مقالات وآراء
الاقتصاد السياسي للنقود!// د. ادم عربي
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 19 تموز/يوليو 2024 19:05
- كتب بواسطة: د. ادم عربي
- الزيارات: 1289
د. ادم عربي
الاقتصاد السياسي للنقود!
د. ادم عربي
لَوْ طَرَحْتَ عَلَى مُسْتَثْمِرٍ مُغْرَمٍ بِالْمَالِ وَالأَوْرَاقِ المَالِيَّةِ السُّؤَالَ التَّالِي: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَلِدَ المَالُ؟ هَلْ يَسْتَطِيعُ المَالُ أَنْ يُنْتِجَ مَالًا آخَرَ مِنْ نَفْسِهِ؟ لَكَانَ جَوَابُهُ الفَوْرِيُّ: نَعَمْ، النُّقُودُ تَنْجِبُ نُقُودًا.
أَرِسْطُو، بِعَقْلِهِ المُتَوَقِّدِ، أَدْرَكَ الحَقِيقَةَ فَقَالَ إِنَّ المَالَ لَا يُنْجِبُ مَالًا؛ فَالمَالُ بِطَبِيعَتِهِ غَيْرُ مُنْتِجٍ. أَمَّا ابْنُ خَلْدُونَ فَتَسَاءَلَ: مَا هُوَ العَامِلُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ سِلْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَجْعَلُهُمَا قَابِلَتَيْنِ لِلتَّبَادُلِ (كَمَا فِي المُقَايَضَةِ)؟ هَذَا العَامِلُ المُشْتَرَكُ هُوَ "العَمَلُ"، أَيْ كَمِيَّةُ العَمَلِ المُخْبَأَةِ فِي السِّلْعَةِ.
عِنْدَمَا نَتَبَادَلُ المِلْحَ بِالسُّكَّرِ، فَإِنَّ هَذَا التَّبَادُلَ يَعْكِسُ مُسَاوَاةَ كَمِيَّةِ العَمَلِ المَبْذُولِ فِي إِنْتَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا. فَالتَّبَادُلُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ لَيْسَ سِوَى مُبَادَلَةِ سِلْعَةٍ بِسِلْعَةٍ، تَخْتَلِفَانِ فِي الاِسْتِخْدَامِ وَتَتَمَاثَلَانِ فِي العَمَلِ المُسْتَهْلَكِ لِإِنْتَاجِهِمَا.
مع تَطَوُّرِ التَّبَادُلِ وَتَوَسُّعِ نِطَاقِهِ، نَشَأَتِ الحَاجَةُ إِلَى النُّقُودِ. بَدَايَةً ظَهَرَتِ النُّقُودُ السِّلْعِيَّةُ، ثُمَّ النُّقُودُ المَعْدِنِيَّةُ (كَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ)، وَأَخِيرًا النُّقُودُ الوَرَقِيَّةُ. لِفَهْمِ النُّقُودِ بِشَكْلٍ أَعْمَقَ، يَجِبُ عَلَيْنَا دِرَاسَةُ ظَاهِرَةِ تَبَادُلِ السِّلَعِ، مِثْلَ تَبَادُلِ المِلْحِ بِالسُّكَّرِ.
عِنْدَمَا أُبَادِلُ كَمِّيَّةً مِنَ المِلْحِ بِكَمِّيَّةٍ مِنَ السُّكَّرِ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّنِي أَخَذْتُ المِلْحَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مُقَابِلَ السُّكَّرِ الَّذِي أَعْطَيْتُهُ لَهُ. هَذَا التَّبَادُلُ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا إِذَا كَانَ تَبَادُلُ مِلْحٍ بِمِلْحٍ أَوْ سُكَّرٍ بِسُكَّرٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَوَازُنٌ فِي العَمَلِ المَبْذُولِ لِإِنْتَاجِ كِلَا السِّلْعَتَيْنِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّبَادُلِ يُعْرَفُ بِالمُقَايَضَةِ.
مَعَ تَقْسِيمِ العَمَلِ وَتَنَوُّعِ المُنْتَجَاتِ، اشْتَدَّتِ الحَاجَةُ إِلَى سِلْعَةٍ مَا لِتُؤَدِّي وَظِيفَةَ "النَّقْدِ" كَوَسِيلَةٍ لِتَبَادُلِ السِّلَعِ. هَكَذَا ظَهَرَتِ النُّقُودُ المَعْدِنِيَّةُ، وَكَانَتِ الذَّهَبُ هُوَ السِّلْعَةَ الَّتِي اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا كَوَسِيلَةٍ لِلتَّبَادُلِ لِأَنَّهَا تَحْتَفِظُ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَتَلَفُ بِسُهُولَةٍ.
النَّقْدُ الذَّهَبِيُّ أَصْبَحَ مِقْيَاسًا لِقِيَمِ السِّلَعِ وَوَسِيلَةً لِتَبَادُلِهَا، وَكَذَلِكَ وَسِيلَةً لِلادِّخَارِ. عِنْدَمَا أُعْطِي شَخْصًا كَمِّيَّةً مِنَ السُّكَّرِ وَأَحْصُلُ مِنْهُ عَلَى ذَهَبٍ، يُمْكِنُنِي الِاحْتِفَاظُ بِهَذَا الذَّهَبِ لِشِرَاءِ سِلْعَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِمَّا فَصَلَ بَيْنَ عَمَلِيَّتَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَجَعَلَ الِادِّخَارَ أَكْثَرَ فَعَّالِيَّةً.
مَعَ تَطَوُّرِ التَّبَادُلِ التِّجَارِيِّ، تَحَوَّلَ النَّقْدُ الذَّهَبِيُّ إِلَى شَكْلِهِ الْوَرَقِيِّ، حَيْثُ أَصْبَحَتِ الْأَوْرَاقُ النَّقْدِيَّةُ تُمَثِّلُ الذَّهَبَ. بَدَأَ النَّاسُ فِي اسْتِخْدَامِ الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ فِي مُعَامَلَاتِهِمُ التِّجَارِيَّةِ لِثِقَتِهِمْ فِي الْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لَهَا، وَالَّتِي كَانَتْ فِي الْبِدَايَةِ الْمَصَارِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ الْمَصْرِفُ الْمَرْكَزِيُّ هُوَ الْجِهَةَ الْوَحِيدَةَ الْمُخَوَّلَةَ بِإِصْدَارِ النُّقُودِ الْوَرَقِيَّةِ، مِمَّا أَضَافَ قُوَّةً مَالِيَّةً لِلدَّوْلَةِ إِلَى جَانِبِ قُوَّتِهَا السِّيَاسِيَّةِ.
الْآنَ عِنْدَمَا أُعْطِي شَخْصًا كَمِّيَّةً مِنَ السُّكَّرِ وَيَحْصُلُ مُقَابِلَهَا عَلَى أَوْرَاقٍ نَقْدِيَّةٍ، تُصْبِحُ الْعَلَاقَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَلَاقَةَ دَائِنٍ بِمَدِينٍ، حَيْثُ أَنَّنِي قَدَّمْتُ لَهُ سِلْعَةً وَلَمْ أَسْتَلِمْ سِلْعَةً مُقَابِلَهَا بَلْ أَوْرَاقًا نَقْدِيَّةً تُعَدُّ بِمَثَابَةِ صُكُوكِ دَيْنٍ. يُمْكِنُنِي اسْتِخْدَامُ هَذِهِ الْأَوْرَاقِ لِشِرَاءِ أَيِّ سِلْعَةٍ أَوْ خِدْمَةٍ فِي بَلَدِي لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَثِقُ بِالْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لِهَذِهِ الْأَوْرَاقِ.
ظُهُورُ الأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ أَسَّسَ لِاقْتِصَادٍ مُوَازٍ لِلاقْتِصَادِ الحَقِيقِيِّ، حَيْثُ يُنْتَجُ وَيُتَدَاوَلُ السِّلَعُ الحَقِيقِيَّةُ. فِي هَذَا الاقْتِصَادِ المُوَازِي، لَا تُضَافُ سِنْتَاتٌ جَدِيدَةٌ لِلثَّرْوَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ وَلَا تُفْقَدُ. فَقِيمَةُ العُمْلَةِ تَتَأَثَّرُ بِعَوَامِلِ العَرْضِ وَالطَّلَبِ، وَأَسْوَاقُ الأَسْهُمِ وَالسَّنَدَاتِ تُسَاهِمُ فِي خَلْقِ اسْتِثْمَارَاتٍ لَا تَعْكِسُ بِالضَّرُورَةِ زِيَادَةً فِي الثَّرْوَةِ الحَقِيقِيَّةِ.
عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، إِذَا اسْتَثْمَرْتَ مَبْلَغًا فِي الصِّنَاعَةِ فَإِنَّ الرِّبْحَ النَّاتِجَ يُضِيفُ إِلَى ثَرْوَةِ المُجْتَمَعِ الحَقِيقِيَّةِ، بَيْنَمَا إِذَا اسْتَثْمَرْتَ فِي الأَسْهُمِ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ عَلَى حِسَابِ خَسَارَةِ مُسْتَثْمِرٍ آخَرَ. مِنْ هُنَا، يَأْتِي النُّمُوُّ الحَقِيقِيُّ لِثَرْوَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ خِلَالِ إِنْتَاجِ السِّلَعِ وَالخَدَمَاتِ الَّتِي تُلَبِّي حَاجَاتِ الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ.
لِتَوْضِيحِ الفَرْقِ الجَوْهَرِيِّ بَيْنَ الاسْتِثْمَارِ فِي الاقْتِصَادِ الحَقِيقِيِّ وَالاسْتِثْمَارِ فِي سُوقِ الأَوْرَاقِ المَالِيَّةِ، تَخَيَّلْ أَنَّكَ تَمْتَلِكُ مِلْيُونَ دُولَارٍ وَقُمْتَ بِاسْتِثْمَارِهَا إِمَّا فِي القِطَاعِ الصِّنَاعِيِّ أَوْ فِي سُوقِ الأَسْهُمِ. لِنَفْتَرِضْ أَنَّكَ حَقَّقْتَ رِبْحًا قَدْرُهُ مِئَتَا أَلْفِ دُولَارٍ مِنْ هَذَا الاسْتِثْمَارِ.
إِذَا كَانَ اسْتِثْمَارُكَ فِي القِطَاعِ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّ هَذَا الرِّبْحَ يُمَثِّلُ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً إِلَى الثَّرْوَةِ الإِجْمَالِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ، حَيْثُ يُعَزِّزُ الإِنْتَاجَ وَالابْتِكَارَ. أَمَّا إِذَا اسْتَثْمَرْتَ فِي سُوقِ الأَسْهُمِ، فَإِنَّ هَذَا الرِّبْحَ لَا يُسَاهِمُ فِي زِيَادَةِ الثَّرْوَةِ العَامَّةِ، بَلْ يُعَادِلُ خَسَارَةً تَكَبَّدَهَا مُسْتَثْمِرٌ آخَرُ فِي السُّوقِ ذَاتِهِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الرِّبْحَ الإِجْمَالِيَّ يَظَلُّ ثَابِتًا دُونَ تَأْثِيرٍ حَقِيقِيٍّ عَلَى الثَّرْوَةِ الكُلِّيَّةِ.
وَفِي الخِتَامِ، الاتِّجَارُ بِالرُّمُوزِ المَالِيَّةِ لَا يُضِيفُ شَيْئًا إِلَى الثَّرْوَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ، لَكِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَاحٍ وَخَسَائِرَ لِلْمُسْتَثْمِرِينَ.