اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

حكاية ونَص.. " نصبُ الحريةِ" يُسْتَعبَدُ بالخوفِ!// محمود حمد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية ونَص.. " نصبُ الحريةِ" يُسْتَعبَدُ بالخوفِ!

محمود حمد

 

الحكاية:

عندما وصلت إلى بغداد قادماً من مدينتي الجنوبية (العمارة) في ظهر الثالث عشر من تموز عام اثنين وستين وتسعمئة وألف، بعد عام على افتتاح (نصب الحرية)، لم اهتد الى مبتغاي إلا من خلال الاسترشاد بنصب الحرية!

 

كنت فتىً في الخامسة عشر من العمر... لم يسبق لي أن سافرت خارج حدود كوخنا السومري بمفردي...

 

وقفت تحت فيء (النصب) بانتظار (عمي) الذي يعمل حارساً ليلياً في حديقة الأمة التي يتصدرها (نصب الحرية) ... عمي الذي كان قد وَعَدَنا:

إنه يمر كل مساء من تحت (نصب الحرية) في طريقه للذهاب إلى عمله عند السادسة مساءً والعودة منه في السادسة صباحاً.... وعلي الانتظار هناك!

 

بعد خمس وأربعين سنة من ذلك التاريخ، كنت اتابع مشهداً تلفزيونياً تخور فيه دبابة (إبرامز) أمريكية حول (نصب الحرية)، وتسير على مقربة منها مفرزة من المسلحين الملثمين ذوو الرايات السود لتعلق لافتة سوداء على جدار (نصب الحرية) كُتِبَ عليها:

(...وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ...)!

 

تذكرت الحفل التأبيني السنوي الأول لوفاة (جواد سليم) الذي أُقيم في حدائق معهد الفنون الجميلة... وتلك الأحاديث المثقلة بالحزن والملتبسة عن الراحل، الذي تُوفي إثر إصابته بنوبةٍ قلبيةٍ، نتيجة الإجهاد في عمله للنصب، عن عمر يناهز الأربعين عامًا، في الثالث والعشرين من كانون الثاني سنة إحدى وستين وتسعمئة وألف!

 

كنا نتحلق حول زميلنا النحات الشاب (ناظم) الذي شارك في رفع قطع النصب إلى اللوح الأبيض... يسرد لنا بأسلوبه الحكواتي الممتع، مُفَخِّماً مخارج كلماته، وكأنها تأتي من الماضي الأليم الذي عاشه في أزقة كرخ بغداد: 

لم يترك الموت المفاجئ (جواد سليم) من إكمال النصب، فما أن رفع القطعة التي تحمل الرقم 9 من النصب حتى انهارت قواه...

وهي الجزء الذي مَثَّلَ فيها الحرية بـ(امرأة فَتِيَّةٍ) تحمل مشعلاً، امرأة مفعمة بروح البهجة التي تحلق بها عالياً...

 

ذات يوم...

عندما سئل (جواد سليم) لماذا لم يجعل لها قدمين؟!...

قال:

(إن القدمين تلصقانها بالأرض، وأنا أريد لها أن تحلق عالياً)!

 

أكملت زوجته، النحاتة (لورنا سليم) العمل، لكونها أكثر من لهم إلمام بفكرة النصب... فكانت تحضر يوميا للإشراف على العمل حتى تم اكتمال رفع الأجزاء الأربعة عشر التي ترمز لثورة الرابع عشر من تموز!

بعد إكمال النصب مُنِحَتْ لورنا سليم الجنسية العراقية!

 

وفي الثالث عشر من تموز من نفس العام تم افتتاح النصب بغياب مُبدعه (جواد سليم) وغياب من أكمل العمل زوجته (لورنا سليم)!

حيث لم توجه لها دعوة لحضور الافتتاح!!

إثر ذلك حزمت (لورنا سليم) حقائبها وغادرت إلى بريطانيا!

كان الحفل في حدائق المعهد متواضعاً!

 

مازالت التساؤلات عن طلاسم الموت المباغت الذي اختطف (جواد سليم)، عالقة في أذهان محبيه...

ولم تتوقف الاستفهامات عن خفايا قصة نشوء النصب... التي تحدث المعماري الراحل (رفعت الچادرچي) مهندس المشروع عن جانب منها قائلاً:

عندما طلب مني الزعيم (عبد الكريم قاسم) تخليد ثورة الثامن والخمسين وتسعمئة وألف بنصب، لم أعرف ماذا أفعل؟!

حيث كانت شوارع بغداد مليئة باللافتات القبيحة!

ولم أكن مُلمًّا بأمور النحت، ولكني سأصنع جدارية تشبه اللافتة، كالتي يرفعها المتظاهرون، لكنها كبيرة بعرض خمسين مترا...

فتوجهت إلى (جواد سليم) وقلت له: 

عندك لافتة عرضها خمسين متر لازم تصور عليها ثورة 1958...

وعلى أن تكون رموز سطحية وليست ثلاثية الأبعاد لهذا تفاجئ جواد سليم وأجاب:

(حيل هاي مَحَّدْ مسَوّيها من زمن الآشوريين!).

 

بعد أكثر من نصف قرن كنت اتابع لقاءً تلفزيونيا مع المهندس المعماري المرحوم (رفعت الجادرجي) كشف فيه بعض خفايا الدخان الخانق الذي تصاعد حول (جواد سليم) أثناء تصميمه لمفردات النصب... قائلاً:

راجع (النحات خالد الرحال) - الذي كان آنذاك مازال طالباً في اكاديمية الفنون الجميلة بروما - حاشية الزعيم عبد الكريم قاسم، وأبلغهم:

(إن – النصب - يخلو من صورة الزعيم، وهذا عمل مقصود!

وهو مستعد لنحت الصورة، إذا رفض جواد سليم ذلك، واقترح أن يحل – الزعيم - محل – الجندي - الذي يتوسط النصب)!

ويضيف الجادرجي:

(عندما عرضت على – الزعيم - صورة تصميم النصب أُعْجِبَ بها... لكنه بعد برهة قال:

(ممكن أن يكون هذا النصب روماني أو في أي مكان في العالم... لكن أنا أريده أن يكون نصباً عراقياً)!

وراح – الزعيم - يتحدث عن تفاصيل احتلاله لبغداد صبيحة يوم الرابع عشر من تموز... وكرر الحكاية مرتين، وفي كل مرة كان يسألني:

هل فهمت؟!

فأجيب بالنفي، وفي المرة الأخيرة أشار لي أحد الحاضرين أن أقول فهمت. لأُنهي اللقاء!

وعاد (جواد سليم) إلى بغداد مرتبكاً، ولم أره في أي يوم بمثل هذا الارتباك، وقال لي:

(الزعيم يريد أن أضع صورته في النصب)!

فقلت له:

من أبلغك بذلك؟!...

قال (السفارة)...

فأجبته:

أنا كنت قبل يومين مع الزعيم ولم يبلغني بذلك...

ثم قلت له:

أنا أكلمك ليس كصديق، بل بصفتي الرسمية كعضو في اللجنة الثلاثية، ومعي حسن رفعت... ونحن الأكثرية)!

وأُنجِزَ (نصب الحرية) ...

ومات (جواد سليم) قبل اكتمال رفع جميع قطع النصب...

 

عندما سمع النحات (خالد الرحال) بخبر موت (جواد سليم) أسرع إلى مكان وفاته، ومعه عُدَّةْ صنع القالب النحتي، وصنع لوجه (جواد سليم) الذي يستوطنه الموت، قالباً جبسياً، وجعله فيما بعد قناعاً برونزياً لوجه (جواد سليم) ... سُمِيَّ منذ ذلك الوقت بـ(قناع الموت)!!!

 

ذكرتني تلك السيرة والموقف والسلوك بالحكمة الالمانية:

(عندما يعوي الذئب يرفع رأسه نحو السماء)!

  

استيقظت مفزوعاً من "رحلتي!" على الصهيل الصاخب للحصان الجامح في (النصب)، وقد تَلَبَّدَت فوقه السماء بغيوم من الدم المُحْتَقِنِ... والرشاشات الاوتوماتيكية مُسَدَدَّةٌ إلى رؤوس أهل (نصب الحرية) ... فصرخت من أعماقي... وتناثرت صيحاتي حروفاً مُدماة على صفحات دفتري:

 

" نصبُ الحريةِ" يُسْتَعبَدُ بالخوفِ!

كانَ الليلُ طويلاً والناسُ نيامٌ...

مَقبرةُ الكرخُ الميسورةِ تَكْتَّظُ بأفواجِ القتلى...

فوجٌ يدفعُ فوجاً من جوفِ الأرضِ إلى طرقاتِ المَقبرةِ الخلفيةِ...

يَسْتَّلُ "جوادٌ"(1) هَيكلَهُ من تحتِ رُفاةِ الأموات...

يَتسلقُ جوفَ الأرضِ إلى أرصفةِ الأحياءِ الموصودَةِ بالجثثِ الملغومةِ...

يَبحثُ عن دربٍ دونَ دماءٍ للبابِ الشرقيِّ...

يَتوقفُ وَسطَ الساحةِ قُدّامَ النُصبِ (2) المخذولِ بأبراجِ الدباباتِ المحتلةِ...

يَسالُ امرأةً عابرةً في الشارعِ أن تَمنَحَ "شيلتها" لفتاةٍ سافرةٍ تَصرخُ وسطَ النصبِ...

خَوفَ فتاوى القَتَلةِ!

****

أُمُ شهيدٍ تَتَرَجلُ من نصبِ الحريةِ لشوارعِ بغداد المسبية...

تَتْركُ مأتَمَها لعشيرٍ ما نَكَثَ العَهْدَ بَتاتاً...مُنذُ عقودٍ...

تَحملُ والنسوةُ جُثمانَ الأبناءِ المجهولةِ لمقابرَ بِكرٍ صارت تَتَفَردُ فيها أرضُ النهرينِ...

تَتَكاتفُ وامرأةٌ تحملُ جثمانَ شهيدٍ من أرصفةِ الكرادةِ...

تُقَلِبُ وجهاً في وجهِ أم شهيدِ الكرادةِ...

تَصرَخُ...

إبنتيِّ الصُغرى "خنساء" صارتْ أماً منكوبةً...

تَزَوَجَتْ الطفلَ الأشولَ...

يَحبو في بابِ ضريحِ نبي الله الصالح" (3) ...

تَمشي تَتَعثرُ وابنَتَها خنساءَ الصارت أُماً بين زحامِ النَدّاباتِ...

يَلِجْنَّ النَفَقَ الَليليَّ القاتِمَ...

في بلدٍ ما عادَتْ فيه دروبٌ سالكةٌ إلاّ الأنفاقِ الملغومةِ بالريبةِ...

ويَصِلْنَّ إلى مدنٍ تَلْتَفُ جِهاراً بعباءةِ حُزنٍ سوداء...

تَتَزاحمُ فيها نسوانٌ تَعرِفُهُنَّ صغاراً رُضَّع...

صِرْنَ كتائبَ حُزْنٍ في جيشِ الثَكلى!

****

جُنديٌّ معروقُ الجبهةِ يَتفاقمُ غَضَباً في قلبِ النُصْبِ..

بَدَدَ جُدرانَ الظُلمَةِ من دربِ الفلاحينَ الفقراء...

كانَ رفيقاً للمحراثِ وكيرِ الحَدادِ...

سَخِياً في مرتفعاتِ "الجولانِ" و"حيفا"!

تَهاوى من بينَ ضلوعِ النُصُبِ...

إلى أرصفةِ الأسمالِ وأكداسِ الخردةِ في البابِ الشَرقيِّ...

صارَ نَزيلاً أبدياً في جبهاتِ (النَصرِ!) المَقبورةِ...

أسيراً في أقفاصِ الغُربَةِ...

شحاذاً في باصاتِ النقلِ المكتظةِ بالأشباهِ...

نَشّالاً لرغيفِ الخُبزِ الجائعِ...

قُرباناً لـ(بريمر) في عيدِ الشُكرِ!

****

فتاةٌ فاتنةٌ تومِئُ في كفٍ لنهوضِ الأمةِ...

وتُلَوِّحُ بالأُخرى نارَ الحُريةِ في وجهِ الأصنامِ الورقيةِ...

خَطواتٌ واثبةٌ دونَ قيودٍ للأرضِ...

صَدرٌ مثلَ طيورٍ تَخفِقُ فَوقَ الغَيمِ...

وصُبحٌ يُشرقُ عند الخَدينِ...

فتاةٌ حالمةٌ...

وَعدٌ يَتَجَذَرُ...

امرأة...

تَتَقَدَمُ فَجْرَ الحُريةِ...

تَعقِبُها أزمنةَ المستقبلِ...

يُمْسِكُها الوِدُّ إلى ألواحِ النُصْبِ الحاني...

وَوعيدٌ تَحتَ جدارِ النُصبِ بعصرٍ دَمويٍ أسود...

يخنقها دون صتيت في وضح الظهر!

****

عُمالُ المَسطَرِ في غبشِ الصُبحِ...

يَلوذونَ بمطرقةِ العاملِ في نُصُبِ الحُريَةِ...

خِشيَةَ قِطعانُ ذئابٍ سارحةٍ في طرقاتِ المُدُنِ المُحتلةِ...

تَنهَشَهم سياراتٌ ذاتَ نقابٍ...ملغومةٍ...

تَفْتِكُ حِقداً بجياعِ الأهلِ...

تُبَعْثِرُ أحلامَ الأطفالِ المنتظرينَ ببابِ الأكواخِ العجفاء...

تُفْشي داءَ الجوعِ بأحشاءِ الوطنِ المنهوكِ الأوصالِ...

تَتَزَحْزَحُ مِطرقةُ العاملِ من مَوطِئِها ...

تَفسحُ مأوىً لطوابيرِ العمالِ المُنَتفضينَ..

تَهطِلُ قَطْرَةَ غَيظٍ من جَبهتهِ لِسنابلَ سبعٍ يابسةٍ...

تَغدو حَقلَ رخاءٍ يَغمُرُ وَجهَ الوطنِ الناصعِ من "سدي كان" (4) إلى "رأس البيشة" (5)!

 

(1)  جواد: هو الفنان (جواد سليم) مبدع نصب الحرية.

(2)  نصب الحرية الذي يشكل قلب بغداد الحضاري المُعارِض.

(3)  قبر نبي الله (صالح) الموجود في الكرادة الشرقية ببغداد.

(4)  سدي كان: أحد أجمل مواقع كوردستان العراق الجبلية في أقصى الشمال بين الحدود الايرانية والتركية.

(5)  رأس البيشة: سهل رملي في أقصى جنوب العراق المطل على الخليج العربي وآخر نقطة حدودية جنوب العراق على الخليج العربي.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.