مقالات وآراء
وثيقة الصورة وأَبعَاد الموت..// خديجة جعفر
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 12 تشرين2/نوفمبر 2024 20:36
- كتب بواسطة: خديجة جعفر
- الزيارات: 762
خديجة جعفر
وثيقة الصورة وأَبعَاد الموت..
خديجة جعفر
غالبا ما تحمل الحروب كمَّا غير محتسب من مظاهر العنف مايستوجب التوثيق بشكل او بآخر محاولة لخفض منسوب العنف واللانسانية وما يرافق ذلك من مشاهد الحزن والقسوة والبشاعة الكارثية وأثرها المترسخ في ذهن المعايش والرائي ما يؤهل للتحول الى سلوك مبرر بفضل الفعل ورد الفعل لطرف يواجه طرفا آخر، ومما لا بد منه ان يتحول هذا التوثيق نحو المستندات المنظورة اكثر منه نقلا ،فالمشهد الموثق، أرشفة، اقل امكانية للتزوير والتشوش من النقل، المشهد الموثق اشد قسوة وحدة في نقل الخبر، لأن الكلمات تأخذ من بعضها الأماكن حتى ينخفض الاثر، في الوقت الذي تنتصر فيه الكلمة الحسنى على قسوة سابقيها، وهذا ما لا يمكن ان تتسامح معه الصورة .فالصورة وثيقة استعادة للحظة الحدث بكامل تفاصيله وتبعاته، كما واستثارة اضافية متكررة للمشاعر المتنكرة، وغذاء لنمو للمواقف التي تصنف ضمن دوائر الانتماء ورد الفعل وليس من الترابي بشيء لو صنفت استثارة لقيم الثأر احيانا....
الصورة حية، رغم حيادها وموضوعيتها، فهي المستند الساكن، الصامت، الا انه المعبر بصدق التفاصيل عن واقع الحدث، فالصورة قدرة على الفصل بين طرفي المُعتَدي والمُعتَدى عليه، الظالم والمظلوم، وبأقل التقدير تملك الصورة قدرة على عرض الظلم والتفوق لطرف على آخر مما يعزز المواقف المتارجحة الانقسامية بين المؤيد والضد.. ان لبعض الصور رائحة الكارثة في الانوف توثيقا، تعيشها واتخيله رغم صمتها ..
فكيف يمكن للمصور قدرة الحياد مقابل ما ينتجه؟
كيف للصورة امكانية تجاهل اثارها وقدرتها على ترويض النظر؟
اعلن القرن التاسع عشر بداية امتهان التصوير الحربي، فيما كان فنا جماليا يقتصر على تكريم الحواس وأرشفة الجمال قصورا وحدائق وبورتريهات للرؤساء واصحاب المواقع حتى ظهور المصور:" كارول بوب دي زاثماري" كأول مصور حربي، موثِقا بلقطاته احداث حرب القرم في العام 1870، مؤرخا لجوانب معركة حقيقية خلال الحرب الفرنسية البروسية محاكيا مجموعة من القوات البروسية أثناء تقدمها دون التطرق للاحداث الدموية من مجريات الحرب حينها...
اعتبرت الصورة الحربية تطورا مهنيا، فنيا، في الاطار الحربي ظنا بواجب إظهار الحقائق للناس مهما كلف الأمر، وللاعتقاد بأن هذه الصور المظلمة قد تُسهم في تغيير العالم للأفضل لما قد تؤثر في قلوب الناس سعيا لإنهاء الحروب...
يعتقد بعض المؤرخين أن "فنتون" يُعتبر أول مصور حرب في العالم، وذلك بعدما اشتهر بصورة “وادي ظل الموت” التي تُمثل البداية الحقيقية لهذا النوع من التصوير الحربي على الرغم من كونها غير وحشية كما صور الحروب اليوم متجهة لملء فسحة اكبر من الدقة والواقع مهما بلغت قساوة وعنف المشهد، وقد ذُكِر عن المصور الحربي من جنوب افريقيا: "جوا سيلفا" الذي عمل في صحيفة نيويورك تايمز لسنوات عدة والذي عمد الى تغطية النهاية العنيفة لنظام الفصل العنصري والحروب التي دارت هنا وهناك، وخسر العديد من أصدقائه فيها، قبل أن يفقد ساقيه حين داس عبوةً ناسفة في أفغانستان، والذي انتهى الى ان يرفد ملفه الشخصي بثلاث صورٍ لساقيه الممزقتين وقدمه المتدلية التقطها بنفسه عن نفسه في أعقاب الانفجار...
يشار مما تقدم من تجارب التصوير الحربي وتوثيق العنف، الى مسالة كيف تساهم الصورة في ترسيخ الاستسهال للمشهد بالتتابع والتتالي والتكرار، فالوقع الاولي للحدث يكون الأصعب تماسا، والاكثر أذية على العين والنفس ثم على السلوك، ليسلك بعدها مسار الاضطراب وردود الفعل، من عمليات التأقلم، والاستيعاب، والتعود، عدَّها التنازلي نحو الاعتيادي توازيا مع الاحترافية المهنية والفنية وقدرة النشر بتوصيفها فنيا اكثر منها موقفا متعمدا، لتسطو على العين وانماط الحياة اليومية..
ما يهمنا الاشاره اليه من هذه النبذه، مسالة الصورة، بحد ذاتها، وأثرها على السلوك والحياة السيكولوجية اللبنانية تحديدا ربطا بفائض الحروب المتتالية تاريخيا على الحياة اللبنانية ..
بالعودة لما يعاتبنا به الساردون احيانا، من الكثافة في سرد الموت واستسهال تكراره مشوها للنظرة التفاؤلية الموجب للأمل في استكمال عيش، متسائلين عن سر الحزن المعدي في اخباراتنا وبوحنا لبنانيا لمن استطاع في التعبير سبيلا ...
فقط لو يدرك السائلون كيف تخلى الموت عن كونه وعاء للحزن منا، وفينا، في وطن منكوب ..
لم يعد الموت فقدا...
لم يعد حدثا مؤثرا عاطفيا بقوة انتشاره..
لم يعد ألما..
هل يعرف الساردون كيف اننا نقارن وفاة بأخرى، شاكرين الهتنا على وفاة الاسرع والاقل تشويها ووجعا في مصابنا فقدا ، في وطن مكتظ باحداثه القاتلة؟
انه الموت الذي نوثقه صورا فيعيش معنا وبيننا..
بات الموت خبرا، مجردا من كل تبعاته، من كل مشاعره، من كل مستلزمات طقوسه ومترتبات ما قبله وما بعده....
فالموت في ظل الحروب المتتالية هذه، هو الجزء الايسر من حيواتنا المنتظرة لوضع حد سياتي ملزما لنهايتها..
الموت يحتسب في يومياتنا، تماما كما نحتسب مخزوننا المالي، التي سننفقه استهلاكا، فمع صحونا، تبدأ مسيرة الانفاق، لكننا ننفق ارواحا، ننفق احبابا، ننفق بشرا، ونستهلك صورا لحفظهم، ولتحنيط ذاكرتنا مما توقف منهم ومعهم، اننا نستبدل موتانا بالصور، امهاتنا تمشط شغر الصورة بشرائط الحداد....
تعدد ندبا اغنيات النوم لضمان حلم جميل لجثثهم.
ففي الوقت الذي يُعتبر الانفاق المالي رهن حاجات بيولوجية للاستمرار والبقاء، الا اننا ننفق موتا للحد من البقاء، ونعرف جيدا اننا ننفق ولا يمكننا تباخلا تجاه ذلك، نحن مسيرون موتا، لا نملك ترف انتظار الهة تقرر مصائرنا موتا او حياة...
موتانا منتشرة بيننا وفي كل مكان، لا تملك أرضا ثابتة لجثثها، او شواهد لقبورها، موتانا صور واسماء معلقة على أعمدة الانارة في الطرقات، اسوار الحدائق، حتى على جدران الابنية وشرفاتها، سيل صور يتدفق كيفما توجهت، يفرض نفسه على أعيننا، افراد في صور تفرض وجودهها حية على الرائي..
صور تضحك للمارة، تنظر اليها بحنين حينا، بحزن، بجرأة المفارق واشتياقه احيانا..
صور تعلن اسماءها جهارة، بالخط المكتوب إخبارا، موتانا تفقد مهارة الكلمات، هذا جل مصابها، لا تتكلم، فهي من امكنتها انتشارا، تذكرنا بسِّيَر الولادة، اسرها، عائلاتها ، مناطقها وشهاداتها لتترك لنا حركة الذاكرة احداثا..
صور تتكاثر ايضا.. هل تعرفون تكاثر الموتى ايها المتسائلون؟
لا تنحصر موتانا بصورة واحدة، فالاسم صورة تتكاثر صورا متتالية، حيث يتكرر المتوفي بالصورة على امتداد تبعد امتارا قليلة عن بعضها، يتتالى، تنتشر، لا تسمح لك عيش الفقد مع هذا الانتشار والتكاثر، يصبح الشخص نفسه اضعافا مضاعفة، تعدادا يسطو على الاعين قسرا، نهابه تعدادا، نعتاده حضورا،نحصي تصاغرنا في انتشار الصور مع كل مرور ...
موتانا سيل صور منتشر، اينما وَجَدت مساحات تتسع، نحيلها شواهد للقبور.. حتى تراب الارض مُروض ليتخطى قسوة الموت، توافَق التراب مع فكرة الطرد، لم يعد جاذبا لجثثنا، يرفضنا، ويستبعد منا جثثنا، فأي حزن يمكن ان يعترينا و نحن سيل مصور يعيش على الاعمدة، وعلى جدران الانتظار؟ ..
صور موتانا تبشرنا برقمية جديدة، رقمية لا تمت للعلمية باي صلة، نحن من نستمر حياة، مشاريع صور، تعداد ارقام يحمل منا اسماءنا، ينتظر صفوفا على قواعد الاعمدة بانتظار ترقينا امتشاقا..
نحن المستمرون حياة، تصالحنا مع المسافة بالملء انتشارا للصور، نخاف الفراغات، تذكرنا بالفقد، اعتدنا الخدر، لم يعد يهزنا فُقد لاننا منشغلون بالاتي تعدادا، لا نملك ترف التوقيت..
لا نملك ترف الانتظار...
الحزن ترف المتوقفين ..
الحزن للمالكين...
نحن المستمرون حياة، لا نملك واقعنا، نعيش في ناصية الانتظار، ندور في نواعير التعداد...
اي حزن يمكنه السطوة على صورة ؟
حزننا الأوحد ، اننا لا نملك الوقت لترف الحزن ...
خديجة جعفر
12/11/2024