اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

• الإغتراب عن الوطن ليس إغتراباً عن الذات

تقييم المستخدم:  / 2
سيئجيد 

سالم كجوجا

الإغتراب عن الوطن ليس إغتراباً عن الذات

                                                                          

     في الأوطان الجديدة، يواجه المهاجرون السورايي(السكان الأصليون لبيث نهرين)  تحديات كثيرة تخص خصوصيتهم القومية عند تفاعلهم مع مجتمعهم الجديد. ومن هذه التحديات مسألة بقاء السورث حية بينهم، وهو الموضوع الذي سنتناوله في هذا المقال، لأن السورث تبقى إحدى العلامات الحية التي تؤكد وحدتنا القومية سيما وأن السورايي بكل مكوناتهم يواجهون مصيراً واحداً.

    عبرت السورث البحار و المحيطات لتحط الرحال في أوطان جديدة متناثرة على قارات العالم، فواجه أهلها ظروفاً جديدة ضاغطة: إقتصادية واجتماعية وثقافية، فلاغرابة أن تنتاب الشكوك  كل سورايا ليستنتج " أن السورث ليست حاجة ملحة في المهجر، لذا فمهمة الحفاظ عليها تبدو غير ضرورية".

   عندما يترك المرء دياره مودعاً  ذكرياته وتاريخه في وطنه الأم، فإن خطر هجرته لاينحصرفي إضعاف أهله في الوطن فقط؛ وإنما الخطر يكمن عندما يضيف المهاجر إلى غربته عن أرضه، غربة ثانية عن ذاته وانقطاعاً عن جذوره، فيكف عن التواصل مع عوامل خصوصيته ويهرب تائهاً في فضاء ُمختلف بحثاً عن "أنا جديدة"، ليسدل الستاربالتالي على كل حياته السالفة المرتبطة بالتراث والتاريخ والتقاليد والطفولة. إنه هروب من الأم والأصل بسبب إنجراح مشاعر الإنتماء، فيقرر قطع الصلة بالجذور ومنها لغته، متصوراً أنه ُيغلـّب العقل والمصلحة على الثوابت فيتوصل إلى القول: "السورث لاكمخلا لخما :  وفي الحقيقة لاعلاقة لكسرة الخبز بالسورث،  فالسورث لاتمنع أحداً من العمل أو من بناء حياة إقتصادية واجتماعية متوازنة، كما لاتمنع أحداً من الإنفتاح على الثقافات واللغات الجديدة. هكذا يضع الوضع الجديد الذات النهرينية(السورايا) وجهاً لوجه أمام تحديات كبيرة، فعندما تسعى تلك الذات متلمسة طريقها  للتفاعل مع المجتمع الأمريكي(أوغيره من بلدان المهجر)، تطفو على السطح، تساؤلات حادة:

   * هل أن تحديات العالم الجديد هي أقوى من تلك التحديات التي مرت بها السورث خلال حقب تاريخية صعبة في مسيرة تاريخية طويلة مجالها الزمني عشرات القرون وبقت حية؟

   * هل أن عالم ثورة  المعلوماتية والإتصال سيكون المحطة الأخيرة التي سيتحطم على صخرتها الصلدة كل المنهوكين والمستضعفين والمسحوقين من بقايا الشعوب القديمة وغيرهم، فيذوبون هم وثقافاتهم وتراثهم كفص ملحٍ في الماء، أوستسحقهم ماكنة الهيمنة الإقتصادية والقوة السياسية والتأثيرات الثقافية  فيغدون شظايا ُمتناثرة؟!

 *أم أن العالم الحديث فيه  إنصاف وعدل ورُقي وتطور، باعتباره يصبو إلى "غد أفضل" للبشرية، فينتعش فيه المسلوب، وتنفرج كربة المقهور والمظلوم، فتتأكد خصوصية كل الشرائح بدلاً من أن تمحى، وتبقى زينة الغد الأفضل هي في التعددية والتنوع بعيداً عن حسابات الحجم والقوة وإنما تحت حسابات "القيمة العليا"  التي هي الإنسان؟؟...

    أسئلة كبيرة تراود الكثير منا ، ليست في حقيقتها إلا  تعبيراً عن صراعنا ونحن أمام ُمفترق طرق، وامام نقيضين: فهناك من لفـّه الإحباط بعباءته فأستسلم لحالة  موت مشاعر الإنتماء إلى قومه وإلى لغته، وآخر يعيش عالمه في حالة توازن،  متفاعلاً مع مجتمعه الجديد بشخصية متماسكة رزينة واثقة، هدفها تحقيق وجود في هذا المجتمع دونما ضرورة حتمية تستوجب كبت مشاعر الإنتماء إلى جذوره. وهنا يحق لنا السؤال: هل أن المجتمع الأمريكي(كمثال) ُيتيح لنا ذلك؟..هل أن شعبنا (السورايا) في المهجر الأمريكي(أوغيره) هو على مستوى الوعي  الذي يجعله ُمستعداً  للتكيف مع الحالات الفكرية والحضارية الحديثة وتوجهات الحياة المادية ومتطلباتها دون أن يفقد خصوصيته الثقافية والقومية؛ سيما بعد أن خاضت السورث وأهلها كفاحاً عصيباً  في معركتها من أجل البقاء في الوطن الأم  لقرون عدة؟

     التعددية والتنوع صفة المجتمعات المتطورة

     يتوهم من يعتقد أن القوميات الصغيرة نحو الزوال، وأن اللغات القديمة إلى إندثار، وكأنما تلك هي سنة التطور. في حين إن الأمر على العكس تماماً. فالمجتمعات التي ُتعاني من التخلف  الإقتصادي والإجتماعي، تسود على سلوكيات أفرادها عقلية التسلط والتعسف ، فتقل فرص الإعتراف بالآخر سيما إذا كان أقلية عددية، فيُعمد على قهره وخنقه ، سواء كان ذلك الآخر ُمختلفاً في الدين أو في الفكر أو في الإنتماء القومي والأثني. فإذا سلمنا جدلاً أن المسيرة التاريخية للإنسانية تسير بهكذا إتجاه، سيصح القول إذن بموت الأضعف وقهره، والفتك بالفقير ونهشه، والقضاء على المختلف أو صهره. وتلك رؤية متشائمة  شرعتها أشبه إلى شرعة الغاب من أن تكون ذات وجه إنساني( أي شرعة القوي يأكل الضعيف).

   إن الواقع، عزيزي القارئ، هو غير ذلك،لأن كل الدلالات ُتشير إلى تقدم المجتمعات وتطورها، أما الإحباطات أو الإنتكاسات فليست سوى لمحة تاريخية سرعان ما ينفض ُغبارها، فإذا ما ظهرعنصر هدم  واحد ، يقابله ظهور عشرات البنائين والمصلحين، فالبشرية سائرة نحو مجتمع أكمل، والأنسان نحو أنسنة أفضل، واليوم نشهد تطوراً يخص المجتمعات  في كل المجالات:  فمن ترسيخ شرعة حقوق الإنسان، إلى نمو إقتصادي وتطور تكنولوجي وعلمي صاعد و مستمرلايقبل بالنكوص.  لقد إستخدم المجتمع السيارة بعد عربة الخيل، فمن العبث التفكير بأننا سنرجع يوماً إلى الدابة  والعربة أو نستبدل الحاصدة بالفدان!  وإذا كان التشخيص الطبي قد وصل إلى مستويات عالية بواسطة التقنيات الدقيقة فمن الجهل أن نفكر برجوع الطب إلى التكهن في تشخيص المرض واستخدام التعاويذ  بدلاً من الأدوية الفعالة. إن المجتمعات تسير إلى أمام وترتفع إلى  أعلى، رغم العقبات والعراقيل، و فرص عيش الضعيف والمستلب في المجتمع المتطور هي أكثر.  إذن من الخطأ أن  ُتطلق صفة المجتمع المتطورعلى مجتمع لايراعي حق الطفل والشيخ وذوي العاهات من غير المنتجين، لابل هو الخطأ إذا تصورنا  أن المجتمع المتطور يلغي الرحمة ويستبدلها بالقسوة وسحق الضعيف، لأن المجتمعات المتطورة تقلل بشكل تدريجي، ولكنه مستمر، من تسلط الأقوياء القواهر، عليه فهكذا  ُمجتمعات نستبعد منها محاولات مسح هوية الأقلية، بل يكون للأقلية الأثنية مكان تحت ظل القانون شريطة أن لا ُتشكل تقوقعاً ُيعادي المجتمع الكبير الذي إعترف بحق كل إنسان العيش بكرامة دون حسابات الفارق الديني أو الأثني أو الثقافي أو الفكري. هناك اليوم:  شعور عالمي ُيعزز  الحرص على الأقليات، ويشجع السعي إلى إحترام عاداتها وتقاليدها وثقافاتها ولغاتها. وقد لاحظنا نشوء دول قومية حديثة في أوربا وآسيا وأفريقيا، و تم إيجاد  ُفسح في دساتير الكثير من الدول تقبل بحقوق الأقليات كما حصل للأمازيغ في المغرب والجزائر، والأكراد في العراق. وربما سيتحقق أيضاً للسورايي مع مكونات أخرى، حلم المحافظة في سهل نينوى، ليصونوا في نظامها خصوصيتهم القومية والثقافية. إن السعي حثيث ليكون عالمنا أجمل وأفضل يزينه التنوع  بمقاييس قيمة الإنسان لا بمقاييس الكم والحجم، مع إدراكنا أن الطريق ليس مفروشاً بالورود.

    إن المجتمع الأمريكي( ومجتمعات الدول المتقدمة) عزيزي القارئ، يتسم بالتعددية والتنوع والإنفتاح، ولايدعو إلى ترك الخصوصية ولايتدخل بها طالما لا ُتعارض الدستور والقوانين الوضعية، لابل أن الخصوصية هي بمثابة الحرية الشخصية التي ُتعتبر من المقدسات ضمن الضوابط. فما يطلبه المجتمع الأمريكي من المواطن، هو أداء جيد في الحياة العامة ضمن القوانين، وهذا الأداء لايمنع إبني وإبنك من الإلمام بلغته الأم  ولا يدعوه إلى إهمال تاريخه والتنكر لهويته. إن الفوارق الأثنية أو الثقافية  تتآلف  ولا تنمحي في المجتمعات التي يتوحد أفرادها في واجبات البناء الإقتصادي والتقني والإنساني والمجتمعي، وفي هكذا  ُمجتمعات ستلقى السورث مكانها دون ضغوط  ُتمارس لتحجيمها وإسكاتها، فتبقى مسألة  وجودها واستمراريتها هي رهن قناعاتنا، لا رهن ضغوط مجتمعية نتخيلها نحن. فالحفاظ على السورث وبالتالي على الخصوصية، لا ُيشكل أي تحدٍ للقيم السائدة في المجتمع الأمريكي(مثلاً)، ذلك البحرالواسع الذي تستطيع الذات  النهرينية(السورايا) أن تشق عبابه حرة ضمن خصوصيتها القومية. ولما كانت الخصوصية النهرينية(كلدانية سريانية آشورية) خصوصية حضارية إنسانية الطابع، فهي تستطيع التكيف بشكل متوازن مع قيم المجتمع الأمريكي.

         هنا تواجه  الذات النهرينية (السورايا) حقلين:

      * حقل الحياة العامة الواسع والمركب، يتصارع الفرد فيه لتأكيد وجوده من خلال نشاطه الإقتصادي والفكري، وهذا الصراع هو تفاعل بنّاء ضمن شروط الأداء الجيد لنمو المجتمع.

      و حقل ثان ٍ هو:

      *حقل الحياة الخاصة المصون في المجتمع الأمريكي ضمن مفهوم الحريات،فنحفظ خصوصيتنا اللغوية والمجتمعية والثقافية: دبكاتنا،أكلاتنا، زيّنا،طقوسنا وصلواتنا،أغانينا وإرتباطنا بتطلعات أهلنا في الأرض الأم.

     نستنتج ممّـا هو مطروح :

 أن حركة التاريخ هي بإتجاه تكوين مجتمعات أكثر تطوراً وانفتاحاً، تقبل بالتعددية وتحترم الأقلية مهما إختلف لونها، وعليه يمكن لنا تفعيل دورنا لنزيد من إحتمالات الحفاظ على خصوصيتنا ولغتنا في المجتمع الأمريكـي ومعظم دول المهجر المتقدمة، حيث لايوجد تحديات مباشرة ومبرمجة كما حصل ويحصل في الوطن الأم. فالتنكر للخصوصية في بلدان المهجر لايأتي من خارجنا بقدر ما يأتي  من داخل ذواتنا. فنحن إذن، من سيقرر بقاؤنا ضمن الخصوصية من عدمها، لأن الحصانة تنبع من قناعاتنا، وديمومة السورث هي رهن إرادتنا، والهزيمة لا تأتي إلا من الوعي المتخلف الذي تملكه الذات ومن تخلخل قيمها. ولنا تجربة مريرة في العراق، فقد كان بعض الناس يخشون على أبنائهم من ضعف لغتهم العربية إذا ما تحدثوا السورث في البيت، ، فقرروا بطيبة خاطر محو السورث وكتم أنفاسها، و في إعتقادهم إنهم إرتقوا إلى طبقة أعلى، أما سبب ذلك الموقف، هو شعورهم  بالنقص من عقدة الإنتماء إلى "الأقلية"، ثم عدم إمتلاكهم إرادة ووعي كافيين لوقاية الذات من عملية خرقها واقتحامها ومحوها، مما أدى إلى الهزيمة من الذات الأصيلة واستبدالها بذات ُأخرى ُمصطنعة على مقاييس القوي القاهر، فيتحقق الذوبان في ُمحيطه الأيديولوجي. غير أنه لم  ُيكتب النجاح لهذا التيار، فتقلص ُمريدوه،  وثبت أن العوائل التي حافظت على السورث ُيجيد أبنائها اللغة العربية بشكل متفوق، فهناك من السورايي مَن هم  متفوقون في اللغة العربية حتى على الكثير من أقرانهم العرب. ولدينا أمثلة حية دامغة لمسناها في مرافق حياتية كثيرة: في المدرسة والجامعة والصحافة والأدب وإلى غير ذلك. إذن، باطل هو الإدعاء: بأن ترك السورث هو أفضل للنشئ، لأن تركها أدى إلى  بناء شخصية تخجل من جذورها  تتنكر للأصل و تعطي قيمة إسطورية للآخر القاهر. لقد علمتنا التجربة في العراق ونحن تحت ضغوط الصهر القومي، أن التمسك بالجذور أعطانا إحتراماً اكبر و عزز فينا  قوة الشخصية، في حين أن الخجل من تلك الجذورهو تبعية للآخر وشعور بالدونية والمذلة أمامه.

   وهكذا تلاشت دعوات المتنكرين لجذورهم  كما تلاشت شكوك بطرس بعد صياح الديك،  وبقي الأمر لتيار السورث رغم حملات التعريب المخطط لها والمدروسة. أما في المهجر فنحن لانواجه ضغوطاً خارجية في هذا الجانب، فليس من عذر يبررلنا إهمال لغتنا طالما نحيا في مجتمعات ديمقراطية.

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.