نسير خلف "البغل" الذي يحمل الإذاعة لمراقبته والحفاظ عليه. لم نكن نعلم أن مجموعة من الرفاق والأنصار قد استطلعوا المكان الجديد –بشت ئآشان- وأن رأيهم بأن مثل هذا المكان غير صالح عسكرياً وسياسياً لأسباب متنوعة). المكان كانت تغطيه الثلوج في فصل الشتاء وتقطع المناطق والمنافذ الموجودة بحيث يسهل هجوم العدو على المكان ولم يستطع أحد انقاذ نفسه.

 

    كان ناصر عواد ذلك الأنصاري الحريص على اسرار حزبه والمتعاون مع رفاقه الأنصار في منطقة (كوستة)، يتذكره الأنصاري صباح المندلاوي قائلاً: (مداعبات الرفيق الشهيد "ابو سحر" ناصر عواد وأريحيته وتعليقاته المرحة تبدد الجفاف والقسوة، وتزرع الأُلفة والمودة والمحبة في هذا المكان "كوستة". وهو كإداري تراه يجمع الملابس المتروكة من قبل الرفاق فيغسلها جيداً، ويرتبها ويوحدها ثم يوزعها على من يحتاجها. هو كالأب الرؤوف على ابنائه. ما أكثر ما يسترجع تعليقات والدته في مواقف ومحطات؛ فيشيع شيئاً من الفرح وسط الأنصار. هو من أهل الديوانية.. أسمه الكامل ناصر عواد كران منخي، وأمهُ عزيزة ساجت، ولديه ثلاثة أخوة في حركة الأنصار {نصير، أقبال، نصيرة}، سافر إلى لبنان ومنها إلى كردستان.. ها هو الآن على الشريط الحدودي، تحيط به الجبال والحافات الصخرية الحادة والغابات الكثيفة. قامة شيوعية شامخة ونموذج ثوري يتحدى الصعاب. هذا النموذج الثوري استشهد في معارك بشت ئآشان في الثالث من آيار 1083م، فحلّق عالياً في فضاءات الخلود).

 

    ويؤكد القاضي زهير كاظم عبود أنهُ هو من كسب ناصر عواد إلى تنظيمات الحزب الشيوعي في مدينة الديوانية، كما يؤكد في كتابه (أوراق من ذاكرة مدينة الديوانية) أن ناصر عواد استفاد (من تجربته تلك بأغناء شخصيته بالمعلومات الثقافية، وكان ميالاً للضحك والسخرية دون أن يخدش مشاعر أحد، وميالاً لحفظ الشعر الشعبي ويتلذذ بقراءة القصيدة، وكما يحلو له أن يسمعنا مما يحفظ من قصائد، ويطلب مني باستمرار أن أقرأ قصيدة البراءة للشاعر الكبير مظفر النواب، حتى أنه كتبها لغرض حفظها، كان ميالاً لمساعدة رفاقه بالرغم من فقر حاله، ويقترح أحياناً اقتراحات تنم عن كرمه وحسهُ الإنسان، كاقتراحه مشروع صندوق مالي داخل الخلية ودفع اشتراكات غيره من الرفاق الفقراء، أو إصراره على دفع ثمن الشاي الذي نشربه في المقهى، وخلال تلك السنة أكملنا تنظيم جميع الشباب الذين يرتادون المقهى، وكان الفضل كل الفضل يعود إلى ناصر عواد وإلى أحمد خضير).

 

ناكر الجميل انوشيروان مصطفى

    يبدأ عناصر حزب الاتحاد الكردستاني بإعداد العدّة للتصعد من أجواء التوتر على منطقة بشت ئآشان وبقيادة (الكوملة) وانوشيروان مصطفى إلى جانب الخط العريض من الحركة الاشتراكية، وتدعوهم لشن معارك وصدامات، ولعل رسالة انوشيروان وكتابه المعنون (الأصابع التي تكسر بعضها البعض) خير دليل على ذلك، وأهمية حسم المعارك بطريقة مباغتة لتوجيه ضربة للشيوعيين، متناسياً موقفهم الإيجابي يوم تم اعتقاله من قبل الحزب الاشتراكي الكردستاني عام 1981م، حيث تجولوا به في القرى والأرياف نكاية به ولأهانته، وكيف طلب الاتحاد الوطني الكردستاني من قيادة الحزب الشيوعي العراقي التوسط لدى الاشتراكي للحفاظ عليه في إحدى مقراته حرصاً على حياته، وقد تم ذلك، لكنه انوشيروان استغل طيبة الشيوعيين، فما كان منهُ إلا الهرب والتواري عن الأنظار عند خروجه لقضاء حاجة في الهواء الطلق دون مرافقة حارس لهُ. في كل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم تستمر الكمائن والتصدعات والصراعات.

 

    يذكر النصير صباح المندلاوي في مذكراته قائلاً: (في السادس والعشرين من نيسان عام 1983م ليلاً يُنظّم الحزب الشيوعي العراقي عرضاً عسكرياً للأنصار في شوارع أربيل، يشارك فيه أكثر من تسعين نصيراً، في جو من التحدي الصريح للسلطة الحاكمة، حيث تمكن انصار الحزب من الدخول إلى قاعات محاضرات الطلبة في جامعة صلاح الدين وعقد ندوة سياسية هدفها فضح ممارسات السلطة الدموية. في طريق العودة إلى "دشت أربيل" ثم إلى القواعد الخلفية يتعرض الانصار الشيوعيين إلى كمين نصبهُ اتباع الاتحاد الوطني الكردستاني، أسفر عن وقوع جرحى وضحايا، ويأتي هذا الحدث بعد الهدنة التي عقدت بين الاتحاد الوطني وحكومة بغداد، ليؤكد أن هذا العمل تم بمقابل تزويدهم بأحدث أنواع الأسلحة والمعدات، والدعم اللوجستي بنية استخدامها في الهجوم على مقرات الحزب الشيوعي العراقي في بشت ئآشان لاحقاً).

 

 

العشاء الأخير

    في قاعدة (ورته) ستواصل القتال ي بعد هجوم عناصر أنوشيروان مصطفى على المقر، وتتطاير الأشلاء، العشرات من الأنصار يغادرون الموقع في طابور طويل من الوادي حتى السفح، ثم إلى الطريق الذي يفضي إلى قرية (بيانا) حيث موقع إذاعة الحزب الشيوعي العراقي. ويؤكد النصير المندلاوي أن (عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساءً، يتناهى إلى مسامعنا قصف مدفعي من فصيل المدفعية في "بشت ئآشان" باتجاه المهاجمين لإثارة الرعب في صفوفهم، هذا إذا لم يكن هناك قتلى وجرحى. وفي هذه اللحظات وأمام أنظار الجميع يتم احراق الإذاعة، خشية السيطرة عليها... ينادي أحدهم.. أمامنا مسيرة طويلة خذوا شيئاً من الطعام قبل أن ننطلق. ها هي وجبة العشاء –علبة سمك سردين- نتقاسمها أنا والشهيد الخالد ناصر عواد –أبو سحر- و"عبد الأئمة" أبو ظفر القادم من قاطع السليمانية والراغب بالذهاب إلى بهدينان للقاء خطيبته.

 

    أخبرني الرفيق ابو سحر: أنا سأذهب إلى المكتب السياسي في بشت ئآشان. أحمل لهم رسالة من "ليوزه". قلت لهُ: نذهب سوية.. أنا أيضاً كنت عازماً الذهاب إلى "ليوزه" الآن تغيرت الأمور، ولم يعد أمامي سوى العودة إلى فصيل الإعلام. رحت أبحث عن المستشار السياسي لفصيل بولي (أبو علي)- حسام، وبعد جهد عثرت عليه وأخبرته طالما أنني لم أتجه إلى "ليوزه"، إذن سأعود إلى فصيل الإعلام في بشت ئآشان.

 

    قال لي: لا أفضّل عودتك... فهناك أخبار عن تسلل الأعداء إلى الطريق الذي تسلكه. قلت لهُ: حسناً... سأبقى معكم. وهنا رحت أبحث عن الرفيق (أبو سحر) لأخبره بالمستجدات ولكن على ما يبدو وقبل أن يخيم الظلام غادر المكان باتجاه بشت ئآشان، وحرصاُ منه على إيصال الرسالة التي يحملها إلى رفاق المكتب السياسي.... هل وصل إلى بشت ئآشان؟! هل ألتقى برفاق المكتب السياسي؟ وأغلب الظن أن الرفاق قد غادروها منسحبين باتجاه جبل قنديل. هل صار فريسة لأحد الكمائن في الطريق؟! في أي زاوية من بشت ئآشان قد استشهد؟! هذه الأسئلة ظلت بلا إجابات).

 

    رحل النصير ابو سحر دون وداع حاملاً هم حزب وامانته، والرسالة التي حاول ايصالها إلى رفاقه في المكتب السياسي للحزب، إلا انها كانت رسالة الشهادة دون أن يعلم بذلك. استشهد دفاعاً عن الفكر الذي يحمله، وقد رثاه أكثر من رفيق من رفاق الدرب، وانقل في هذا المقال رثاء رفيقه النصير (ابو قحطان)، وهي رسالة وفاء لرفيقه:

 

إلى ناصر عواد

    (لقد قامرت بحياتك فخسرت، أما نحن ففزنا بهزيمة أبدية، أنا مدين لكَ منذُ سنتين بهذه الكلمات التي لا تسر أحداً، ولم يكن صمتي إلا إمعاناً في هذا الانكسار المزمن، وإقراراً بطوفان من هزائم شائنة. لقد قتلت عند ذلك السفح الجبلي الذي أشرف ذات يوم على أخواخنا المسنودة إلى كتف الجبل. كُبلت يداك بسرعة إلى الخلف وأطلقوا النار عليك وعلى من كان برفقتك، وغادروا على عجل ليخفوا ارتباكهم، وهم يصرخون بلغات صخرية.

 

    كانت شمس آيار قد انحدرت منذُ قليل من شرفات جبل قنديل، لتضيء الوادي الذي لم يزل في أغلبه يرقد تحت ملائة ضبابٌ كسير، حيث أشجار السنديان والحور تتنفس بهدوء وهي تنفض عن أغصانها الطرية نداوة الصباح المغتال.

 

    كان الوادي خالياً إلاّ من صراخ القتلة الذين حرصوا أن لا تأكل النيران كل أثرٍ جميل لنا، من كُتب ومسرحيات ولوحات وقصائد يتيمة، ودواوين لشبان لا تعرف أسمائهم، ورسائل كُتب على عجل لأحباء في أماكن نائية، وكلمات سريعة، وتحدثت عن وداع مداهم. أطعموا كل تلك الثقافة وتجربتها الفريدة للنيران، ثم اقتسموا بعيد ذلك الأموال والأسلحة والمعدات والدواء والحقائب وثياب الأطفال، وسرقوا من قتلانا ساعاتهم وخواتم زواجهم.

 

    لقد سقطت في ذلك اليوم عاصمة صغيرة أخرى من عواصم الفقراء، واستبيحت ببدائية العصور الحجرية، وقدم أسرانا قرابيناً لآلهة كراهيتهم.

 

    كان الخيار المفروض أن نرحل عشية المجزرة؛ تسلقنا بصمت مجروح ذلك الجبل الرهيب الذي يحتفظ بين صخوره وشقوقه ومسالكه ثلوجاً منذ عصور التكوين، كنا نساءً ورجالاً من كل الأعمار، جرحى ومرضى وأطفالاً حديثي الولادة، كان أيضاً في صفوفنا العديد من المقاتلين الأشداء، يحرسون هذه الأقدام المتعبة وهي تتقهقر إلى الأعلى بحزنٍ عميق؛ وخجل يُدمي القلب. كنا خيطاً بشرياً يمتد لمسافة طويلة يتعرج ويلتف، يختفي ويظهر حسب التضاريس، وكان الليل دامساً غامضاً منطفئ الكواكب. كان القتل الشديد وهدير مدافع الهاون والرشاشات الثقيلة قد أخلى دوره مع حلول الظلام).

 

    الرسالة جداً طويلة واختمها بما كتبه الرفيق (أبو قحطان) بما يلي: (ها أني في الآخر أفي بوعدي إليك. وربما هو وفاء إلى الاعتراف أقرب. فرغم كونك قد غادرت إلى كنف الموت إلا أنني كابدت كي أجد شيئاً مناسباً من شأنه أن لا يقض مضجعك في زورق موتك، وإن لا تقشعر منه بالنهاية عظامك، ولهذا ابتعدت وساومت ولم أشأ أن أخبرك عن كيف ارتضى البعض من أن يعمل أجيراً عند قاتليك، بعناوين كبيرة كمستشارين سياسيين وصحفيين يحسنون صرف الحقائق وتبييض الوجود، وقد طرحوا رداء خجلهم بعيداً وهم يختبؤون خلف ظله الطويل، وينعمون بعطاءه الوفير.. ولم أشأ أن أخبرك كيف يهضم البعض منا حق البعض الآخر، وكيف يسطون على شرفهم ونبلهم وجرحهم، ويلبسونه لمن يريدون بروح من ثلج وضمير منطفئ... هل فزنا بشيء!!!!!

 

المصادر:

1-    زهير كاظم عبود، أوراق من ذاكرة مدينة الديوانية.

2-    صباح المندلاوي، تعال معي إلى قنديل.

 

 

عائلة ناصر عواد

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.