حسين الاعظمي
يوميات حسين الاعظمي (1407)
المقام العراقي رواية العراقيين - 13
من كتاب (المقام العراقي في مئة عام)
تحت عنوان داخلي مركزي
المقام العراقي رواية العراقيين - 13
تماسك العلاقات في المسارات اللحنية
واقع الحال، فان كل المقامات العراقية التي خلّفها لنا الاستاذ محمد القبانجي بصوته وادائه المميز، عبّرت عن حقبة التحول بصورة جمالية مثيرة. فهو فنان كبير لأن عواطفه الشخصية ومشاعره تتوافقان مع ثقافة وجماليات وذوق حقبة التحول التي عاصرها. ولأنه كان واعيا لجوانبها الايجابية والسلبية..! حيث اعطى لهذا الوعي تعبيراً اوضح ولطريقته التي حمل رايتها في يسرها وعسرها مفهوما اوسع. انه يقدم لنا غناء المقام العراقي كاملاً. انه كامل ولكنه مُعد الى اقصى درجة من الحبكة والاحكام. وهذا الاعداد في قوة الحبكة وتماسك العلاقات الداخلية لعناصر المقام العراقي بصوت القبانجي، هو على اية حال ليس متكلفا. بل هو اعداد فني ناتج عن امكانية فذة واعية وغير واعية. وبكلمة اخرى فان القبانجي بتعبيره الدقيق عن ظروف حقبته الزمنية، يعبِّر عن جميع مشاكل الحياة الشــــعبية وجمالياتها لكل فئات المجتمع الذوقية..!
يمكننا ان نتساءل، ماهي العلاقة بين امكانية القبانجي على تصوير واقع الحياة المعاصرة، والدور الذي تلعبه ظروف هذا العصر بتحولاتهـــا السريعة..؟ وللاجابة على هذا التساؤل. اذ يبدو اني قد فهمتُ شيئا من هذا السر في امكانية استاذنا القبانجي. حيث قلت مرة، ان المقامات العراقية التي سجلها القبانجي بصوته، تسير في نفس منحى المقامات العراقية التي اداها المغنون الكبار ممن سبقوه في تاريخ هذا الغناء. وبهذه المقامات العراقية، فقد استلزم حضورهم في هذا التاريخ كمنعطفات فنية غنائية تاريخية رفدوا من خلالها المقام العراقي بروح جديدة كل في حقبته.كالمؤدي رحمة الله شلتاغ(1793-1871)مؤسس الطريقة الشلتاغية. واحمد الزيدان، ورشيد القندرجي، والملا عثمان الموصلي الرائد البارز في النهضة العربية الموسيقية حتى محمد القبانجي. وعليه يعيش المتلقي تجربة هذا التاريخ في شخصيات المؤدين الكبار المهمة. وانها لمهمة الكتّاب والنقاد بالفعل خلال هذا التاريخ ان يوضحوا ما يحدث من فن في هذا الاداء وإلقاء الضوء على الامكانيات الفذة لدى المؤدين الكبار، لتكون نتاجاتهم هي التي تجعلهم يظهرون بمظهر المؤدين الكبار الفعليين ضمن مسيرة التاريخ المقامي.
هكذا يترك المغنون الكبار نتاجاتهم المقامية العراقية تنمو من خلال روح العصر الذي يعيشون فيه. فالعلاقة هنا تكون وطيدة بين امكانياتهم وفرص حقبتهم المتاحة. وبالتالي فالامر مرهون بمستوى مهارة كل منهم في تنمية هذه العلاقة. ولهذا نراهم وقد اصبحوا مؤدين مركزيين بين كل اقرانهم من المؤدين المقاميين في حقبتهم الزمنية.
ان عبقرية المؤدين الابداعية الفذة، تُظهر نفسها في الصفات الادائية المقامية والفنية المميزة. الفردية التي يسبغونها على مقاماتهم التي يسجلوها باصواتهم الغنائية المقتدرةالرئيسة والفرعية. بحيث يعطونا مقامات متماسكة في حبكة ديناميكية رصينة. وفي مثل هذه الاعمال وهذا المستوى من النتاج الفني. يجري التمييز بين المغني كقائد لعمله، والمقام العراقي كمادة غنائية تراثية ببراعة فائقة. فمقام المنصوري(سلّمه صبا) مثلاً الذي يغنيه القبانجي بهذه القصيدة المخمسة لشاعر القصيدة الاصلية قبل تخميسها كاظم الازري.
(كيف يقوى على الجفا مســتهام / عنك لم يلهه نديـــــم وجام)
(بك اقسمت والهوى اقســــام / أي وعيــــنيك ما المدام مدام)
(يوم تجفو ولا النداما ندامــــــا)
اذ يمثل مقام المنصوري هذا، الذروة العاطفية لدى الجمهور المتلقي. لذا فإن هذا التفاعل الوثيق، أي وحدة العمل المتكاملة والعميقة، بين المؤدين كقواد لاعمالهم الفنية، وبين مادة غنائهم. اذ يبرز من حيث الحصيلة النهائية. نجاح ديناميكية ادائهم بكل مقوماتها في مثل هذه الاعمال. ففي مقام المنصوري ندرك ان القبانجي مهيمنا تماما على مواد مادته الغنائية، ومهيمنا على مضامين ادائه لمادته..! هكذا تخلد الاعمال الفنية، وهكذا يخلد المغنون الجيدون. وفي مثل هذه النتاجات ايضا، يمكن التعبير عن العلاقات المتبادلة، بين نفسية الناس وظروف حياتهم الاجتماعية والمعنوية، التي اصبحت في تلك الحقب على درجة من التعقيد بحيث تحتاج الى تصوير واسع جدا لهذه الظروف والتفاعلات، التي انبرى لها مؤدون كبار في الغناء والموسيقى. كل في حقبته كرشيد القندرجي ومحمد القبانجي ومن امثالهما في المستوى الذين ايقظوا العصور البعيدة المتلاشية من تاريخ هذا التراث الغناسيقي الحضاري(المقام العراقي). وبواسطة هذه المستويات التعبيرية في الاداء المقامي، التي بواسطتها تمكن الناس ان يعيشوا عبر هذه النتاجات المقامية المعبرة، العصور مرة اخرى. بخيالهم، بتأملاتهم، بأحلامهم، بتصويراتهم. انه تفاعل محسوس بين الانسان وتاريخه، بين الانسان وبيئته الاجتماعية باوسع طريقة. وعليه فقد كانت هذه النتاجاتترتبط ارتباطا وثيقا بمحاولة تصوير الواقع التاريخي للمقام العراقي كما كان تقريبا..! وكما هو عليه في العصر الراهن..! مع الاحساس بالمستقبل. فالقضية هي قضيةتركيز الوصف او التصوير لكل ما يعني المقام العراقي والمجتمع البغدادي.
والى حلقة اخرى ان شاء الله
صورة واحدة / حسين الاعظمي يتوسط اعضاء فرقته الموسيقية قبل الظهور على المسرح الوطني في المنامة العاصمة البحرينية في افتتاح مهرجان البحرين الدولي 27. الواقفون يميناً حسين علي اسماعيل واديب الجاف وعلاء مجيد وسعيد البغدادي وضياء المندلاوي و د.خالد محمد علي وخالد كمر. الجالسون وسام العزاوي والاعظمي و د.محمد كمر في 18 /10 /2018.