اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

• "ديمقراطيو" السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حميد الخاقاني

"ديمقراطيو" السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي

 

حين لا تعود أسرار أجهزة الأمن والمخابرات، في أية دولة كانت، أسراراً، ينقلب الأمر إلى فضيحة مخجلة في الغالب. وإذا ما أشار السر المفضوح إلى التناقض الصارخ بين خطاب السلطة وممارساتها تتخذ الفضيحةُ، عندئذ، بُعْدَين فضائحيين، أحدهما أخلاقي والآخر سياسي، يشيران بدورهما إلى حقيقة تلك السلطة وأجهزتها وعُريهما معاً.

حكاية "ثياب الامبراطور" التي قرأها الكثيرون منا في صباهم (لا أدري إن كان قد قرأها أهل السلطة كذلك) تُرينا، رمزيا، أن الكثير من أباطرة الدنيا وحكامها يمضون في مواكبهم عراةً، مزهوّين كالطواويس بين الحشود المهللة لهم، دون أن يدركوا حقيقة هذا العُري التي قد تُزيحُ الحجابَ عنها، في النهاية، عينا طفل واحد ولسانه!

 

طابع الازدواج في خطاب السلطة وممارساتها أصبح تقليداً مألوفاً في هذا "العراق الجديد"، يراه كلّ ذي عقل وبصيرة،

لا تحجبهما غشاوات الولاء الحزبي أو الطائفي أو العشائري، أو حلاوة الامتيازات والمنافع الذاتية. ويمكن تقصِّي أحوال الازدواج هذه، خلال السنوات التسع الفائتة، في نواحٍ كثيرة: سياسية واجتماعية وثقافية. وعلى أن كتاب جهاز المخابرات العراقية رقم 3061، الموسوم بـِ (السري ـ والشخصي)، والمؤرخ في 20/2/2012، والذي نشره (صوت العراق) وكتب عنه الكثيرون، علامةٌ أخرى لمثل هذه الأحوال، إلا أنه ينطوي، في الوقت ذاته، على دلالات خطيرة، كما أرى، أبعد بكثير من متابعة متظاهرين تقول السلطة وأجهزتها أنهم شيوعيون. وهي دلالات لم تنشأ بالصدفة، في تقديري، ولا تُعْزى لخللٍ في عمل هذا الجهاز أو ذاك، وإنما هي، في الجوهر، تعبيرٌ عن فهم عقائدي للسلطة لا يُطيق نقدَها، في الحقيقة، ويناقض ما يقوله أهلها، في الظاهر، عن الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان ومدنية الدولة.

 

الصورة التي قدمتها السلطةُ للناس عن المتظاهرين، آنذاك، بوصفهم "شياطين!" خطرين على "العملية السياسية"، ينتسبون إلى "البعث" و"الإرهابيين"، ويهدفون لإعادة النظام القديم!، تأتي هي الأخرى في سياق هذا الفهم. وظيفةُ هذه الصورة الخادعة  أن تُسوِّغ للناس البسطاء، المُستَقْطبين منهم طائفياً خاصةً، إجراءات الحكومة في محاصرة حركة الاحتجاجات، وملاحقة المشاركين فيها. هذه الصورة اشتغل على تشكيلها، أيضاً، نوابٌ ومستشارون، وإعلاميون و"محللون سياسيون" موالون، جميعُهم "ديمقراطيون!" بالطبع، انطلقوا في تناول هذه الحركة من الفهم ذاته، وليس من معاينة الظاهرة نفسها، ومن جهاتها المختلفة، مثلما تقتضي مهمة المحلل، وشروط التأمل الموضوعي للأشياء. فإذا هم يُحلِّلون للسلطة وأجهزتها

ما يُحرِّمه الدستور، وتأباه الديمقراطيةُ، ويُحرِّمون لأجلها (السلطة) ما يُحِلُّه الأخيران (الدستور والديمقراطية) للناس!

 

ألسنا، هنا، إزاء أناس لا تعنيهم حقائق الحياة اليومية قدرَ ما تأخذ بألبابهم إملاءات الولاء السياسي والأيديولوجي، فيحللون  بمنطق هذه الولاءات ويُحرِّمون، كمن يؤسس لِـ"فقه سلطة" جديد يتناسب وأحوال هذا "العراق الجديد"!؟

 

يمكنُ، بالطبع، أن نعثر على مثل هذه الحالات لدى غير القليلين من نقاد السلطة كذلك. فكما ينطلق أولئك، في أحكامهم، من ولاءات تؤدي، بالنتيجة، إلى نوعٍ من "توثين" السلطة، والزَهو بحَمْل المباخر قُدّام أهلها وخلفَهم، يتحرك هؤلاء في لَعْنهم لها ولأهلها من ولاءات مضادة، لكنها مشابهةٌ، في الجوهر، لولاءات أولئك. وفي النهاية لا نفعَ للبلاد وأهلها، ولا للسلطة وأهلها (إن طلبوا الحق فقط)، لا من هؤلاء اللعّانين، ولا من أولئك المبررين، المُسوّغين، المدّاحين.

وعلينا ألا نُغفلَ أن هاتين الظاهرتبن، مثل ظواهر أخرى كثيرة في حياتنا،ما هما، في الأصل، إلا نتاج ثقافة وعقلية تقومان، منذ زمان بعيدٍ . . بعيد، على جَمعٍ من العصبيات، ما نزال نحرص على تغذيتها والعناية بها، رغم ما أصابنا وأسلافَنا من بلاياها!

   

يتناول كتاب المخابرات، مثلما يرد فيه، نيَّةَ "بعض أعضاء الحزب الشيوعي تنظيم تظاهرة يوم 25 شباط في محافظة بغداد ـ ساحة التحرير إحياءً للذكرى الثانية لانطلاق التظاهرات يطالبون فيها توفير (الصحيح لغوياً ـ بتوفيرـ ح. خ.!) فرص عمل وإنهاء الخلافات السياسية لذا اقتضى الأمر متابعة تحركات أعضاء الحزب المذكور كلا ضمن قاطع المسؤولية واعلامنا بتحركات أعضاءه واسماءهم (الصحيح بالطبع ـ أعضائه واسمائهم ـ ولكن أمرنا لله ولعلماء اللغة في قوم يجيدون ملاحقةَ الناس وقمعهم، لكنهم يعجزون عن حماية البلاد وأهلها من مسلسل الموت. ويجهلون، فوق هذا وذاك، حتى قواعد لغتَهم ـ ح. خ.!) لغرض متابعتهم من قبل الجهات المعنية كما يرجى اتخاذ ما يلزم بصدد المعلومات آنفاً من اجراءات أمنية مشددة وتوفير تدابير الحيطة والحذر وفقاً للقانون"!

 

من الجليّ هنا أن أهل السلطة "الديمقراطية!" عقدوا الخيرَ بنواصي أجهزتهم هذه، وأناطوا بها رصدَ تحركات قوى وطنية وديمقراطية، ومتابعة أنصارها طوال اليوم، وتزويد الجهاز الذي أصدر الكتابَ، سيئَ الصيت هذا، بأسمائهم "لغرض متابعتهم من قِبَل الجهات المعنية"! من هي هذه "الجهات المعنية"!؟ ولماذا تتابعُ مخابراتُ "دولة قانون ديمقراطية!" ديمقراطيين بهذه الأساليب التي عرفناها في زمن الطغيان الماضي، وتطلبُ تزويدَها بأسمائهم؟

 

هل يُبيح الدستور والديمقراطية، وقوانينُ "الدولة المدنية" التي نزعم أننا أهلُها، مثل هذا النهج البوليسي؟ ألا يُمثِّل هذا الأمر خروجاً صارخاً على الدستور، خاصة وأنه يستهدف قوى وتيارات وأناساً لم يخرجوا على الدستور والقانون يوماً؟.

ألم تكن هذه القوى والتيارات وأنصارها شركاء أصيلين ومجرَّبين لأحزاب هذه السلطة في أزمنة المعارضة لطاغية الأمس؟

ألم تزل هذه القوى والتيارات، حتى وهي خارج البرلمان والسلطة اليوم، شريكا فعالاً في عملية بناء البلد والدولة، ومحاولة تقويمها نقدياً، وإخراجها من المآزق التي أخذتها إليها أحزاب السلطة نفسها؟

 

الكتاب نفسه يذكر بأن هؤلاء الناس ينظِّمون تظاهرةً "يطالبون فيها توفير فرص عمل وإنهاء الخلافات السياسية". فهل أصبحت المطالبة بتوفير فرص العمل وإنهاء الخلافات السياسية دافعاً لأن تقوم أجهزة السلطة (هي هنا أجهزة سلطة لا دولة) بمتابعتهم، بحيث تقول صيغة الكتاب: ". . . لذا اقتضى الأمر متابعة تحركات أعضاء الحزب المذكور . . ."؟

هل يقتضي الاحتجاجُ على الخطأ والبلوى، في ظل "النظام الديمقراطي المدني!" ملاحقةَ من يحتجُّ عليهما؟

أليس العراقيون جميعاً ضحايا غيابِ فرص العمل وضعف الخدمات وخلافات الساسة التي لا تنتهي، فكيف يتحول من يدعو لتجاوزها، وتصحيح مسار الأحوال، عدّواً يُتابَع ويُلاحَق؟

 

ألا يثير هذا الأمر ضحِكَ الناس العقلاء، ويدعوهم للسخرية من هذه الأجهزة والعقلية التي تُسَيِّرها؟

ولنا جميعاً، بعد هذا، أن نتساءل، مواطنين ونواباً وساسةً عقلاء، إن كان هناك قانون يُشَرِّع لصرف أموال عامة، وهي أموال العراقيين جميعاً، ومنهم المتظاهرون، على أجهزة تلاحق عراقيين وطنيين لمجرد أن اجتهادَهم في الحق لم يجد له سبيلاً ينفذ منه إلى دماغ السلطة ومزاجها؟!

ثمَّ ألم يخرج هؤلاء الناس وغيرُهم ليمارسوا حقهم الدستوري في الاحتجاج على ما وصلت إليه البلاد بفضل سياسات الساسة "الكبار!" وعقليتهم وصراعاتهم؟

  

فلماذا يأخذ الهَوَسُ، إذن، "ديمقراطيي" السلطة وأجهزتَهم في متابعة الديمقراطيين من الشيوعيين واليسار عموماً، بحيث يجتاحهمُ الغضبُ وتهرشُهم جلودُهم، وتحوم الأشباحُ حولهم كلما تشمموا نوايا هؤلاء الديمقراطيين، ورأوهم يخرجون من بيوتهم، منعطفين إلى شارع أو ساحة عامة مثل ساحة التحرير، ليعبروا عن آرائهم بشأن سوء الأحوال، فيستنفرون أجهزتهم تٌغلق الطرقات، وتقطع السبيلَ عليهم، وتلوِّح لهم بالاعتقال؟!

 

قبل ما يقرب من أسبوعين قال مستشار إعلامي لرئيس الوزراء، في حديث تلفزيزني، إن ما نشرته الحكومة من قوات أمنية في ساحة التظاهر جاء لحماية المتظاهرين وليس لقمعهم!

هل يُصدّق هذا الرجلُ ما يقوله حقاً؟!

  

لقد حدث، طوال العام الماضي، أن اعتُقِل أناسٌ قبل التظاهرات وبعدها، وتعرضوا للتعذيب والإهانات (في الحقيقة اُخْتُطِفوا وعُصِبتْ عيونهم، تماماً مثلما كان يحدث في ذاك الزمان!).

حدثَ أن دوهمت، قبل التظاهر وبعده، بيوتُ شباب شاركوا في التظاهرات، أو دَعوا إليها، فرُوِّعَ الناس، ووقع بين الأنياب من وقع، وهرب من هرَب.

حدث أن أُطلِق الرصاصُ على متظاهرين فسقط قتلى وجرحى منهم في بغداد وفي مدن أخرى.

حدثَ أن طرقت فرق اغتيال خاصةٍ، كما يبدو، الأبوابَ على ناشطين في الدعوة للتظاهر، وناقدين للسلطة، دونما مساومة، فسفكت دماءهم في بيوتهم لبث الرعب في نفوس الآخرين، وإخراس ألسنة النقد عن قول ما لا تستسيغ السلطة، أو بعضُ أهلها، سماعَه (مقتلةُ هادي المهدي نموذج على ذلك. ظل القاتل فيها مجهولاً، مثلما ظلت لجنة التحقيق فيها مجهولة وصامتة هي الأخرى، شأن لجان مشابهة كثيرة!).

حدثَ أن أرسل بعضُ أهل السلطة بعضَ مُواليهم ملوِّحين بعصيِّهم وسكاكينهم كي يُلَقِّنوا المتظاهرين درساً "نافعاً" في "ديمقراطيّتنا ذات السمات الطائفية ـ القَبلية".

 

كلُّ هذا الذي حدثَ، ويحدث، من مظالمَ مخزون وموَثَّقٌ في ذاكرة الضحايا وكثير من الشهود. موَثَّق في ذاكرة الكاميرات، وذاكرة الزمن كذلك، وفي أراشيف منظمات حقوق انسان دولية أيضاً.

 

ألا يعرف أهل السلطة، وكلهم مؤمن أو مُدَّعي إيمان، بأنَّ الله لا يُحِبُّ الظالمين؟ ثمّ ألم يطرقْ مسامعَهم، يوماً، ما رواه

المتمرد الكبير على الظلم (أبو ذر) عن الرسول (ص)، من أنه خيرٌ للمرء أن يقضيَ ليلته مظلوماً من أن يبيتَها ظالماً؟

 

في ضوء هذا الذي يُنقَل عن نبي هذا الدين أدعو لأن يخلوَ كلُّ صاحب سلطان ونفوذ من ساسة العراق الجديد إلى نفسه، مرة، ويحصيَ لياليه التي باتها ظالماً منذ أن تربَّع على عرش الحُكم أو اقترب منه.

أدعوهم أن يسألوا أنفسَهم عما يجعل ممن كان مُطارَداً وضحيةً للطغيان بالأمس، مُطارِداً، اليومَ، لغيره ممن كان ضحيةً مثله؟

أهي السلطة وغواياتها التي تغيِّر من طبائع أصحابها وأدوارهم، فيغدو بعضُ ضحايا الأمس حكاماً مُطارِدين، ويظلُّ بعض ضحايا ذاك الأمس، لاجتهادهم في الحق وبقائهم عنده، ضحايا مُطارَدين على الدوام؟!

 

أم أننا إزاء نوع عجيب من التقاء الآفاق، تَشي به رائحة كتاب المخابرات المذكور، اجتمع فيه عشقُ السلطة و"لوثةُ" العداء السياسي والأيديولوجي للشيوعيين، مستوراً كان هذا العداء أو مكشوفاً. البعضُ في أجهزة المخابرات وعمليات بغداد، وغيرهما من أجهزة الأمن، رضعوا العداء للشيوعيين والديمقراطيين عموماً من ضرع نظام الطغيان الماضي وأيديولوجيته، حينما خدموه في تلك الأزمان. وبعض الساسة وضباطهم ارتشفوا هذا العداء وتشبَّعوا به من منظومة فكرية يُكَفِّرُ أهلُها بعضَهم بعضاً. هذا يُخرجُ ذاك من الإيمان الحق ويَدَّعيه له وحده، لأن ذاك لم يوافقه اجتهادَه في الدين والإمارة. وذاك يرى في هذا صاحب بدعة، لا مكان له غير النار، لأنه ذهب مذهباً مخالفاً لما ذهب إليه. وقد ينسب الإثنان غيرَهما إلى الكفر والإلحاد، على السَماع غالباً، ودون معرفة له، وتأمُّل هادئ فيما يفعل ويقول.

 

ألا يكذبُ الكثيرون منهم على (العلمانية) وأهلها، فيختمون عليها وعليهم بالكفر ومعاداة الدين، مع أن كثيرين ممن ينطقون بهذا الكذب عاشوا في بلدان العلمانية، وذاقوا خيراتها، دون أن يسألهم أحد عن أديانهم أومذاهبهم، ويجعل منها شرطاً للحصول على عَونٍ أو توظيف، مثلما يفعل بعضهمُ اليوم مع مواطنيهم الآخرين. كما أنهم تمتعوا فيها بحرياتهم الكاملة، الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وبمدَيات لم يعرفوها حتى في بلدان دينهم، ولا يكفلون مثلَها لغيرهم في بلدانهم، إن سادوا عليها وعليهم؟   

 

يحقُّ لنا جميعا، بالطبع، أن نرفض هذا الفكرَ أو ذاك. ويحقُّ لنا جميعاً أن نؤمن بهذا الفكر أو ذاك. ولكن يظل من الخير لنا جميعاً أن نتعرَّف على الآخر وفكره وممارساته، ونتفاعل معه نقدياً، قبل رفضه أو الإيمان به، أو التعايش معه. والأساسي كذلك ألاّ نكذبَ بشأنه إن كنا مؤمنين حقاً. الحكمُ المُسبَقُ على أيّ فكرٍ، أو جماعة أو شخصٍ أوسياسةٍ، خَطَلٌ يُفصحُ عن نوع من العداء، لا صلةَ له بحُكم العقل، ولا بالعدل والحقِّ، ولا بالديمقراطية كذلك.

 

ويُصبحُ هذا العداء "لوثة" حين نلاحق من يتناقضون معنا، ويخالفوننا في اجتهادنا، وحين نعجز عن أن نرى في قولةِ الحق التي يقولونها حقّاً. مثل هذه "اللوثة" يُمكن لها أن تصيبنا جميعاً، حتى الشيوعيين منا. ولا عجبَ فقد حدث أن أصابت شيوعيين استطابوا النوم في أسرَّة السلطة، في بلدان نعرفها، فكان من بين ضحاياهم شيوعيون جميلون كُثْرٌ كذلك. 

 

أعود وأقول بأن عشق السلطة، والانتشاء بسحرها، إذا التقى بِـ"لوثة" العداء للشيوعية، أو لأي فكر آخر، بالمعاني التي ذكرتها، يجعلُ من هذه السلطة نوعاً من ذلك "الطنطل" الذي كانت تُخيفنا أمهاتنا به، أزمنة الطفولة."طنطلُ" السلطة هذا يركب بعضَ الناس من الساسة، ومن يخدمهم، ليلَ نهار، فيعمي بصائرهم ، ويختم على قلوبهم، جاعلاً منهم، في النهاية، وحوشاً كاسرة، لا تتوقف عند مطاردة الشيوعيين وغيرهم من الديمقراطيين فحسبُ، بل تأتي بالوبال على الجميع : الأوطان والناس والجيران!

 

تاريخنا القريب، وتاريخ بلدان أخرى، يزخر بنماذج كثيرة من ساسة، وأهل نفوذٍ، ركبهم مثل هذا "الطنطل"، فما كان منهم إلا أن ساموا شعوبهم وبلدانهم، وحتى بعض ذوي قرباهم، سوء العذاب. فمن لا يؤمن بحق الجميع في الحريات التي تضمنها دساتير وقوانين عادلة، لا يرى، في النهاية، حريةً لأحد إلا له وحده ولمن يتبعه، ويمضي على هواه. هذه الحرية الأحادية إحدى علامات الاستبداد. وحتى هذه الحرية ليست بحرية أبداً. فالمستبد، سواء في الفكر، في السياسة، في الحكم، في الإدارة، في العائلة، أوفي أي شيئ آخر، ليس حراً، في الحقيقة. حريته، هي الأخرى، وهمٌ ، إذ أنه نفسُه سجين نزوعه المرضي للاستبداد. وكلُّ سجين لعصبية، أيّا كانت، لا يُمكن أن يكون حرّاً، ولن يستطيعَ أن يصنع مجتمعاً حُرّاً، ولا ناساً أحراراً.

 

طاغية الأمس عندنا مثالٌ على ذلك. وقد سبقه طغاة آخرون، في أماكن أخرى، منهم هتلر الألماني، وموسوليني الإيطالي، وفرانكو الاسباني، وسالازار البرتغالي وينوشيت الشيلي، وكثيرون غيرهم، في ما ضي الناس وحاضرهم.

 

لقد داخلت هذه اللوثةَ، لدى الوحوش هؤلاء، لوثاتٌ أخرى: التعصب الديني والعرقي، عُصاب القلق على طهارةٍ مُفتَرَضَة للأمة والمجتمع ونقاوتهما، و"دَرْء أخطار" الأفكار والثقافات الوافدة عنهما، البهجةُ بالنفوذ المتعاظم والجبروت وتضخُّم الذات ومديح الأوهام، حتى لم يعد عندهم من زمن غير زمن السلطة.

 

ولأن تداخل اللوثات هذه ببعضها شرٌّ لا يصيبُ الساسةَ الذين مكَّنوه من أنفسهم فقط، وإنما يسقط بلاؤه على رؤوس الناس والبلاد، أجدني مدفوعاً، رأفةً بالبلد وأهله، إلى أن أهيبَ بساسة "العراق الجديد"، جميعاً، من هو مع السلطة أو ضدها، أن يرفعوا أيديَهم إلى السماء، بعد كلِّ صلاة، أو قبل كلِّ جلسة في مجالس النواب والوزراء ورئاسة الجمهورية، مبتهلين إلى خالقهم أن يدرءَ عنهم، وعنا، هذه اللوثات، وأن يُبرئَ أرواحهَم وعقولَهم منها.

 

من الواضح أن السلطةَ إذا ما أصبحت دينَ السياسيين وديدَنهم أصاب هؤلاء العجزُ عن أن يُسْهموا في إقامة نظام حريات ديمقراطي حقيقي، وبناء دولة قانون مدنية وعصرية، تستند على الفصل الصادق بين السلطات، واستقلالية القضاء حقاً، وعدم أدلجةِ الدولة والحكومة ومؤسساتهما بعقائد الحكام وأيديولوجياتهم.، وتسخير أموالهما وطاقاتهما، ومؤسساتهما وإعلامهما، في تكريس هذه العقائد والأيديولوجيات، وفرضها على الناس والمجتمع عموماً، وبأساليب شتى.

 

وحين تكون السلطة دينَ السياسيين وديدنهم لا تعود الدولة وقوانينها، والأكثريةُ في برلمانها، أيةَ أكثرية كانت، سوى هياكل فارغة من معانيها الحقيقية، لن تكون لها من وظيفة غير خدمة هذه السلطة والممسكين بخناقها. قد يجري تسويق هذا كلّه للناس على أنه سلطة هذه الطائفة أو تلك، ودولتها. هذا النوع من السلطة لم يكن في حقيقة الأمر، وعبر التاريخ كله، شيئاً آخر سوى سلطة الحكام وبطاناتهم. في الحقيقة ليس للطوائف التي امتطوا ظهورَها من هذه السلطات والدول شيئاً حقيقياً ذا بال!

 

ومثل هذا النوع من فَهم السلطة يُبقي عليها ميداناً مفتوحاً للصراعات بين الساسة والفرق المختلفة، مع ما تأتي به هذه الصراعات من كوارث للناس، ولطوائف الساسة وفرقهم كذلك. وقد حفل تاريخ هذه "الأمة" بآثار هذه الصراعات وكوارثها، حتى قال الشهرستاني (ت.1153م)، صاحب (الملل والنِحَل)، في مقدمة كتابه هذا عن صراعات الإمارة والإمامة: " . . . وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان".

وصراعات ساستنا وخلافاتهم، منذ تسع سنوات، لا تخرج، في الحقيقة، عن هذا، وإن ارتدت، في الظاهر، عباءات "ديمقراطية" و"مدنية" شكلانية. يكفي، لتأكيد ذلك، متابعةُ ما يقوله الكثير من الوعاظ، سواء في دور العبادة المختلفة، أو في فضائيات عديدة، في خُطَبٍ يأخذ فيها "التجييشُ الطوائفي" للناس الحصّةَ الأكبر، بدلاً من تأليف قلوبهم، وتقريبهم لبعضهم البعض!

 

فهمُ السلطة هذا، وعشقُها، وما يرتبط بهما من صراعات، غالباً ما يجعلان الساقطين من الساسة في شباكهما مسكونين بالشكوك بالآخر، شريكاً كان لهما هذا الآخر أو معارضاً، أو حتى حليفاً. حالة الشكوك المتبادلَة هذه في مقدرونا أن نرصدها، عندنا، وبين ساستنا يوميا. الحديث عن التآمر وأوهام الانقلابات، في أوضاع لم تعُد تسمح بقيام انقلابات مطلقاًً، يتردد بين حين وحين، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن صار يرتاب في ثورات الربيع العربي، متوهماً، وساعياً لإيهامنا معه، بأن هذه الثورات تستهدف "العراق الجديد" ولا شيئ غيرَه، لأنه أصبح، كما يقول بعضهم، مركز الصراع العالمي بين الشيطان وقوى الحق!. كيف؟ لا أحد يدري؟

 

المضحكُ في الأمر أن من قطف ثمار هذا الربيع، حتى اليوم، ولعوامل سياسية وثقافيةـ اجتماعية لست بصدد تناولها هنا، قوى وتيارات تنتمي، إذا ما وضعنا الخلاف الطائفي جانباً، لذات المنظومة الفكرية ـ الدينية التي يصدرُ عنها الساسة والقوى المرتابة بهذه الثورات عندنا.

ألا يمكن لهؤلاء الساسة أن يقرأوا، مثلا، هذا التطور بوصفه انتصاراً، حتى لو كان مرحلياً، لمشاريع الاسلام السياسي التي يرى بعض الساسة المتنفذين أنهم، وأحزابهم، من حمَلَتِها الأوائل، وإن من منطلق مذهبي آخر؟ فلماذا الريبةُ إذن؟

 

ثم أن جمهورية إيران الاسلامية، وهي مُلهمٌ وحليف تقليدي لهؤلاء الساسة، تحتفي بهذه الثورات، وترى أنها تعبيرٌ عما تطلق عليه "الصحوة الاسلامية". ونراها تستضيف وفود الاسلامويين العرب وغيرهم (باستثناء السوريين)، شيباً وشباناً، وتُقيمُ لهم مؤتمرات وندوات حضرها، وحاضرَ فيها سياسيون وقادة كبارٌ في (التحالف الوطني) الشيعي، لم يذهبوا هم أيضاً إلى وصفٍ آخر لها غيرَ وصف "الصحوة الاسلامية" هذا. فلماذا الريبةُ إذن؟!

 

وفضلاً عن هذا وذاك فإن غير القليل من مثقفي الأحزاب الدينية، عندنا، ونوابها، وحتى بعض ساستها، يرددون، بيقينية مطلقة (دون بحث ميداني توثيقي بالطبع)، بأن انتفاضة آذار الشعبانية عندنا، والتغيير في العراق، كانا هما المثال الذي اقتدى به شباب الثورات العربية، فأطلقوا بوحي منه ربيعَهم. وهم يدعون بلدان هذا الربيع إلى أن يدرسوا تجربة "العراق الجديد"، ويتعلموا منها!

 

ألا يبدو، إذا ما قابلنا هذا كله بريبة بعض ساسة السلطة في بلادنا، أننا، في هذه القضية كذلك، إزاء حالة من تناقضات ينطح بعضها بعضاً، لا ندري إلى أين نرسو معها؟  

 

حركة الاحتجاجات عندنا لم تفلت، كما هو معروف، من آثار هذه الريبة، وما تُنتجهُ من تصورات وأوهام، مصدرها هذه النظرة للسلطة ـ المعشوقة تاريخياً، والخوف عليها من أن تذهب إلى مخادع آخرين، فهي مركز الاهتمام ومحوره عندهم، وعند من يصارعونهم عليها. ولذا أطلق أهل السلطة، منذ الأيام الأولى لهذه الحركة، أساطير اتهاماتهم لها، دونما دليل أو سلطان. ولم تكن المبالغةُ في دور الشيوعيين، في هذه الحركة، سوى بعض هذه الأساطير. مثل هذه الأساطير تُظهِرُ السلطة "ضحيةً، مظلومة" دائماً، وتُشَرْعنُ لها الانتقامَ من "ظلمتِها"، حتى لو كانوا جمعَ متظاهرين، ومعاقبتهم، من ناحية، كما تتيحُ لها، من ناحية أخرى، الهروبَ من مسؤولياتها عن أحوال الأزمة التي أسهمت هي في إنتاجها، أو فشلتْ، على الأقل، في إخراج البلاد منها، وتُمكِّنها، بالتالي، من تهريب هذه الأزمة إلى أماكن الاحتجاج والمحتجين. كما أن أساطير كهذه تتطابق مع رغبات كامنة في استعادة صورة "عدوٍّ" جديد ـ قديم، عند الحاجة. كتاب المخابرات المذكور يُسهم في رسم مثل هذه الصورة.

 

من المعروف لنا جميعاً، ولأهل السلطة كذلك، بأن من دعى إلى التظاهرات، قبل أكثر من عام، وشارك فيها، مجاميع شبابية مختلفة الألوان والمشارب. كما التحقت بها، بعد انطلاقها، مجاميع أخرى زادت من تعدد الألوان هذا. حتى بعض أحزاب السلطة أخذت ترسل، خاصة بعد حملة "التأديب الديمقراطية ـ العشائرية!" للشبان المتظاهرين، أنصارَها للمرابطة في الساحة، ودعم سياستها، وتشكيل "ظهير جماهيري" لها في صراعاتها مع الآخرين!

صورة التنوع والاختلاف هذه كان يسهُل على كلّ مراقب تشخيصها. إذن فالديمقراطيون، من شيوعيين وغيرهم، لم يكونوا سوى جزء من حركة التظاهر، فلماذا يصبحون، في نظر السلطة وأجهزتها، همُ المحور الذي يجب توجيه بؤَر عدسات السلطة وبصّاصيها عليه؟    

 

أذكر أن السيد رئيس الوزراء عاد ليمدح المتظاهرين، في حديث تلفزيوني، بعد أسبوعين أو ثلاثة من اتهاماته المعروفة لهم. ذكر في هذا الحديث بعض منافع هذه التظاهرات، مشيراً إلى "أنها تُحَفِّزُ وتُذَكِّر". لقد أكبرت، في حينها، قدرة الرجل على أن يُصحِّحَ نفسه. لكنّ حملةَ "التأديب الديمقراطية ـ العشائرية" التي تَمَّ إطلاق العنان لها، على مرأى ومسمع من قوات السلطة، ناقضت، للأسف بشكل صارخ، هذا الحديث.

فإذا كانت للتظاهرات منافع "تذكير وتحفيز" الساسة الذين يبدو أنهم كثيرو النسيان، فلماذا، إذن، كلُّ إجراءات المتابعة والملاحقة وإعداد قوائم الأسماء لاعتقال الناس؟

 

لستُ أرى أن كتاب المخابرات هذا، إذا ما تأملناه في سياق ظواهر أخرى، ذكرت بعضها في هذه السطور، حالةٌ هامشية

أو تفصيلٌ تافهٌ في وضع سياسي معقَّد، لا يستحق الانشغال به، أو حتى الإشارة إليه، كما قد يظن البعض.

للكتاب "السري" المذكور، وهو لاشك واحد من كتب كثيرة مشابهة، دلالاته الخطيرة، في الحقيقة، كما أشرت. فمن الخطير، في النظام الديمقراطي الحقيقي، أن تكون أجهزة المخابرات، والملاحقة البوليسية، ركائز للحكم في التعامل مع حركات الاحتجاج السلمي الموجَّهَة ضد أخطائه في إدارة البلاد وبناء الدولة. مواجهة أسئلة المتظاهرين ومطاليبهم المشروعة بإجراءات مخابراتية وبوليسية يُشير إلى أنْ ليس في "خُرْج" السلطة من أجوبة ناجعة على هذه الأسئلة غير القمع!

 

ثم أليس من المنطق أن يعتاد أهل السلطة، إن كانوا صادقين في خيارهم للديمقراطية، التساؤلاتِ والشكوكَ والنقدَ والتظاهرَ ضدهم والاحتجاجَ عليهم، ويتفاعلوا مع هذا كله، ويتعلموا منه، حتى لو كانوا يظنون أنهم الأعلمون!

ألا يُفترَض في الديمقراطيين، في السلطة وخارجَها، أو يودِّعوا تلك الرغبةَ التقليدية في النظر إلى الناس بوصفهم رعيةً طائعين، "مؤدَّبين"، تنعقد ألسنتهم دهشةً وإعجاباً بطلعة الحاكم والأمير، فلا نقدَ، عندها، ولا احتجاجَ، ولا هم يحزنون؟!

 

جهازُ المخابرات، شأنه شأنَ الأجهزة الأمنية الأخرى، إحدى مؤسسات الدولة في النظم الديمقراطية. ولذا فهو يخضع لرقابة البرلمان فيها، ويمارس نشاطاته في إطار الدستور، وليس في الخروج عليه. فإذا كانت الدولةُ تكفل، مثلما ينص الدستور "حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل"، وتضمن "حرية الاجتماع والتظاهر السلمي"، وإذا كان الدستور يؤكد بأنَّ "لجميع الأفراد الحق في التمتع بكل الحقوق الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان التي صادق عليها العراق . . "، فكيف يجري إذن تسخير جهاز دولة "ديمقراطية" و"مدنية" لمتابعة أناس يمارسون حقاً دستورياً لهم، يرومون به خير البلاد؟

ألا يمثِّل هذا خروجاً على الدستور، ينبغي دعوة مجلس النواب والقضاء للإفتاء فيه، حتى تتصرف السلطة وأجهزتها "وفقاً للقانون" حقاً، هذه المرة؟

 

من المثير للدهشة أنْ لم يُصدرْ، حتى اللحظة، أيُّ موقفٍ، أو حتى مجرد رأي، بشأن هذا الخروج على الحقوق الدستورية

(مجردِ تكذيبٍ كاذبٍ، يجعلنا نقول بتلفيق مثل هذا الكتاب، مثلاً يا ناس!) لم يصدرْ مثلُ هذا الأمر، لا عن مكتب القائد العام للقوات المسلحة، ولا عن الرئاسات الثلاث، ولا حتى عن وزارة حقوق الانسان. لعل الوزارة ترى بأن حقوق السلطة وأجهزتها أعلى وأهمُّ من حقوق الانسان!  

 

ألم يضع المسؤولون هؤلاء، جميعاً، أيديهم على (الكتاب) مؤدين قَسَماً، أشهدوا الله عليه، بأن يحافظوا على أحكام الدستور، وأن يعملوا على صيانة الحريات العامة والخاصة؟ أليس حق التظاهر السلمي من بعض هذه الحريات؟

 

افتضاح أمر مثل هذا الكتاب كان سيدفع مجلس النواب، في أي بلد ديمقراطي حقاً، إلى عقد جلسة استثنائية، وتشكيل لجنة تحقيق خاصة في الأمر، والانتهاء إلى قرارات واضحة، تحاسب الحكومة بشأنه، وتعيدها إلى جادة الصواب.

الإجراءات التي تضمنها الكتاب هي بعض أشكال القمع. وتجاربنا تُظهرُ، شأن تجارب غيرنا، بأنك إذا لم تضع للنزوع إلى القمع حدوداً، في اللحظة المناسبة، لن يعود لهذا النزوع، فيما بعد، من حدود.

 

يخطئ من يظن أن الأمر يخص الشيوعيين واليساريين وحدهم. الأمر يخصُّ الجميع، حتى المنتمين لأحزاب الحكم، إذ أن التضييق على حرية الآخر، المختلف معي، ومصادرتها اليوم، رغم كفالة الدستور لها، لن يدع حريتي بمنأى عن المصادرة غداً. فالنزوع للقمع، تحت أيّ مبَرِّر كان، له آلياته ومحدلتُه التي لا تتوقف حتى تأتي على الأخضر واليابس في النهاية. تجارب التاريخ، قريبه وبعيده، تؤكد ذلك.

لقد وصل طاغية الأمس إلى ما وصل إليه من ظلم وقمع للجميع لأننا تعودنا أن نسكت، جميعاً، على ظلمه وقمعه لبعضنا طالما لم نكن نحن موضوعَ الظلم في حينها، متوهمين أنه لن يصلَ إلينا حتى أتى وقت طالنا فيه طوفانه جميعاً.

 

كتاب المخابرات المذكور ينطوي على دلالة خطيرة أخرى. إجراءات المتابعة التي يتضمنها، ودعوته لرصد تحركات أعضاء الحزب الشيوعي، وإعداد قوائم بأسمائهم (تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش الأخير عن اعتراض سبل المتوجهين إلى ساحة التحرير ،لإحياء الذكرى السنوية الأولى لانطلاق التظاهرات، يذكر حديثاً لأفراد عمليات بغداد عن وجود قائمة طويلة بأسماء المتظاهرين الذين يجب إلقاء القبض عليهم!) ليست سوى بعض سمات الدولة البوليسية التي يبدو أننا نمضي خلسةً، والعياذ بالله، باتجاهها.

فإذا ما جرى إيداع أمر الخلاف والجدل السياسيَيْن بشأن سياسات الحكومة وأزمتها، وانعكاساتها على المجتمع وحياة الناس، واتخاذ مواقف نقدية بشأنها، تتجسد في تظاهرات واعتصامات سلمية، إلى أجهزة المخابرات، وتمَّ توجيه هذه للقيام بإجراءات كتلك التي يشير إليها كتابها، أو السكوت عنها، أقول إذا ما جرى هذا كله، وهو ما يحدث فعلا، نكون قد خطونا صوبَ الدولة البوليسية حقاً.

 

خطر الإرهاب الذي يواجهه البلد والناس، وضرورةُ قطع دابره، يُقدمان، بالطبع، مبرراتٍ ترتفع، في ظلها، أصوات تدعو لتعزيز السطوة المخابراتية والبوليسية والأمنية عموماً، وتجميع خيوطها في مكان واحد، ولكنَّ إساءةَ استخدام هذه السطوة، وتوظيفها ضد الخصوم السياسيين، وفيما بعد ضد آخرين كثيرين، يظل قائماً في مثل هذه الأحوال الاستثنائية التي تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب، خاصة في حالة غياب رقابة برلمانية وشعبية دقيقة وفاعلة، وفي ظل عقلية، أنثوية الجذر ربما،

ما تزال تتطلع، رغم كل المآسي، لصورة "الزعيم القوي"!

  

حتى البلدان الديمقراطية تظل عرضةً لمثل هذا الخطر في ظروف مشابهة. بعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول)، وإعلان الحرب على الإرهاب واجه المجتمع الأمريكي، في ظل إدارة بوش الأصولية، ازديادَ سطوة أجهزة المخابرات و"مكتب التحقيقات الفيدرالي"، حتى في الحياة اليومية. قواعد الديمقراطية الراسخة هناك، ويقظة المجتمع، وحرص أفراده على حرياتهم العامة والخاصة، حالت، في النهاية، دون ذلك، ولكنها لم تستطع أن تحول دون الحرب في العراق. لقد تَمَّ الغزو في سياق حرب الإدارة على الارهاب، كما نعرف!

 

كتاب مخابرات الحكومة يكشف، من جديد، عن حقيقة مفادُها أننا لم نأخذ من الديمقراطية، حتى الآن، سوى آلياتها وبعض هوامشها التي لا ندري أين ستذهب في مجرى الصراع على السلطة، وبعد حسمه لصالح هذا أو ذاك. أما روح هذه الديمقراطية، وجوهرها الحق، فما يزالان، في تقديري، محجوزَيْن في غرفة انتظار مغلقة.

 

هل يمكن تصوّر ديمقراطية ما، منزوع عنها حق الناس، أقلية كانوا أم أكثرية، في التعبير عن آرائهم بأداء حكومتهم بحرية،

سواء أخذ هذا التعبير شكل تظاهرات وحركات احتجاج مدني سلمية، أو اقتصرَ على أشكال نقدية أخرى.

 

الحريات هي شرط الديمقراطية، وهي ما يجعل هذه الديمقراطية جديرة بالإسم والمعنى. هذه الحريات هي ما يضفي على الديمقراطية جماليتها. هذه الحريات، بمختلف أبعادها وأشكالها: الدينية، الفكرية، السياسية، الاجتماعية، العامة والخاصة، هي ما تأخذ الناس إلى عالم آخر جديد، يجدون فيه أنفسهم وقد خرجوا من زنازين التبعية لسادتهم، ويكتشفون طاقاتهم على الخلق والبناء.

هذه الحريات تأتي بأمكنة مفتوحة للحوار، للبحث والسؤال، للتمرد على القيود القديمة، للخلاف والاختلاف، للاجتهاد الحر، للمساومة والتنازلات الضرورية، ما دام فيها نفع الناس والبلاد.

وبدون هذه الحريات تصبح الديمقراطية معطوبة، شكلانية، مليئة بالثقوب من جهاتها الأربع. تكون، ببساطة، مسخاً لا غير.

 

ليس في الديمقراطية الحقة هذه ما يُسْكَتُ عنه. ليس فيها ما لا يُطلَب. قد يكون فيها ما لا يُنالُ أحياناً، لأن شروط نَيله لم تتحقق بعدُ. وتحقُّقُ مثلِ هذه الشروط لا يفتي به حزبٌ لوحده، أو حاكمٌ بمفرده.

 

لكنَّ ما لا يتحقق، ولا يُنال، مؤقتاً، يمكن أن يُطلَبَ هدفاً، اليومَ، ويُقصَدَ السبيلُ إليه. وكلُّ ما طلبه الناس، والشيوعيون معهم، في تظاهراتهم، وما زالوا يطلبونه، حقوق بسيطة، مشروعٌ طلبُها، وممكنٌ تحقيقها، ومنذ زمن غير قليل، ولكن مع ساسة آخرين، كما يبدو، وتركيبةِ سلطة أخرى، ذات عقلية حكم مختلفة!

 

قبل مدة قصيرة تابعت، على شاشة التلفاز، لقاء لرئيس الوزراء، قال فيه، واثقاً، بما معناه أن "العراق الآن هو النموذج".

كتاب المخابرات "السري ـ الشخصي"، وما ينطوي عليه، يجعل، مع ظواهر أخرى كثيرة، من صورة النموذج هذا، صورة مشوهة، مليئة بالشروخ. يجعل منها، في أفضل الأحوال، صورةَ الرغبة لا صورة الحقيقة.

كثيرٌ منا، يساريين وديمقراطيين واسلاميين، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين، صابئة وأيزيديين، وحتى يهودا لم يعودوا يعيشون في بلدهم، عرباً وكردا وتركماناً، جهدوا وجاهدوا، وما زالوا يجهدون ويجاهدون، كي يكون العراق هو النموذج حقاً.   

المتظاهرون الديمقراطيون، من شيوعيين وغيرهم، لم يقارعوا الظلمَ، ويقدموا التضحيات عقوداً طويلة، ولم يخرجوا للتظاهر والاحتجاج، لغير أن يكون العراق نموذجاً في الحريات والديمقراطية، في الخلق والبناء والتطور.

من يلاحقهم ويتابعهم، ويتربص بهم، وبغيرهم من الوطنيين، مخابراتياً، ومن يسكتُ عن هذا التربص وتلك الملاحقة، من يتجاهل نقدَهم، ونقدَ غيرهم، ولا يُصغي إليه، ويتفاعل معه، لا يصنع النموذجَ الحقَّ، بل النموذج الوهم.

والوهمُ يظل وهماً حتى لو صدَّقهُ أصحابه، وصدَّقه معهم كثيرون!

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.