اخر الاخبار:
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

• "مشكلة المرأة" والمثقفين في متغيرات العقود الأخيرة (4 – 4)

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نيّره توحيدي

"مشكلة المرأة" والمثقفين في متغيرات العقود الأخيرة (4 – 4)

الناشطة النسوية الإيرانية د. نيّره توحيدي

"المدرسة النسوية"

تعريب عادل حبه

 

التشدد في الهروب من الجسد

اعتقد المثقفون المذهبيون وغير المذهبيين خلال عقود ما قبل الثورة الإيرانية، بأن ثقافة وقيم الاستعمار الغربي قد أذكت الميول الشهوانية وتربية الجسد، وأدت بالأفراد إلى الانغمار في متع المدينة إلى حد فقدان سيطرتهم على العقل والإيمان. واعتبرت المعارضة المذهبية أن ازدياد حضور النساء في المجتمع والاختلاط بين المرأة والرجل في مجالات مختلفة ووجود دور السينما والحانات وحفلات الرقص كانت سبباً في انتشار الفساد والفتنة. 

أما المثقفون غير المذهبيين فقد اعتبروا أن انتشار الميول الشهوانية والانفلات والعناية بالجسد وملئ البطون هي مظاهر من الثقافة الامبريالية أدت إلى الابتعاد عن السياسة وفقدان التعقل والتفكير بين أفراد الشعب. فعلى سبيل المثال أكد جلال آل أحمد عند شرحه لخصائص الشخص المتأثر بالنزعة الغربية بأنه:"انسان تافه ويهتم كثيراً بمظهره ولباسه وشعر رأسه.. وأشبه ببضاعة جديدة خرج للتو من غلافها. ومن اجل هذا الإنسان يتم نشر كتاب خاص بالطبخ لإشباع البطن اسمه "طريق القلب".

وعلى هذا فإذا ما بالغ الإنسان ذي النزعة الغربية في العناية بـ"بطنه وجسده"، فمن الواجب على المثقف المعارض أن يواجه هذه النزعة الغربية بالوقوع في دائرة قطب آخر من مستنقع الشذوذ، أي الهروب من الجسد، وكبح مطالب الجسد ونفي الميول الطبيعية، واللجوء إلى الزهد وحيازة الملابس الرثة والامتناع عن أي مظهر من مظاهر الفرح وعبادة الشهيد والفداء. ويعمد الكثير من المثقفين اليساريين غير المذهبيين، من أجل اثبات صدقهم وموفقيتهم في مواجهة "أعراض النزعة الغربية"، إلى التسابق مع أنصار المعارضة المذهبية والعمل على محو النفس وعواطف الإنسان الطبيعية والجنسية، واللجوء إلى الزهد بشكل أشد مما يدل على التشابه مع المذهبيين، دون أن يعني ذلك تطابق أيديولوجياتهما، فهم يرفضون تناول المشروب والامتناع عن الرقص والفرح والاختلاط بالمرأة. ومن جملة سلسلة السلوكيات التي تمارس على طريق محو النفس هو عدم العناية بالزوجة والابن، وعدم استخدام الحمام وعدم ارتداء الملابس النظيفة والحلاقة، تطبيقاً للمثل المعروف "رمي التراب في فنجان الشاي". ولقيت هذه الدعوات المتطرفة الرواج بحيث تم دعوة الثوري إلى الامتناع عن الزواج حيثما أمكن، أو انجاب الأطفال. ولكن من المثير أنه بعد سقوط الشاه مباشرة لوحظت موجة كبيرة من مراسيم الزواج بين الثوريين، كما لو أن الانتصار على الشاه والشعور بالاستقلال السياسي قد هيأ الفرصة للاستجابة لحاجات الجسد. وهنا لابد من التذكير أن القضية لم تتعلق فقط بمسألة الروح والجسد أو العقل والشعور، بل تتعلق بالضغط والقمع السياسي والديكتاتورية البوليسية، والتعذيب والسجون، وهي عوامل مهمة أخرى قد ساهمت في إذكاء هذه الثقافة وتقوية ثنائية الرؤيا بين المثقفين المناضلين، بحيث يتم نفي الميول الفردية واللجوء إلى نكران الذات والزهد والفداء الملازم للحركات النضالية، بدعوى أنها توفر الحماية للتنظيمات السياسية السرية حسب تقديراتهم.

  المرأة فاقدة الجنسية

دخلت المرأة ميدان المجتمع والعمل والكسب والتحصيل والجامعة في ظروف فرض على النساء نزع الحجاب، سواء بإرادتهن أم لا. وأصبح الرجل وجهاً لوجه أمام المرأة ضمن محيط مشروع وليس تحت رقابة العائلة فحسب، بل تحت رقابة المجتمع وأمام الملأ العام، في الجامعة والمدرسة والدائرة والمعمل و... حتى في ميدان السياسة والنضال ضد الامبريالية. فالمرأة المتأثرة بالنزعة الغربية ملوثة، والرجل أصبح أكثر من السابق عرضة لـ"هوى النفس" والسقوط الأخلاقي والإصابة بمرض النزعة الغربية والركض وراء الجسد. وفي مثل هذا الفضاء الملوث يصبح الهروب من الجسد بمثابة ردة فعل سياسي أشد تبلوراً، ويغدو كبح الجنس والمشاعر والوساوس إزاء جسم المرأة أكثر حدة. ولكن كيف كان على النساء التصرف وقد وجدن أنفسهن على حين غرة في خندق الرجال، وشرعن في الصراع ضد "النزعة الغربية" والأمبريالية؟ وماذا ينبغي العمل إزاء النساء الثوريات من أعضاء المنظمات الثورية كالفدائيات والمجاهدات اللاتي استجبن وقلن "لبيك" لدعوات علي شريعتي وأمثاله؟ الجواب هو أن تكون هؤلاء النسوة من طراز خاص، أي نساء فاقدات للجنس وما وراء الجسد.

وهكذا تحولت النساء المنخرطات في صف القوى اليسارية (غير المذهبية)، اللاتي كشفن عن رؤوسهن وعن ظاهرهن، إلى موجود أقرب إلى الرجل. فراحت هذه المرأة تحاول التنكر لجنسها من حيث السلوك والتصرف الاجتماعي. أما النساء اللاتي انخرطن في صف الحركة الإسلامية (أنصار علي شريعتي والمجاهدين)، فقد أبدعَن ملابس وزي خاص بهن (لا يشبه العباءة والملابس التقليدية للمرأة الإيرانية، ولا هي ملابس فرنجية)، أي سترة وشلوار واسع وداكن مع غطاء للرأس كي تتنزه المرأة من أية "معصية وشرور نسائية"، وفي نفس الوقت يصبح هذا الزي بمثابة تعبير عن هوية جديدة للنساء الإيرانيات، هوية على حد قول دنيس كنديوتي عند تطرقه إلى الوضع في تركية هي عبارة عن نوع من "المصالحة الوطنية" في خضم الصراع بين الُسنة والتجدد من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الوطنية و "النزعة الغربية". وطل وجه جديد في إيران، وجه بالغ الجدية والاطمئنان (بلا خشونة)، وجه مصمم ومغرور يحكي عن الثقة بالنفس لدى النساء، وهو وجه جديد في التاريخ السياسي الإيراني. واتخذ هذا الوجه شكلاً مادياً في المجتمع قبل أن يدوّن في الأدب والقصص. وعلى الرغم من أن هذا الوجه لم يجد له انتشاراً واسعاً في المجتمع الإيراني، إلاّ أنه كان بالغ التأثير والنفوذ. فلم يعد هذا الوجه في نظر الشعب وفي نظر المرأة نفسها وجهاً نسائياً، بل "نصف رجالي". إنه ليس  وجه امرأة بل أخت ورفيق فاقد للجنس، يستطيع أن يقف إلى جانب الرجل وكتفاً لكتف في سوح النضال.

ويجب القول إن تصوير الوجوه الثورية كوجوه مثالية في أذهان الشعب وأنصارهم لا تنحصر فقط بالنساء الثوريات. فقد رسمت صورة ما فوق البشر للرجال الثوريين الفدائيين والمجاهدين. ولكن ترسيم صورة غير جسدية تنفي البعد الجنسي للنساء هو الأكثر بروزاً والأعمق معنى. فعلى سبيل المثال نستطيع أن نفهم ضمن هذا الوضع واستناداً إلى أرضية علم النفس الاجتماعي سبب توجيه الاتهامات إلى فنان مثل فروغ فرخزاد بدعوى "الميل للجسد" وسعيه للتدقيق في الملامح الطبيعية للجنس والميول الجنسية وتثمين العواطف والمشاعر (خاصة عواطف النساء) من قبل الكثير من المثقفين المناضلين في تلك الفترة (بالإضافة إلى المثقفين غير المناضلين). وتم تجاهل هذا الفنان وحتى تخطئته والحط من قيمه الفنية والثقافية ضمن هذه المعايير الأخلاقية الرائجة. ولكننا نرى أن امرأة فنانة مثل پروين اعتصامي، فلم يتم القبول بها فقط، بل أحيطت بعاصفة من الثناء والمديح لتقواها وفضائلها الأخلاقية، وصورت على أنها فاقدة للجنس وشخصية هاربة من السعي وراء الجسد.

ج - قوى اليسار: الجبرية الاقتصادية (Economic Determinism)

عملت القوى الثورية اليسارية والماركسية في العقود الأخيرة على خلق نماذجها حيال المرأة، وهي نماذج طليعية ومجردة وغير ملموسة ولا عملية بالنسبة لغالبية النساء (وكمثال على ذلك المرأة الفدائية). إن هذه النماذج وما رافقها من انعكاسات لها في الأدب والمقالات، لم تستطع أن  تمد الجسور مع المرأة العاملة والموظفة وربة البيت الإيرانية، أو الجواب على الصراعات والمشاكل الخاصة للمرأة. ووقفت القوى اليسارية إزاء أزمة هوية المرأة المدينية موقفاً مرتبكاً يتسم بالضياع حيال انهيار القيم والاعتقادات والتقاليد القديمة من ناحية، ومن ناحية أخرى موجة الأفكار والأنماط والنماذج الجديدة الراديوية والتلفزيونية والسينمائية ومجلة "إمرأة اليوم". ولم يقدم اليسار بدائل عملية لذلك. ولم يطرح اليسار أجوبة عملية أو برامج ملموسة للمشاكل والنزاعات التي تعاني منها المرأة المدينية يومياً وفي حياة تنتقل بسرعة بين البيت ومحل العمل، وفي ظل انعدام الإمكانات المناسبة لرعاية الأطفال والضغوط العصبية والعاطفية الناشئة عن عبء العمل المضاعف (العمل في الخارج وفي البيت)، والشعور بالاثم والقلق الدائم حيال التقصير في تنفيذ "وظائف" الأمومة والزوجية وربة البيت، والاضطراب الدائم من احتمال تعرض سمعتها  للاتهامات  وسوء استغلالها من قبل أرباب العمل والمدراء، والشعور الدائم بانعدام الأمن المالي والاقتصادي، والقلق الدائم من عدم قدرتها على مجاراة مظهر "المرأة الحديثة". كما لم تطرح قوى المعارضة اليسارية ولا حتى المنظمات والجمعيات النسوية التي تكونت بعد الثورة، حلولاً عملية لـ"مشكلة المرأة"، أو لم يحالفها الحظ في ذلك. ومن أجل الجواب على هذه التساؤلات، ينبغي  التوقف عند عدد من العوامل. ولكننا نتطرق هنا إلى عاملين، دون تجاهل العوامل العامة الأخرى. وهذان العاملان هما: 1 - الجبرية الاقتصادية ، 2 - فقدان الوعي الديمقراطي وعدم تشخيص القوى التي  تعبر بالفعل عن الحركة النسائية.

 

  • 1-   لقد جرى البحث بشكل واسع حول المذهب الاقتصادي والنزعة الاقتصادية  و"التمثل العمالي" الشيوعي التقليدي، الذي لم يقتصر على اليسار الإيراني. وكتب الكثير عن النقد النظري الشيوعي حول قضية المرأة، ويحتاج ذلك إلى بحث منفصل. وباختصار ينبغي الإشارة إلى أن المثقفين الماركسيين اليساريين، رغم أنهم قد أولوا اهتماماً أكثر من سائر المثقفين المناضلين لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة، وأكدوا على ضرورة مشاركة المرأة في كل ميادين النشاط الإنساني انطلاقاً من موقف أيديولوجي، إلاّ أنهم من الناحية العملية (وحتى في المجال النظري) أصيبوا بنوع من "العمى الجنسي"، ونظروا إلى البشر كمجرد اقطاعيين وأقنان وفلاحين وملاك وعمال ورأسماليين وبرجوازيين صغار.. ولم ينتبهوا ولحد الآن إلى أن أفراد المجتمع اليوم على الرغم من ميولهم، وقبل كل شىء، منقسمون إلى نساء ورجال. وللأسف فإن هذا التقسيم هو ليس تقسيماً طبيعياً، أي متعلق بعلم الأحياء وعلم التشريح فحسب، بل هو تقسيم سياسي واجتماعي. فعلى خلفية كل سلسلة المراتب الطبقية، تكونت سلسلة من المراتب القائمة على أساس جنسي. ويلاحظ في بعض المجتمعات وجود سلسلة من المراتب تقوم على أساس عنصري وقومي، رغم أن التسلسل الهرمي الجنسي والتسلسل الهرمي الطبقي على صلة ديالكتيكية بينهما. ولكنهما في نفس الوقت واقعان ملموسان قابلان للتفكيك بعضه عن البعض الآخر. إن "مشكلة المرأة" خلافاً لوجهات نظر الشيوعيين الأرثوذوكس لا تكمن في كونها تتعرض لـ "استغلال مضاعف" ولا لـ"ظلم مزدوج" بمفهومه الاقتصادي. لأن مشكلة المرأة لا تخص النساء العاملات والكادحات وحدهن. فالرجال العمال لم يكونوا أقل من الرجال البرجوازيين في نوازعهم الجنسية وموقفهم إزاء المرأة. فهم أي العمال يحملون نفس الثقافة والعلاقات التي نجدها في النزعة البرجوازية القائمة على مدارات الرجل. وهم يسلكون أحياناً سلوكاً أشد عنفاً وأكثر خشونة إزاء نسائهم وأطفالهم نتيجة لفقدانها القدرة السياسية والتعليم وضعف القدرة الاقتصادية، خاصة إذا كانت النساء في علاقة تبعية اقتصادية لهم. ولا يكفي أن تساهم المرأة في الانتاج الاجتماعي كي تحل مشكلة المرأة، ولا حتى أن تُفجّر ثورة اشتراكية وتُلغي الملكية الخاصة على وسائل الانتاج. وحتى لو تم تحقيق كلا هذين العاملين الضروريين على طريق حل مشكلة المرأة، فستبقى قائمة مشكلة توزيع العمل على أساس الجنس خاصة في ميدان إعادة الانتاج والتفكيك الجنسي.

 

إن حصر كل المشاكل ومن ضمنها "مشكلة المرأة" بالتناقضات الطبقية والاجتماعية، هي نظرة أحادية الجانب عند الشيوعيين. إن بعض الشيوعيين في إيران لا ينظرون إلى زيادة عدد القوى العاملة بين النساء وارتفاع سعر قوة عمل النساء المشاركات في سوق العمل بمثابة ظاهرة ضرورية وايجابية لا يمكن اجتنابها في حياة المدينة في ظل نمو العلاقات الرأسمالية، بل مجرد عوارض ناشئة عن حاجة سوق الرأسمال إلى استغلال العمل الرخيص للمرأة. ويعتبر هؤلاء أن النساء العاملات مجرد قرابين للنظام الرأسمالي، ويجب النظر إلى الحركة النسائية فقط وبالضرورة في إطار النضال الطبقي للنساء العاملات. أنهم ينفون وينبذون أي نوع من النضال الديمقراطي الذي لا تلعب فيه التناقضات الطبقية دوراً أساسياً فيه.

لنلقي نظرة على ما يطرح هؤلاء كنموذج لمفاهيمهم، فهم يؤكدون:" إن كل منظمة تسعى إلى تنظيم النساء تحت لافتة "المشكلة العامة للمرأة" أو لافتة "الآلام والمعاناة المشتركة للنساء"، وتتستر على التناقضات الموجودة بين الطبقات المتخاصمة و.. أن ترى إمكانية إزالة الحقوق المنتهكة للنساء في ظل الرأسمالية، وليس في ظل الحكم البروليتاري وفي المجتمع الاشتراكي، هو ضرب من المنظمات التحريفية، وتضليل لقوى النساء الكادحات وخيانتهن، وخدمة للبرجوازية..".

ويشار في مجال آخر إلى أنه إذا لم تتوفر الأركان الأصلية لمنظمات نسائية ديمقراطية، أي النساء الكادحات،:" فإن أي مسعى لتشكيل مثل هذه التنظيمات هو بدون مضمون وجهد، وينحصر بجهد للمثقفين فقط". وينطبق مثل هذا المفهوم على كل الجمعيات والاتحادات النسائية التي تشكلت طوال النضال الديمقراطي والمعادي للامبريالية في إيران منذ المشروطة وحتى الآن، والتي يتم تخطئتها من قبل هؤلاء. لقد وسمت بالعبث كل النضالات ونشاطات المثقفين وكل المساعي الاصلاحية لجمعيات على شاكلة "سعادة النساء" " والنساء الوطنيات" و "الجمعية الثورية النسائية" التي تكونت بعد ثورة المشروطة، وغالبيتها في إطار بورجوازي – اصلاحي. ولابد أن تتهم المنظمات التي تشكلت مع قيام الثورة عام 1978 مثل "الاتحاد الوطني للنساء" و "جمعية تحرر المرأة" و "جمعية النساء المناضلات" و.. أيضاً بأنها تحريفية وعبثية لكون تركيبتها بالأساس من المثقفات.. إن مثل أصحاب هذه النظرة لم يؤيدوا المظاهرات التي جرت في شهر آذار/مارس عام 1978 ضد الحجاب وضد القوانين المعادية للمرأة والعائلة، خاصة وإن أكثرية المشاركات هن من الفئات النسوية المدينية الحديثة (البرجوازية الصغيرة)، ومرفهات نسبياً، وإن دافع المظاهرات لم يكن طبقياً بل يتمحور حول مطالب ديمقراطية تخص المرأة.

2- ويعد فقدان الوعي الديمقراطي بمثابة الانحراف الثاني، وله علاقة مباشرة بالنقيصة الأولى، وبان بشكل واضح في المنظمات النسائية. فقد تأسست هذه المنظمات في الغالب من قبل النساء النشطات العضوات في المنظمات الشيوعية واليسارية أو من قبل أنصارها، وهذا بحد ذاته لا يمثل أية مشكلة. ولكن المشكلة تتحدد في النظرة  الغالبة للنساء وموقفهن من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم استقلالية المنظمات النسائية عن المنظمات السياسية. وبعبارة أخرى الاشكالية في فقدان الجوهر والخصال الديمقراطية في التنظيمات النسائية. وينبغي الانتباه إلى أن تجربة النضال وتراكمها والتأثيرات النسوية على أساس ديمقراطي تؤدي إلى انخراط النساء بسوح النشاط، وتقود تدريجياً إلى تحول ضروري في رؤى وعمل الناشطات وقيادة هذه التنظيمات، ولولا القمع في الجمهورية الإسلامية، لأصبح عمر هذه التنظيمات أكثر طولاً. مما سيدفع عدداً من هذه المنظمات إلى إجراء تحول أساسي في تركيبها وسياستها وعملها، وتتجه نحو صياغة برنامج وأهداف وستراتيجية ملموسة وواعية لمطالب النساء.

من الدروس التي يمكن استخلاصها عند تحليل توجه الحركات اليسارية نحو المنظمات النسائية خلال العشر سنوات الأخيرة، والتي يجب الأخذ بها في المستقبل من قبل هذه الحركات، هي أن يتم تقييم واقعي للقوى التي تمثل بالفعل وبالقوة الحركة النسائية. فتاريخ نضالات المرأة سواء في أوربا وأمريكا أو في بلدان"العالم الثالث" يوضح أن نساء الطبقة المتوسطة المدينية يشكلن طلائع صفوف الحركات النسائية.. ولهذا فليس من باب الصدفة أن تقوم النساء المدينيات من الطبقة المتوسطة والمرفهة نسبياً  في تنظيم النساء والمشاركة بالحركات النضالية مثل المظاهرات  وضد الحجاب الإجباري. ويجب على النساء التقدميات والتنظيمات النسائية اليسارية التي تريد أن تصحح وترتقي بنظرتها الضيقة والأحادية الجانب والإقتصادية أن تدرك هذا الواقع وتشخص أهمية ودور نساء الطبقة المتوسطة، وأهمية وعيهن النسبي وحساسيتهن حيال "مشكلة المرأة"، وأهمية تنظيم قواها لحماية هذه الفئة من النساء. ومن المسلم أن الحركة النسائية في خلال تطورها ونموها، ستجتذب إلى ميدان النضال نساء من فئات اجتماعية مختلفة، ومن بينهن النساء العاملات والكادحات. ولكن هذه العملية ستتحدد حسب تناسب أولويات المشاكل والمواضيع التي تهم كل فئة وطبقة نسوية، وليس على أساس نظري وبرامج وشعارات جاهزة من صنع المثقفين.

وكما لاحظنا في سير عملية الثورة، فإن النساء المدينيات من الفئات الوسطى مقارنة بالنساء العاملات، يشكلن حجماً أكبر، ويتمتعن بتعليم ووعي أكثر. ويُعتبرن أسرع استعداداً، ولدوافع سياسية وثقافية وليس اقتصادية، للانخراط في النضال السياسي. ولكن أزمة الهوية عند النساء العاملات تتخذ أبعاداً أكثر حدة وجدية، ولذا تنجذب نسبة كبيرة من هؤلاء النساء إلى حركة الزهد الإسلامي ونموذج المرأة المسلمة. وفي الوقت الذي تركز القوى الثورية اليسارية على الكلام والحديث غير المفهوم للجماهير، وخاصة بالنسبة إلى المرأة العاملة التي يتم مخاطبتها في إطار كليشي ومجرد ومن النادر الخوض معها في حديث حول "مشكلة المرأة"، فإن أيديولوجيي الحركات الإسلامية توجهوا بخطابهم نحو ذلك الجزء من النساء اللواتي أصبحن بعد ذلك القوى الفعالة، واللواتي تصدرن الصفوف الأولى في المظاهرات والاجتماعات الاحتجاجية. ومد رجال الدين وأيديولوجيي الحركات الإسلامية الجسور مع الفئات النسوية من الطبقات الوسطى في المدينة، وخاصة التلميذات والجامعيات عن طريق الحسينيات والمساجد والجلسات البيتية وكتابة المقالات حتى المجلات الرسمية التي تصل إلى متناول النساء. فعلى سبيل المثال حرّمت النساء المثقفات عملياً مجلات مثل "امرأة اليوم" و"إطلاعات النساء"، في حين توجه آية الله مطهري عبر سلسلة من المقالات في مجلة "امرأة اليوم" مكرسة ضد الحركات النسائية المطالبة بالمساواة في الغرب، وروّج للأفكار الإسلامية حول المرأة والعلاقات الجنسية والعائلية. وبالاقتران مع هذا، كتب علي شريعتي مقالة تحت عنوان "فاطمة هي فاطمة"، وقدم نموذجاً يمثل  رد على نموذج  المرأة في "النزعة  الغربية". أي أن الحركة اليسارية، خلافاً للحركة الإسلامية، كانت عاجزة عن تشخيص قوة الحركة النسوية وفهم أولوياتها. ونظراً لعدم قدرتها على التغيير في تكتيكها وستراتيجيتها،  فلم تستفد من الآلية والإمكانية المتوفرة للصلة بالنساء في المجتمع. صحيح أن الرقابة والقمع كان أشد وطأة وأكثر شمولية على المعارضة اليسارية بالمقارنة مع المعارضة المذهبية، إلاّ أن المثقفين والمناضلين اليساريين أغفلوا واقع محدوديتهم وإمكاناتهم.

مشكلة المرأة بعد الثورة

بعد مرور عشر سنوات على الحكم الإسلامي وتغلب "نموذج المرأة المسلمة"، فإن التحولات تشير إلى أنه من أجل توضيح وتحليل مكانة المرأة ومشاكلها الراهنة، فلا ينبغي الاكتفاء بتشريح ونقد البنية العقائدية للإسلام، والاستشهاد بالآيات المتنوعة في القرآن والرجوع إلى أحاديث وروايات نبي الإسلام والأئمة وحتى إلى أيديولوجيي النهضة الإسلامية المعاصرة، ووضع كل المسؤولية عن أسباب النزعة الجنسية على عاتق المذهب الإسلامي. إننا في الوقت الذي نأخذ بنظر الاعتبار دور الدين الإسلامي باعتباره أحد العوامل البنيوية للنزعة الجنسية والرجولية، إلاّ أننا نضطر إلى أن نأخذ بنظر الاعتبار الواقع التاريخي والمادي والسياسي الملموس للمجتمع من مختلف الجوانب. فإذا ما أراد الإسلام، شأنه في ذلك شأن كل الأديان الأخرى والتيارات الفلسفية والإيديولوجية الأخرى، أن يدير ماكنة الدولة في ظروف القرن العشرين، فما عليه إلاّ أن يتأقلم مع مقتضات الزمان والظروف التاريخية والاقتصادية، وأن يبحث عن تفاسير وتعابير تتناسب مع ضرورات الاحتفاظ بالسلطة. لقد كانت تجربة السنوات العشر الماضية، وخاصة ما جرى بعد وفاة الخميني، مؤشراً على أن البرغماتية السياسية والعقائدية للحكومة الإسلامية قد تغلبت تدريجياً على مواقف هذه القوى، ومن ضمنها موقفهم حيال دور المرأة.

فعلى سبيل المثال عارض آية الله الخميني، عندما كان على رأس المعارضة، مشاركة المرأة في الاقتراع الانتخابي في عام 1963، وأصدر فتوى بذلك. ولكن ما أن أصبح على رأس السلطة، شجّع النساء على المشاركة في الاقتراع وفي المشاركة في الشؤون السياسية والنضال لصالح تثبيت أركان سلطته. وأصبحت ابنته مسؤولة "منظمة النساء المسلمات" على هدى ممارسات الأمم المتحدة والنساء في "الشرق" و"الغرب". وعُقد في طهران مؤتمر عالمي للنساء، وشُكلت مجالس ولجان خاصة للنساء قامت بالتدريج بنقد قوانين الدولة الإسلامية من قبل هذه المؤسسات والنساء النشيطات المسلمات فيما يتعلق بشؤون العائلة والنكاح والطلاق والتعليم والتحصيل العلمي والاستخدام والعمل...وأجريت في بعض المواد تعديلات وإصلاحات على تلك القوانين. بالطبع لعبت النضالات الاحتجاجية وحملات الفضح والدعاية التي قامت بها النساء التقدميات وبقية قوى المعارضة في المراجع الدولية وضغط الرأي العام الدولي دورها وتأثيرها، وسيكون لها تأثير في المستقبل. ولكن مقاومة المرأة نفسها في داخل إيران تلعب دوراً مهماً في استغلال كل الإمكانيات الموجودة من أجل الحفاظ على موقعها ودوام حضورها . وفي هذا الإطار لا يمكن نكران الواقع المادي للمجتمع والممارسة والتجربة العملية للنساء النشطات في الجمهورية الإسلامية، والتي ستؤدي، شئنا أم أبينا، إلى تغيير في رؤية وتوقعات هذه الفئة من النساء. إن نظرة إلى الجدل والنقاشات الدائرة في المطبوعات الرسمية من قبل النساء المسلمات تشير إلى وجود تعاريف ومواقف متناقضة والتباس واختلاف داخل النساء المدافعات عن الحكم الإسلامي حول نموذج "المرأة المسلمة الحقيقية". فعلى سبيل المثال تابعنا الضجيج الذي دار حول البرنامج الخاص "نموذج المرأة" الذي تبثه الإذاعة الرسمية، حيث شنت مجلة "إمرأة اليوم" هجوماً على هذا البرنامج في صدر صفحاتها مشيرة إلى :" أننا وبعد عشر سنوات على انتصار الثورة نلاحظ نتائج مقلقة  تثير الأسف والتأثر العميق حيث لم يتم إلى الآن تبيان تحديد تعريف لـ"نموذج المرأة المسلمة فحسب، بل وأيضاً لم تعثر النساء في مجتمعنا أصلاً على معنى ومفهوم لـ"نموذج المرأة". وفي جواب على استفتاء لبرنامج "نموذج المرأة المسلمة" أجابت نوشين"...الجميع ينظر إلى فاطمة كنموذج قديم للمرأة". وأشارت السيدة رجائي في خطاب لها في مجلس الشورى الإسلامي في السابع من شباط عام 1988 إلى أن المشاكل الراهنة للمرأة تتحدد في:"

1- تراجع مشاركة المرأة في النشاطات المختلفة،

2- العودة التدريجية والمشاركة الشكلية وكأن المرأة سلعة من السلع،

3- العودة مجدداً إلى النظرات الضيقة، وفي النهاية الترويج لبقاء المرأة في بيتها،

4- عدم التعامل الشامل مع مشاكل المرأة والعودة مجدداً إلى موضوعة الحجاب،

5- عدم العناية الكافية بنفسيات المرأة وبنائها الجسماني في طرح البرامج وتهيئة الأفلام

الخاصة بذلك،

6- انعدام التغيير الأساسي في برامج التعليم في مختلف مستويات التعليم والتربية العليا، وانعدام البرمجة المنطقية.... ولقد نشأت هذه المظاهر بسبب الضعف في انعدام البرمجة وضيق الأفق عند بعض الأفراد.".

ولكن من أجل أن نلقي ضوءاً على الآثار السياسية للجمهورية الإسلامية على مكانة المرأة أو ما يسمى بـ"مشكلة المرأة" بعد الثورة، فلا يمكن الاكتفاء بالعموميات، إذ يجب أن يصار إلى بحث موضوعي ومنهجي في مجالات ملموسة والاستناد إليها كموضوعة العائلة والتربية والتعليم والتحصيل العلمي والعمل والشغل، الصحة والإمكانيات، الرقابة على المواليد، والنشاطات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية والعلمية. ولكن في الوقت الحاضر وللأسف لا يتجاوز عدد هذه البحوث أصابع اليد. إن الأحكام الفعلية على النتائج الحاصلة خلال عشر سنوات من الجمهورية الإسلامية هي مجرد مواقف عامة وحدس وظنون غير مباشرة. ويمكن القول إن السياسات التي اتبعت في الحكم الإسلامي والتغيرات التي طرأت في العقد الأخير على النساء ذات الانحدرات الفئوية المتنوعة، تركت تأثيرات متفاوتة أستناداً إلى متابعة المواقف العامة القائمة على المشاهدات والتماس غير المنتظم وما ينشر في المطبوعات. ويبدو أن الظروف المادية والثقافية لوسط غير قليل من النساء المنحدرات من الطبقة المتوسطة المدينية والمرتبطة بالفئات التقليدية والدينية الداعمة في العادة للنظام القائم، هي أكثر مناسبة الآن وأكثر تجانساً وأقل تناقضاً. فبالنسبة للكثير من هؤلاء النساء قد تم إيجاد الحلول ولو المؤقتة لمشكلة الهوية القومية والثقافية. فهذه الفئة من النساء، وعلى الرغم من استخدام الحجاب والملابس والفكر الإسلامي، فإنهن أكثر فاعلية من جيلهن السابق، وانخرطن بشكل لا سابق له في ميدان المجتمع والسياسة. فهذه المجموعة من النساء المذهبيات، خلافاً لمرحلة النظام السابق، لا يشعرن فقط بعدم حرمانهن من التهميش ومن الضعف والتحقير، بل يعتبرن أنفسهن شريكات في التحولات الاجتماعية والسياسية ومسؤولة عنها. إنهن قد قبلن بقوة الجنسية والعزل الجنسي في العمل وفي النشاطات الإنسانية تطبيقاً لحكمة وجبر إلهي، وقبلن بالنظام الرجولي المغلق وقيمه.

إلاّ أن النساء المنحدرات من الطبقة المتوسطة غير التقليدية فقد وجدن أنفسهن تحت ضغط متزايد اقتصادي وثقافي وسياسي، وشعرن بتمييز وظلم جنسي أكثر من السابق. فالنساء العاملات ومن الطبقات الدنيا في المجتمع لا يعانين أكثر من غيرهن من النتائج السلبية الاقتصادية فحسب، بل لديهن شعور بأنهن أكثر حرماناً من نساء الطبقة المتوسطة بسبب كونهن نساء، فتم حرمانهن في ميدان العمل والكسب. والسبب يعود إلى تعطيل وتقليص نشاط الكثير من المصانع وتعاظم البطالة الناتجة عن الركود الاقتصادي، إضافة إلى سياسة التمييز الجنسي للحكم الإسلامي. فقد تم تسريح الكثير من النساء العاملات من القطاع الرسمي للاقتصاد بسبب مصائب الحرب العراقية الإيرانية التي ألحقت الكوارث بالطبقات الدنيا. ويبدو أن فئة جديدة من بائعات المفرد والبائعات المتجولات تتبلور في المدن الكبيرة، وهي ظاهرة منتشرة في بلدان أمريكا اللاتينية، ولكن لم يكن لها رواج في إيران في السابق.

إن الآمال تتزايد لدى الكثير من الباحثين والمثقفين والفنانين الملتزمين حول الحقوق المتساوية والبحث في قضايا النساء وحتى فكرة الأنثوية(Feminism)، في الوقت الذي لم تكن فكرة الأنثوية قبل عقد من الزمن سوى فحش سياسي وانحراف و "نزعة غربية".

ونجد اليوم كاتبة كبيرة ومحترمة مثل سيمين دانشور تعلن أنها أنثوية. وعلى الرغم من أن أمام الأنثوية طريق طويل ومتعرج، ولكن من الواضح إن المساعي على طريق إدراك "مشكلة المرأة" وضرورة النضال من أجل حلها أضحت بالتدريج جزءاً من الأدب السياسي والمناظرة والسلوك العملي للمثقفين الإيرانيين. وتكتشف النساء الإيرانيات بالتدريج نماذجها المحلية اللائقة وتخلق نماذج مغايرة لـ"نموذج المرأة المسلمة" التي تروج للقهر والتمييز، نماذج ليست غربيّه ولا فاقدة لثقافتها و "ذات نزعة غربية". أي نماذج تضع قدميها على التاريخ والتقاليد الرفيعة للثقافة الإيرانية، وفي نفس الوقت ترفض فيه التقاليد البالية والظالمة، نماذج ترنو إلى المستقبل وتفتح أعينها على كل الجهات "شرقها" و "غربها" دون أي تعصب وطني أو قومي لتنهل من المكتسبات الجيدة والتقدمية للبشر. نماذج تسعى إلى عالم يتمتع بالأمن وسلامة العيش، عالم خال من الظلم الجنسي والعرقي والاستغلال الطبقي والفقر والحرمان، عالم لا يحتاج إلى طبول الحرب وعنف "الرجولية".

انتهى

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.