مقالات وآراء
سفينة ثيسيوس وجدلية الهوية: تحولات في الواقع العربي والعراقي// د. عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 10 حزيران/يونيو 2025 21:27
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 647
د. عامر ملوكا
سفينة ثيسيوس وجدلية الهوية: تحولات في الواقع العربي والعراقي
د. عامر ملوكا
في الفلسفة اليونانية القديمة، تبرز حكاية تلامس أعماق العقل والوجدان معا: مفارقة "سفينة ثيسيوس". تخيّل سفينة أبحر بها البطل الإغريقي ثيسيوس بعد انتصاره على المينوتور، وقد أصبحت مع مرور الزمن رمزا للبطولة والذاكرة الجماعية. ولأن الأثينيين أرادوا الحفاظ عليها كما كانت، بدأوا يستبدلون الأجزاء التي تتآكل أو تتلف، قطعةً تلو أخرى، بخشب جديد. ومع مرور السنوات، تغيّر كل شيء فيها… ولم يبقَ من السفينة الأصلية أي جزء مادي.
وهنا يتبادر للذهن السؤال الذي حيّر الفلاسفة منذ قرون: هل ما زالت تلك هي السفينة نفسها؟ أم أننا أمام كيان آخر جديد، يشبه القديم فقط في الاسم والشكل؟
بلوتارخ، المؤرخ والفيلسوف، هو من نقل إلينا هذه القصة. ومن بعده جاء فلاسفة كُثر، مثل هيراقليطس وأفلاطون، ليتأملوا في معنى التغيّر، فيما يجعل الشيء ذاته رغم تبدّل مكوناته. ثم أتى توماس هوبز، ليضيف طبقة جديدة من التعقيد: ماذا لو جمعنا كل الأجزاء القديمة التي أُزيلت، وأعدنا تركيبها كما كانت؟ أي السفينتين إذًا تحمل "الهوية الحقيقية" لسفينة ثيسيوس؟
هذه المفارقة ليست لغزا نظريا فقط، بل نافذة على أسئلة أكبر وأقرب إلى أنفسنا: ما الذي يجعلنا نحن؟ هل نحن أجسادنا التي تتغير ببطء؟ أم ذكرياتنا، وعلاقاتنا، والقصص التي نحملها في داخلنا؟ هل يمكن أن تبقى هوية الشيء، أو الإنسان، قائمة رغم أن كل ما فيه قد تغيّر؟
إنها ليست مجرد حكاية عن سفينة، بل تأمل في الحياة ذاتها، في مرور الزمن، في الذاكرة والجوهر، وفيما يبقى حين يرحل كل شيء آخر.
إذا نظرنا إلى هذا المفهوم في إطار الواقع العربي بشكل عام، والعراقي بشكل خاص، نرى أنه في جوهره يعكس ما نعيشه اليوم. المجتمعات العربية، على مر تاريخها، شهدت تحولات عميقة: احتلالات، حروب، تغييرات في الأنظمة، تهجير ثقافي، تطور لغوي واجتماعي، تحولات اقتصادية. وكل مرحلة من هذه المراحل كانت بمثابة "استبدال لجزء من السفينة". وفي العراق، يبدو هذا الأمر أكثر وضوحا؛ فمنذ عقود من الحروب والحصار، ثم التغيرات السياسية والاجتماعية المتلاحقة، تبدلت العديد من معالم الحياة: المدن، الثقافة، التعليم، القيم الاجتماعية، وطريقة التعبير عن الهوية الوطنية.
في هذا السياق، نجد أن بغداد، عاصمة الرشيد، التي كانت يوما ما مركزا للحضارة والعلوم، تعرضت لتدمير متكرر من الغزو المغولي إلى الاحتلالات الحديثة. ورغم محاولات إعادة إعمارها المتكررة، فإن العديد من معالمها المادية قد تغيرت، لكن ظلّت بغداد رمزا ثقافيا حيا في الذاكرة الشعبية. على صعيد آخر، اللغة العربية في العراق تأثرت باللغات الفارسية والتركية والإنجليزية، لكن العراقيين حافظوا على لهجتهم الخاصة، وظلت الأشعار الشعبية والفصيحة جزءا لا يتجزأ من ثقافتهم اليومية.
أما المجتمع الأكاديمي في العراق، الذي كان يمثل أحد أعمدة النخبة في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، فقد عانى من تآكل كبير بسبب الحروب والهجرة الجماعية للكفاءات العلمية. ورغم هذه التحديات، تواصل الجامعات العراقية جهودها لإعادة النهوض، رغم قلة الإمكانيات. وفيما يتعلق بالتراث الشعبي، مثل الأغاني والمواكب الدينية والمهرجانات، فقد تطور شكلها وأسلوب تنظيمها، لكنها تظل تعبيرا عن روح جماعية تربط الأجيال الماضية بالحاضرة.
لكن، وعلى الرغم من كل هذا التغير، يبقى السؤال الجوهري: هل ظل العراق كما هو؟ هل بقي الشعب العربي كما كان، أم أننا أمام واقع جديد يحمل ذكرى الماضي؟
الحقيقة أن الهوية ليست مجرد مجموع الأجزاء المادية أو العادات الظاهرة؛ فهي جوهر أعمق، يكمن في الروح الجماعية، في الإيمان العميق بالانتماء، وفي الاستمرار في رواية القصة الكبرى التي تربط الماضي بالحاضر. قد تتغير اللغة في تفاصيلها، والعادات في مظاهرها، والحدود في خرائطها، لكن ما دام الجوهر حيا، فإن "السفينة" تظل نفسها.
ما يحدث اليوم في العراق والعالم العربي يمكن اعتباره عملية صيانة مستمرة للهوية: بعض الأجزاء استُبدلت قسرا، وبعضها تآكل مع الزمن، لكن هناك دائمًا مقاومة خلاقة تحاول الحفاظ على الجوهر، أو حتى إعادة بنائه بما يتناسب مع الكرامة والذاكرة. أما الخطر الحقيقي، فهو ليس في تبدل الأجزاء، بل في فقدان الإحساس بالمعنى الأصلي. إذا فقدنا القصص التي جمعتنا، والأحلام التي أوقدت قلوبنا، تتحول السفينة إلى مجرد هيكل فارغ، مهما كانت جديدة وأنيقة.
لذلك، في هذا الوقت، تكمن المهمة الأكبر في العالم العربي والعراقي في تجديد المعنى، وحفظ هوية حية قادرة على التكيف مع التغيرات، دون أن تفقد جذورها.