مقالات وآراء

حوار حول حادث جرى قبل أكثر من نصف قرن// غسان رسام

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

حوار حول حادث جرى قبل أكثر من نصف قرن

طرفا الحوار زميلا الدراسة غسان رسام وعادل حبه

غسان رسام

 

المكان: كلية العلوم -الأعظمية بغداد

الزمان: ربيع ١٩٥٩

1-الموقف

تشبه حرارة النهار في ربيع بغداد قيظ الصيف في كثير من البلدان. ولم يختلف ذلك اليوم عن غيره. كان لدينا نحن طلبة الصف الثالث في قسم الجيولوجيا انذاك حصة مختبر الفيزياء حيث كنا نقوم بتجارب على المولدات الكهرومغناطيسية تحت إشراف الدكتورة لمعان زكي، خريجة ارقى جامعات أمريكا. ويليه درس عن جيولوجيا العراق للاستاذ الإنكليزي ذو العيون الزرقاء النافذة بولتن. ثم نذهب بعده الى القاعة العامة حيث نبتلع صمونة عنبة قبل المشي في حديقة الكلية في انتظار بدء مختبر الكيمياء وهو مختبري المفضل، لأنني أحب خلط المواد ومراقبة وتدوين النتائج المتوقعة والاكيدة، تماما كدرس الدين. والنتيجة لا تحيد قيد انملة عن "النظرية". ليس من مفاجات هناك.

خرجت من مختبر الكيمياء لأرى احد الزملاء، واظنه كان في قسم الكيمياء او الرياضيات، نحيفا، اصفر الوجه، معقوف الأنف، حليق الوجه، يركض نحوي مرتديا خاكي "المقاومة الشعبية"، وكانت في أوج نشاطها وسيطرتها على الشارع، رغم ان عمادة الكلية كانت تمنع ارتداء ملابس المقاومة داخل بناية الكلية، سوى ان وضع الشارع كان متأزما وإشاعات الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم وحلفاءه الشيوعيون تتزايد يوما بعد يوم. ويبدو ان الحزب الشيوعي كان يستبق الأحداث بالهجوم على اعدائه من القوميين والبعثيين والإسلاميين. وكانت كلية العلوم منقسمة سياسيا الى شطرين وهما الشيوعيون وحلفائهم والقوميون وحلفائهم، وكنت محسوبا على القوميين لأسباب عديدة أهمها علاقات الصداقة التي نمت قبل الانشطار الذي اصاب المجتمع العراقي بعد حركة تموز، وكذلك كون عائلتي قد صنفت حينذاك بـ "البرجوازية" رغم انها كانت في احسن الأحوال متوسطة المستوى لا تملك القصور (كان بيت ابي عرصة صغيرة من عرصات الهندية)، وكان اغلب اولاد عمومتي شيوعيين ومن مؤيدي "الزعيم" ، بل ان احدهم، حازم جرجيس، وهو وَيَا للمفارقة الماساوية، لم يعر السياسة اهتماما، وكان المعيل الوحيد لوالدته الأرملة وأخواته فركز جل اهتمامه على عمله في مديرية الأمراض المتوطنة في الموصل، قد اغتيل هناك بعد سنة من محاولة الشواف الانقلابية، على يد عصابات الاخوان المسلمين.

 

اذا ما الذي دفعني الى الانضمام الطوعي لمعسكر القوميين--وكان معسكرا بكل معنى الكلمة يتخندق ضمنه ما يقرب من نصف طلاب الكلية؟ يصعب الجواب على مثل هذه الأسئلة. التصنيف الاجتماعي، كما ذكرت، له دور كبير وكذلك الاتجاه العروبي لوالدي الذي كان في شبابه يتزعم المظاهرات المؤيدة لعروبة فلسطين، والذي اعتقل لبضعة سنين لتأييده لحركة رشيد عالي. كل هذا كان له اثر في تكوين قناعاتي بدون شك. كما لم أكن مقتنعا بالماركسية، واذكر هنا نقاشات حادة في الثانوية الشرقية مع زميلي هناك عادل حبه الذي اصبح بعد ذلك زميلي في الجيولوجيا وزعيما لشيوعي في الكلية (رئيس اتحاد الطلبة هناك)، تلك النقاشات التي خسرت معظمها لان عادل اكثر اطلاعا مني بالثقافة الماركسية اللينينية وانا لم اقرأ سوى "البيان الشيوعي" واجزاء من كتاب "راس المال"  لكارل ماركس، الذي لم يمنعني من الخوض مع عادل في نقاش طويل حول افضلية تلك الأيديولوجيا على غيرها. لكنني اذ استذكر مشاعري تلك الايام لا أغفل عامل مهم، وربما الأهم: ان القوميين، وانشطهم وأكثرهم تنظيما البعثيين، سبقوا المعسكر الاخر بدعوتي للانضمام اليهم. ولا أنسى انني كنت قد وقعت في حب زميلة جميلة وقومية في ان واحد.

جاءني الزميل الأصفر الوجه راكضا وبادرني بلكمة قوية كسرت انفي وهو يسبني ويسب القوميين والبعثيين و"أعداء الثورة" بأقذع السباب. فاجأني فلم افلح في الدفاع عن نفسي سوى بدفعه للوراء. وما لبث ان انشغل بغيري وتركني احاول إيقاف نزيف الدماء التي كست بدلتي وحتى أحذيتي وجواربي، ورغم الوجع المبرح، كنت أراقب الدماء وهي تجري مستغربا الكمية الهائلة التي تخرج من الأنف وأحاول تقدير كميات الدم في جسم الانسان. وانا في ذهولي هذا لاحظت استاذة الفيزياء تسحبني من يدي الى مختبرها وتدفعني دفعا تحت طاولة الاختبار وهي تردد "راح يكتلوكم..راح يكتلوكم..اختبئ لا تتحرك".

 

وهناك، تحت الطاولة، بدأت باسترجاع أنفاسي ولاحظت ان حالة من الهرج والصراخ قد انتابت اروقة الكلية وان العشرات من "المقاومة" وبعضهم كبير الجسم، مفتول العضلات، مثل الزملاء حازم جميل وجميل منير، يتناولون بالضرب المبرح للعديد من زملائهم. اما انا فقد ملأني الخوف بل الرعب مما قد ياتي في المرحلة القادمة الا وهو"السحل" وهو الاختراع الثوري العراقي بامتياز "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة". وكنت قد شاهدت قبل اقل من سنة ما تبقى من جثة نوري السعيد وهي تسحل وراء سيارة جيب عسكرية قرب "الباب الشرقي  "كسر الخشم كان في تصوري "زلاطة" مقابل السحل الثوري هذا، خصوصا ان الاستاذة المنقذة كانت قد أوقفت نزيف الدم بضغطها على موقع الكسر ب"جفية" بيضاء تحولت بسرعة الى حمراء .

 

مرت فترة من الاضطراب لا اظنها تجاوزت نصف الساعة، سيطرت "المقاومة" خلالها على الكلية وتوقف الضرب (وربما السحل اذ لم اشاهد انا ذلك ولكن سمعنا بعد تلك الأحداث بفترة ان احد الزملاء الجيولوجيين ف.ع. قد سحب لخارج الكلية وربط بالحبال وسحل بعض الوقت في الشارع الا انه استطاع الهروب ونجى بجلده.؟؟؟؟) ساد هدوء نسبي شجعني للخروج من مخبائ وذهبت الى قاعة من قاعات الدروس حيث كان عدد من الزملاء الجيولوجيين واقفين امام الحائط يراقبهم احد أفراد "المقاومة" . وبعد فترة قصيرة انضم لنا زميل من قسم الفيزياء وكان غريب الأطوار ولكنه شديد الذكاء لم يبدر منه قط سابقا اي اتجاه سياسي. وقف بجانبي وصاح بأذني "جان شنو القصة، ليش واكفين هيچي؟" اكنت احاول ان أهمس باذنه ان الامر لا يعنيه، وان من الأفضل له الابتعاد وهو لا يصغي بل يزيد من صراخه ويبدا بسب الزعيم ثم يأخذ ورقة من جيبه ويبدا بإلقاء قصيدة في هجاء الزعيم الأوحد. وكل ذلك امام وبسماع "المقاوم" المذهول والذي يظن ان في الامر خدعة ما...فيسمح لشاعرنا الأغر بالانسحاب من المعمعة بسلام بعد ان رَآه يمزق القصيدة ويحشوها في فمه ويمضغها ثم يبلعها.

وهنا تخونني ذاكرتي فلا أدري كيف ان وجدت نفسي في غرفة العميد صلاح تحسين وكيف تركت الغرفة ومبنى الكلية بمعيّة اثنين من "المقاومة" اللذان اصطحباني الى المستشفى القريب في "باب المعظم" حيث عالجني طبيب خفر، وكان النزيف قد بدا من جديد، قائلا على ما اذكر انه سوف يوقف النزيف ولكنه لا يستطيع معالجة الكسر. أظن ان الطبيب هذا كان متعاطفا مع القوميين، فقد طلب بحزم من المقاومين ان يتركوا غرفته ويقفوا بالرواق حتى ينتهي من علاجي. وحالما خرجا طلب مني رقم تليفون بيتنا (٩٨١٧٥)، واتصل بوالدي الذي جاء الى المستشفى بعد قليل حيث اطمئن على وضعي. الا ان الوالد والطبيب لم يفلحا في ثني المقاومين عن اصطحابي مرة اخرى الى الكلية، ومن هناك أخذونا الى موقف شرطة قريب من الكلية حيث حشرنا نحن الجيولوجيون (واذكر سهل السنوي وسامي شريف التكريتي ومؤيد حامد خيوكة) وبعض الفيزيائيون، وعددنا يقترب من خمسة عشر؟؟؟، في زنزانة واحدة مع بعض الموقوفين لأسباب سياسية غير سياسية .

 

قضينا في الموقف اياما قليلة ممتعة؟؟؟؟ الى حد ما رغم الوضع الصحي والغذائي المزري. لأنني احتككت لأول مرة في حياتي مع شريحة من الناس لم اتخيل في يوم من الايام ان أتعرف عليها، بل أستطيع القول انني لم أكن ادرك وجود أشخاص من هذا النوع. واظن انهم كذلك وجدوا أنفسهم بتماس مع عالم موازي له لغته وعاداته الخاصة. وبمرور الوقت الممل في مثل هذا السجن، حيث التكدس الجسدي وروائح الأجسام التي لم تعرف الصابون منذ فترة طويلة وحيث يصعب الاستغراق في النوم وانت في حالة جلوس، بدانا نحن وبقية النزلاء بالتعرف على بَعضُنَا. والواقع انني على الأقل كنت اهتم بالاطلاع على عالمهم اكثر بكثير من إبلاغهم عن عالمي انا. لا اذكر الان سوى بعض قصصهم عن التهريب وملاحقة الشرطة وأوضاع السجون المختلفة، وبعضهم كانوا قد حلوا في ضيافة الشرطة عدة مرات وفي بلدات عديدة وقد أكد لي احدهم ان الحياة في الموقف افضل بكثير من السجن. هذا الا اذا امتلئ الموقف فجاة بأمثالنا، نعكر مزاجهم بلغتنا الغريبة وطباعنا المتعالية. كما اذكر ان احدهم كان يقضي وقته بإطلاق قذائفه، وهي سجاير ازال منها نصف التبغ ثم لعق مؤخرتها بلعابه، نحو سقف الغرفة فتلتصق هناك. ومن حسن الحظ انه لم يبخل علينا فنه هذا فملئنا هكذا سقف الغرفة بخريطة من السجائر، كما زينا سقف السجن وراء السدة فيما بعد. وكنا بهذا قد حققنا نوعا من الموازنة البرجوازية-الشعبية: كنا نوفر السجائر عن طريق زوارنا من الاهل وكان المهرب العتيد يوفر الخبرة اللازمة في فن وعلم تعليق الصواريخ من السقف.

 

لم "يعكر" صفو ايام الموقف هذه سوى تحقيق خفيف الوقع لمسؤول الموقف لبعض الموقوفين لم يدم اكثر من نصف ساعة ولا اذكر فحواه سوى انه حاول ان يلصق بنا تهمة توزيع منشورات معادية للحكومة وللزعيم--الامر الذي أنكرناه بكل قوانا. كما اذكر زيارتين في الموقف، الاولى من ابي ومعه حزمة من "الكليجة" من طهي عمتي لطيفة، نالت إعجاب جميع الموقوفين واختفت بدقائق. الزيارة الاخرى كانت من قبل مدرسة اللغة الألمانية في كلية العلوم وكانت اللغات وقتها "اختياري". جاءت تلك المدرسة لترانا من وراء القضبان وتطمئن علينا وتسألنا عن احوالنا وكاننا جالسون معا في ردهة استقبال ندردش عن موجة الحر او الفرق بين الdative والaccusative! ولم تنس ان تذكرنا بان الامتحانات على مقربة وهي تشجعنا على الدراسة.

٢-المعتقل - ماوراء السدة

بعد ايام قليلة في موقف شرطة الأعظمية ركبنا في لوري وانتقلنا ونحن نرتدي زي السجن الرسمي تلك الايام وهو البجاما او الدشداشة، حسب الخلفية الاجتماعية للسجين، ذهبوا بنا الى معتقل "ورا السدة" وكان أصلا مركزا للشرطة السيارة حولوه الى معتقل بسبب اكتضاض السجون الرسمية بالمساجين اثر حملة المقاومة الشعبية على المجموعات القومية (لم يكن هناك في ١٩٥٩ اثر فعال للمجموعات الاسلامية).

وهناك دفعوا بنا الى صالة كبيرة ضمت ما يقرب من مائة نزيل. سمحوا لنا بالاتصال الهاتفي مع أهالينا الذين جاؤا لزيارتنا ومعهم بطانيات ومخدات حيث افترشنا الارض، كما جاؤا بين الحين والآخر ومعهم طعام واثمار، ومرة اخرى، كليجة عمتي لطيفة التي لقت من الإعجاب والاستحسان عند المعتقلين هنا ما لقته سابقتها في الموقف مع الفارق انني اضطررت ان أشارك فيها عدد محدود فقط من الزملاء مما دفع البعض للزعل والانزعاج.

 

عندما جئنا الى المعتقل لأول مرة وجدنا ان عددا جيدا من زملائنا في كلية العلوم كان قد سبقنا هناك ومن ضمنهم المسؤؤل البعثي في الكلية حبيب الدوري. وسرعان ما اتضحت لدي بضعة أمور: ان البعثيين هم الأكثر تنظيما وضبطا بين القوميين، وان السجون هي المكان المفضل لأدلجة الشباب وتهيئتهم للانخراط في صفوف الأحزاب، وان ادارة السجن لا تهتم كثيراً عما يجري داخل السجن ما دام السجناء يلتزمون بالنظام.

 أخذ حبيب على عاتقه تنظيم نزلاء ردهتنا من ناحية النظافة والطعام والنوم، كما بدا بتنظيم محاضرات فكرية وعقائدية دورية تناولت الكثير من القضايا السياسية الانية. وكان لحبيب أسلوبه السلس والهادئ في الاقناع، كما كان يدرك الفروقات الكبيرة بين أفراد هكذا مجموعة من الشباب، فكان يحاول قدر الامكان صيغ كلامه وتوجهه حسب المتلقي. وبمعنى اخر كان حبيب قياديا صعد فيما بعد في حزب البعث الى درجات عليا، الا انه ادرك بسرعة ان قيادة الحزب تسير بخطى حثيثة نحو الهاوية فترك البعث وشارك في حركات سياسية يسارية ودفع ثمن اقتناعه الثوري من سجن الى مطاردة الى محاكمة واعتقال ونفي وبالأخير ترك كل ذلك واعتزل العمل السياسي.

بعد شهر او اكثر بدا الملل يعترينا جميعا رغم محاولات الترفيه التي يقوم بها البعض منا. فعلى سبيل المثال قرر احدنا ان نتعلم كلنا لعب الشطرنج فكانت المشكلة الاولى هي توفير احجار اللعبة وهناك جمع رفيقنا لب "الصمون" ونقعه بالماء ومزج نصف المزيج بمخلفات القهوة وابقى النصف الاخر على بياضه، ثم نحت أشكال احجار الشطرنج وصنع رقعة اللعبة من قطعة من "الورق المقوى". وتبرع خبير في اللعبة بتدريسها لنا. كما توفرت لدى البعض منا بعض كتب القصص التي جائتنا "تهريب" من أهالينا.

لكن بمرور الوقت (أظن اننا بقينا هناك حوالي الشهرين او اقل بقليل) وتوقف التحقيق معنا (وقد اتضح لنا منذ البداية ان امر المعتقل قومي الاتجاه لا ينوي ان يبالغ في ان يسبر حجم "المؤامرة" ان وجدت أصلا، فلم يتجاوز تحقيقه اكثر من ربع الساعة مع أكثرنا وذلك لمرة واحدة فقط. وكم تمنيت اليوم ان اقرأ تقارير هذا الرجل لمسؤوليه!. كما تسرب لنا ان حمى الاعتقالات قد خفت بل توقفت وان "المد الشيوعي" قد أخذ بالانحسار، فبدأنا ننتظر بفارغ الصبر كل إشارة وكل إشاعة تفيد بانتهاء الإعتقال. وفعلا في صباح احد ايام الصيف وجدتني امشي في شارع مترب وحار حتى وصلت الى محطة باص من باصات الأمانة، ومن حسن الحظ توفر بعض الفلوس في جيبي أوصلتني الي بيتنا في الكرادة.

وفي نهاية ذاك الصيف طلبت من ابن عمتي سامي (وكان محسوبا على الشيوعيين)، ان يصطحبني الى كلية العلوم لأداء الامتحانات التكميلية للصف الثالث الجيولوجي،  فرغم انفراج الوضع العام كان للشيوعيين وللمقاومة سيطرتهم على بناية الكلية حيث حقق معي الزميل عادل حبة ومعه حازم جميل الذي هددني بالضرب ان "لم اعترف" ولكن عادل طلب منه الخروج من الغرفة وبعد أسئلة وأجوبة لم تطل (رغم كونها اكثر عمقا وذكاءا من تحقيق الشرطة في الموقف والمعتقل) سمح لي بتكميل الامتحان اي التجاوز الى السنة الرابعة والاخيرة في درجة البكالوريوس.؟؟؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعقيب عادل حبه على المذكرات

لقد قرأت بإمعان هذه المادة وتصورت في البداية أنها مجرد رواية، ولكن بعد الاشارات إلى الأسماء الصريحة تبين لي إنها ذكريات شخصية. لقد كنت أتمنى أن تُشحذ الذاكرة وتدقق الاحداث وأن يجري التحلي بالنظرة الموضوعية والترفع عن كيل الاتهامات جزافاً قبل الشروع بتدوين الملاحظات، رغم السنوات الطوال التي مرت على هذه الأحداث، ليجري نقل ما حدث بدقة بظروفها وأسبابها كي يستفيد منها القارئ، وخاصة الجيل الجديد الذي ينبغي أن يطلع على تجارب الأجيال السابقة، وكي تصبح هذه الذكريات إضافة واقعية إلى الذاكرة العراقية التي شابها التشويه لعقود من أجل تحقيق أهداف ومصالح سياسية آنية، وتوجيه الاتهام والتحريض ضد تيار سياسي بعينه ، أو أن يعمد في كتابة  المذكرات، وليس الروايات، إلى dramatize في السرد.

سأتناول المادة حسب النسق المناسب لمناقشتها، وربما بقدر من التفصيل. في البداية لا بد من الإشارة إلى أن غسان رسام  كان غير مولع بلوج دروب السياسة سواء في فترة الدراسة في الثانوية الشرقية أو في العامين الذين سبقا ثورة تموز عام 1958. فقد شرع بممارسة النشاط السياسي بعد ثورة تموز عام 1958 تحديداً، أي في مرحلة الصف الثالث والرابع في قسم الجيولوجيا في كلية العلوم. وكذلك انخرط بعض الزملاء الآخرين في ممارسة النشاط السياسي بعد الثورة، باستثناء الزميل حبيب الدوري مسؤول حزب البعث في الكلية وعدد آخر من الزملاء، والذي كانت لدينا معه صلات عبر التنسيق السياسي بين الأحزاب المشاركة في"جبهة الاتحاد الوطني" التي ضمت الأحزاب الأربعة المعارضة للحكم الملكي آنذاك والتي تشكلت في عام 1957. وقد شاركنا ببضع فعاليات مشتركة قبل الثورة يتذكرها الزميل حبيب الدوري. أما النقاش مع غسان في أمور ايديولوجية!!، فلم يحدث معه حتى بعد ثورة تموز سواء أكان حول البيان الشيوعي أم حول كتاب "ثروة الأمم" للاقتصادي الانجليزي آدم سميث، الذي لا يمت بأية صلة بالاشتراكية ولا بنقاشنا الأيديولوجي المزعوم. فقد سبق  آدم سميث ماركس والحركة الاشتراكية بقرن كامل عندما كتب كتابه:" ثروة الأمم أو حسب اسم الكتاب الكامل "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" (An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations)، وهو أهم مؤلفات الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث، تم نشره عام 1776، أي في بداية الثورة الصناعية، ويعتبر أحد معالم تطور الفكر الاقتصادي الرأسمالي. ونادى سميث بالرأسمالية ورفض تدخل الحكومة في الاقتصاد ونادى بوجوب تركه لقوى العرض والطلب".

إن النقاش الذي دار لفترة قصيرة بعد الثورة في الكلية، انقطع كلياً بعد تأزم العلاقات بين التيار الديمقراطي والشيوعي وبين التيار القومي والذي تمحور أساساً حول مستقبل العلاقة مع الجمهورية العربية المتحدة، وحدة اندماجية طالب بها حزب البعث فقط، واتحاد فدرالي طالبت به الأحزاب الثلاثة الأخرى، الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي العراق، إضافة إلى الحزب الديمقراطي الكردي الموحد. ومن المعلوم أن جبهة الاتحاد الوطني قد اتخذت قبل الثورة وفي شهر نيسان من عام 1958 قراراً يدعو إلى الارتباط بالجمهورية العربية المتحدة باتحاد فدرالي، ووافق حزب البعث على ذلك. ولكن بعد انتصار الثورة لم يلتزم حزب البعث بالقرار لأسباب تتعلق بإصرار ميشيل عفلق عرّاب الوحدة الاندماجية على الوحدة الفورية الاندماجية. ولكن الدوافع للوحدة الاندماجية لعفلق وحزب البعث غير حقيقية وغير مخلصة، حيث انطوت هذه الدعوة ورفع شعار الوحدة الاندماجية على دوافع أخرى. والدليل على ذلك أن البعث تنكر للشعار الذي رفعه، وعرقل أي مسعى وحدوي مع الدول العربية بعد استيلائه على الحكم في 1963 و 1968 وخلال عقود لاحقة امتدت حتى اسقاطه في عام 2003 على يد الغزاة الأمريكان. والشواهد التاريخية حافلة على الامثلة العديدة المثيرة من التآمر والمواجهات والقطيعة مع الدول العربية، خاصة العربية المتحدة وسوريا لاحقاً .

إن الدافع الأساس للوحدة الاندماجية سواء بين سورية ومصر أو الدعوة إلى انضمام العراق إلى هذه الوحدة الاندماجية، كما يشير هاني الفكيكي في مذكراته حين قال:" لقد كان حزب البعث يشعر بضعفه في الشارع السياسي، لذلك فضّل أن يحسم الأمر من خلال الوحدة الفورية". وبعبارة أخرى تصفية أي مظهر من مظاهر النشاط السياسي للأحزاب الأخرى، وهو موقف يتناغم مع شرط عبد الناصر لأية وحدة اندماجية. فعبد الناصر اعتبر الحزبية خيانة في كتابه المعروف "فلسفة الثورة". وقد طبق عملياً هذا النهج في مصر عبر الحجر على النشاط الحزبي وملاحقة نشطاء الأحزاب وخصوصاً الحزب الشيوعي المصري الذي قدم أبرز قادته وهو شهدي عطية كضحية لهذا النهج المعادي للديمقراطية. كما طبق هذا النهج أيضاً في سوريا أيضاً بعد الوحدة حيث بلغ الأمر حداً خطيراً عندما جرى وضع الشهيد الشيوعي فرج الله الحلو في حوض الأسيد ومُحي أي أثر له على يد رجال مخابرات الجمهورية العربية المتحدة. وهذا ما وافق عليه حزب البعث في سوريا حيث حل حزب البعث نفسه، وهو ما كان يرمي له حزب البعث في العراق أيضاً من أجل مواجهة نشاط الأحزاب الأخرى، مما يعد تنكرا لميثاق جبهة الاتحاد الوطني الذي طالب بالحريات الديمقراطية، ونذير شؤم للحزب الشيوعي في عودة الملاحقات والاضطهاد ضده من جديد.

هذا هو السبب الأساسي في توتر العلاقات بين الأطراف السياسية وخاصة الحزب الشيوعي والبعث، وانعكس بالطبع على أجواء الطلبة. فلا يعود السبب، كما يروي غسان، إلى المنحدر الطبقي "البرجوازي" لغسان رسام والآخرين. فمن المعلوم إن المنحدر الطبقي لكاتب هذه السطور وربما لغالبية طلبة كلية العلوم هو من نفس الطبقة المتوسطة التي ينحدر منها غسان رسام، باستثناء ربما الزميل هايك سامي الذي كان والده يدير مشغلاً متواضعاً لتصليح الأحذية في محلة راغبة خاتون. كما إنني لم أسمع في أي من الحوارات أو "المشاكسات" نغمة المنحدر البرجوازي أو غيره على لسان المتحاورين.

في المقالة كما يبدو، لم يحاول غسان الإشارة إلى السبب المباشر لهذا الاحتقان، ووصف "حادثة كلية العلوم" بشكل منعزل عن الاحتقان والتوتر الخطير الذي أحاط بالمجتمع. في مؤلفه الموسوعي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، يشير الفقيد عزيز سباهي إلى أنه: " في مساء 17 توز 1958، قرر مجلس الوزراء العراقي ارسال وفد للالتقاء بجمال عبد الناصر في دمشق برئاسة عبد السلام عارف . وكان عارف يشدد في أحاديثه في دمشق على انضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة، وإن عبد الناصر وعد بذلك، وحين تساءل الأخير عن مصير عبد الكريم قاسم في هذه الحالة، أجاب عارف في الحال وبحزم سيكون مصيره كمصير اللواء محمممد نجيب!!". هذا الحديث جرى في وقت كان البعث على علاقة تحالف مع عب السلام عارف.

وهكذا اقترن تطور الأحداث منذ الأيام الأولى من عمر الثورة بنزعتين خطرتين. الأولى الشروع بالاغتيالات السياسية من قبل التيار القومي، وتحديداً حزب البعث لفرض إرادته، واتباع نهج الاقصاء للحركات السياسية الأخرى بذريعة الوحدة الاندماجية في الشهر الثاني من عمر الثورة، أي في شهر آب. فقد تم اغتيال مسؤول منظمة الحزب الشيوعي في تكريت الحاج سعدون آل ناصر التكريتي على يد صدام حسين، واغتيال العامل عزيز سوادي في

 

 

 

صوب الكرخ. علماً أن حزب البعث كان مشاركاً في السلطة بشخص زعيمه فؤاد الركابي، الذي اغتيل هو الآخر في عام 1971 على يد قيادة البعث أيضاً. كما تمتع حزب البعث بإصدار صحيفة الجمهورية في الوقت الذي لم يسمح للحزب الشيوعي بإصدار جريدته "اتحاد الشعب" إلاّ في الأول من كانون الثاني عام 1959. ولم يتول الحزب الشيوعي العراقي أي منصب في الوزارة الأولى للحكم الجمهوري رغم  دوره في انتصار الثورة، إلاّ في شهر أيار من السنة الثانية عندما تم استيزار الدكتورة نزيهة الدليمي  لبضعة أشهر ثم تم اقالتها من قبل عبد الكريم قاسم بعد أن ناصب العداء للحزب الشيوعي العراقي مقابل إعلان سياسة "عفا الله عن ما سلف" تجاه القوى القومية المتطرفة التي لم تنفك عن محاولت إسقاطه، وزج بالشيوعيين والديمقراطيين في السجون من جديد حيث تجاوزعدد السجناء من هذا التيار عشية انقلاب 8 شباط 1963، في حين لم يتجاوز عدد السجناء البعثيين والقوميين بضع مئات. لقد رفض حزب البعث بعد الثورة أية مساعي لعودة النشاط والالتزام بقواعد العمل المشترك لجبهة الاتحاد الوطني، ورفض بإصرار دعوة الحزب الديمقراطي الكردي الموحد بالالتحاق بجبهة الاتحاد الوطني حتى قبل الثورة. وراح يخطط بشكل محموم مع ضباط قوميين للانقلابات المتوالية، ولم يتوقف هذا النشاط التآمري، كما يشير غسان ننفسه إليها في مذكراته حين يقول: ".. أن وضع الشارع كان متأزماً واشاعات الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم وحلفائه الشيوعيين تتزايد يوماً بعد يوم، ويبدو أن الحزب الشيوعي كان يستبق الأحداث بالهجوم على أعدائه...".

بالطبع لم تكن محاولات الإطاحة بالنظام وملاحقة الشيوعيين مجرد إشاعات، كما يشير غسان في روايته، بل عمل منسق منظم لقوى داخلية من التيار القومي المتطرف وفلول العهد الملكي والمتضررين من ثورة تموز وبدعم صريح وعلى رؤوس الأشهاد من قبل أطراف خارجية للاطاحة بـ"الحصان الجامح وإعادته إلى الأصطبل"، كما كان يردد ذلك جون فوستر دلاس وزير الخارجية الأمريكية آنذاك وشقيقه آلن دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية (CIA). وكان لهذا السلوك انعكاسات وتبعات واندفاعات في الشارع العراقي الذي كان بغالبيته يؤيد الحكم الذي أفرزته ثورة تموز. وجرت عدة محاولات إنقلابية الأولى بقيادة عبد السلام عارف في أيلول عام 1958، والثانية في تشرين الأول بعد اعتقال عارف وبقيادة رفعت الحاج سري، والثالثة قادها أحمد حسن البكر، والرابعة بقيادة رشيد عالي الكيلاني في التاسع من كانون الأول عام 1958، وتلاها محاولة انقلاب عبد الوهاب الشواف في 7 آذار عام 1959. 

أما النزعة الخطيرة الثانية التي أرست تقليداً سلبياً خطراً في السياسة العراقية، فهي توجه حزب البعث صوب الاستعانة بالقوى الاقليمية والدولية والارتهان لإرادتها وأجنداتها، وهي قوى كانت تكن العداء الصريح للشعب العراقي. وأصبح ذلك تقليداً ثابتاً لدى غالبية الأحزاب العراقية خاصة في الوقت الراهن، فمنهم من يلتجأ إلى أردوغان وآخر إلى ملك السعودية وأمير قطر وآخرين إلى حكام إيران وو...، من أجل تأمين مصالح ذاتية والحصول على الغنائم، وليس لتوفير الفرص لإعلاء شأن العراق وبنائه وانتشاله من المأزق الخطير الذي يحيط بخناقه. وهذا ما حول هذه الأحزاب ، ومنهم حزب البعث إلى رهينة لإرادات ومصالح خارجية. ولا يستطيع أي مراقب حيادي أن يتجاهل المذكرات والبحوث والوثائق والممارسات العملية والدعم بالمال والسلاح لجميع التيارات القومية العراقية المتطرفة من الدول الاقليمية والخارجية من أجل الاطاحة بالحكم الوطني. كما ليس بخاف على أحد حجم التدخل الفض للعربية المتحدة في الشأن العراقي ونصبها لمحطات البث الاذاعي على الحدود السورية في أثناء عصيان الشواف، أو اعترافات علي صالح السعدي الذي أشار إلى "أننا جئنا بقطار أمريكي". كل هذه المحاولات جرت في ظل جو هستيري معاد وأكاذيب وفبركة الاشاعات بالأساس ضد الحزب الشيوعي العراقي وتوجيه ما أنزل من الاتهامات ضده. ففي مذكراته، يشير حسن العلوي، الكادر البعثي، إلى أن أعضاء البعث كانوا هم الذين يحرقون القرآن في حين يوجهون الاتهام للشيوعيين من أجل إثارة الرأي العام ضدهم، أو ما ورد في مذكرات هاني الفكيكي القطب البعثي الآخر، وكتاب "المنحرفون" الذي صدر بعد انهيار حكم البعث في السنة نفسها والذي كشف حجم الأهوال التي تعرض لها الشعب العراقي، وخاصة المرأة العراقية، على يد حكم البعث، ولا مذكرات أحد الفلسطينيين اللاجئ حالياً في السويد والذي كان شاهداً على المشاهد المروعة في "مسلخ قصر النهاية"، ووصف عملية قلع عينا الشهيد سلام عادل سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وتقطيع أوصاله على يد الجلادين. هذه المشاهد الوحشية التي استمعت إلى نتف منها من شقيقتي المرحومة وديعة حبه نزيلة قصر النهاية في انقلاب شباط الأسود ومن شقيقي الدكتور جراح

 

 

كتاب المنحرفون الذي صدر بعد انهيار حكم البعث في خريف عام 1963

 

القلب فيصل حبه الذي شهد هو الفجائع وتعرض للمرارات في مختلف المعتقلات التي جابها، إلى جانب عدد آخر من بنات وأبناء آل حبه وأقرباء لهم.

كما يضاف إلى ذلك الرواية والمذكرات التي نشرتها السيدة ابتسام الرومي وتوفيق الناشئ، والتي تحكي عن قصة سفرهما المرير بين قصر النهاية والمعتقلات الأخرى، فأشارت الرومي إلى " أسماء الجلاوزة الذين ساهموا بتعذيب المعتقلين في قصر النهاية وكان على رأسهم كل من مدحت ابراهيم جمعة وعبد الكريم الشيخلي( اغتيل هو الآخر على يد البعث في السبعينيات) ومحسن الشيخ راضي وخليل العاني ومنعم عبد القدوس وحازم جواد وبهاء شبيب وهاشم قدوري وابو طالب عبد المطلب الهاشمي وخالد علي الصالح وكريم شنتاف واياد سعيد ثابت وحميد خلخال ونجاد الصافي وصباح المدني وعبدالله السامرائي وحسن العامري وايوب وهبي وتحسين معلة وسالم منصور وآخرون".

لقد تناولت الدراسات الكثيرة والبحوث المتعددة التي مازالت تصدر في الخارج وفي العراق بعد سقوط النظام، دور المخابرات الامريكية وتحالفها مع حزب البعث في الاطاحة بالحكم الوطني في العراق، وكان آخرها مؤلفاً باللغة الانجليزية وترجم إلى العربية تحت عنوان :"التدخل السري للولايات المتحدة في العراق خلال الفترة 1958-1963، جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم من الولايات المتحدة، وهي أطروحة قدمت إلى كلية الجامعة البوليتكنيكية في ولاية كاليفورنيا، بومونا، للحصول على درجة الماجستير في التاريخ في عام 2006 - قسم التاريخ ومن تأليف ويليام زيمان الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية" (US Covert Intervention in Iraq). ويضاف إلى ذلك الكتاب الموثق الذي أصدرته السيدة ماريون فاروق سلوگليت أرملة شهيد انقلاب 8 شباط الرئيس عمر فاروق، والذي صدر في بريطانيا بمصاحبة زوجها بيتر سلوگليت تحت عنوان:" Iraq Since 1958: From Revolution to Dictatorship by Marion Farouk-Sluglett  , Peter Sluglett". ولدى غسان الكثير من الفرص وهو يستقر في الولايات المتحدة للاطلاع على المزيد من هذه البحوث كي يقترب من واقع الأحداث المريرة التي عصفت بالبلاد، وأن لا يكتفي بسرد ما حدث له من مرارة شخصية. إن التدخل في الشؤون الداخلية الأخرى واسقاط الحكومات الوطنية هو تقليد وتكرار لما حدث في إيران عند الاطاحة بالزعيم الوطني الدكتور محمد مصدق في ايران في عام 1953، وهو يمثل سلسلة من نشاط المخابرات الأمريكية في غواتيملا ولاحقاً في اندنوسيا وأخيراً في تشيلي عندما جرى الإطاحة بحكم الدكتور آلندي في خلال الحرب الباردة المشينة. فالقضية أبعد ما تكون عن حصرها بممارسات شاذة تعرض لها غسان وزملائه.

كان من الضروري في المقالة أو المذكرات، أن يورد غسان أسباب معارضة التيار القومي للحكم الوطني، رغم عيوبه وطابع الحكم الفردي، كي يستفيد القارئ الكريم من حقيقة ما حدث وأسبابه. لقد قام هذا الحكم الوطني بانجازات كبيرة كان يمكن في حالة استمرارها وتعاون القوى السياسية بما فيها القومية أن يجري تعميق هذه المنجزات والحد من الميول الفردية للحكم. وبذلك تتوفر كل الضمانات كي يتحوّل العراق إلى بلد مثالي في مجال التنمية والأعمار وحتى في البناء السياسي، وليس هذا الخراب الشنيع الذي شهدناه خلال العقود السوداء. فليس من السهولة بمكان أن نفهم سبب توجه حزب البعث لاسقاط حكم سن قانون الأحوال الشخصية الذي شُرع من أجل رفع الظلم والحيف ضد المرأة العراقية، وهو الحزب الذي كان يدعي العلمانية ويرفع شعار "الحرية والوحدة والاشتراكية"، وهي كلمات لم نر أي معنى وتطبيق لها في مسيرة هذا الحزب، ولا سبب موقف حزب البعث ضد حكم شرّع قانون الاصلاح الزراعي الذي أنقذ الفلاحين من جور الاقطاعيين، أو إعلانه الخروج العراق من حلف بغداد. ولا السبب وراء اعلان حزب البعث اسقاط حكم وطني سن الدستور المؤقت الذي نص لأول مرة في تاريخ الدولة العراقية الحديثة على شراكة العرب والأكراد في البلاد، أو الخروج من دائرة الاسترليني والتدابير التي اتخذها الحكم في ميدان تحرير الثروة النفطية من سيطرة الاحتكارات الأجنبية وإصداره قانون 80 وتأسيس شركة النفط الوطنية، أو مبادرة هذا الحكم لتأسيس جيش التحرير الفلسطيني أو تقديم الاسلحة البريطانية التي كان يحتفظ بها الجيش العراقي إلى الثورة الجزائرية بعد أن قام الحكم بعقد صفقات الاسلحة مع الاتحاد السوفياتي. كما لا نفهم سبب مبادرة حزب البعث لاسقاط حكم شرع بخطة طموحة لتصنيع العراق من خلال بناء العشرات من المؤسسات الانتاجية والاتفاق من المؤسسات السوفياتية والجيكية والبولونية على المسح الجيولوجي والتنقيب عن الكبريت والفوسفات والثروات الطبيعية الأخرى في العراق التي كان يحجم العهد الملكي عن القيام بذلك، بحيث طال البناء حتى محافظة الأنبار التي كانت مهملة من قبل الأنظمة السابقة شأنها في ذلك شأن المحافظات الأخرى. ولا يمكن أن نفهم سر مخالفة البعث للحكم الوطني في تدابيره لتوسيع التعليم والتوسع في أرسال البعثات إلى الدول الأجنبية، وكان كل طلبة الصف المنتهي لدورتنا قد تمتع بهذا الحق وأكملوا دراساتهم العليا ومن ضمنهم غسان رسام والزملاء الآخرين، باستثناء هايك سامي الذي فبركت ضده تهمة المشاركة في نزاعات الأعظمية وحكم عليه بالسجن، وأنا. كما لا نفهم رفض حزب البعث لكل القوانين والمراسيم الاصلاحية التي تسعى إلى تحديث الدولة العراقية ونقلها من الحالة الطائفية التي كانت سائدة خلال جميع مراحل الحكم الملكي، إلى إرساء حالة الهوية الوطنية العراقية. ما هو السبب؟؟ عسى أن ينورنا غسان بالاسباب عن سر هذا العداء لهذا الحكم؟؟؟، والذي كان السبب الأساس في الموقف السلبي لوسط واسع من الرأي العام العراقي ضد حزب البعث آنذاك. هل هو الانصياع لأجندات خارجية أو إرادات القوى الرجعية في الداخل أم ماذا؟. وربما يكمن السر أيضاً في التحول التدريجي لحزب البعث من حزب علماني قبل الثورة إلى حزب طائفي وعشائري تنخره التناقضات والتصفيات الجسدية، ما لبث أن أعلن الحملة الايمانية وفرض الحجاب على النساء في الثمانينيات وإعلان مؤسس الحزب ميشيل عفلق اعتناقه الاسلام نفاقاً، وتصدر الحزب والدولة العناصر الأكثر تخلفاً ورجعية وبلطجية وعائلية من أمثال صدام حسين وعلي حسن المجيد وحسين كامل وقصي صدام حسين وطه رمضان وفاضل البراك وبقية الشلة العائلية أو التابعين لها. وحصل أخيراً أن تحول هذا الحزب إلى النزعة الصوفية "النقشبندية" بزعامة عزة الدوري، وتعامله مع داعش وأصبح دليلاً لهذه المنظمة الإرهابية في نحر العراقيين على اختلاف مشاربهم في الصفحة السوداء الأخيرة. هل هذه محظ مصادفة أم ماذا؟.

إن حزب البعث الذي استلم السلطة بعد انقلاب شباط عام 1963 بنهجه الاقصائي والتعسفي والانقلابي، ما لبث أن انقلب على كل شركائه في هذا الانقلاب من حركة القوميين العرب، الذي قام أحد أقطابه السيد نايف حواتمة بالقدوم إلى بغداد قبل الانقلاب من أجل تدريب القوميين والبعثيين على حرب الشوارع كجزء من التحضير للانقلاب واعتقل على أثرها، كما تحدث لي هو شخصياً في دمشق في منتصف الثمانينيات. ثم ما لبث أن اندلع الصراع في صفوف حزب البعث نفسه، وتحول الحوار "الرفاقي" بينهم إلى قصف بالطيران الحربي والمواجهات العسكرية بين المتصارعين على الغنائم في قيادة هذا الحزب، مما أدى إلى انهيار حكم الحزب على يد حليف له هو عبد السلام  عارف بعد بضعة أشهر. هذه التطورات الدرامية  تقدم لنا صورة عن طبيعة وهشاشة وحقيقة سلوك ونوايا هذا الحزب، فكيف يستطيع مثل هذا الحزب إدارة دولة مستقرة ينعم شعبها بـ"الوحدة والحرية والاشتراكية" التي ينادي بها هذه الحزب الملتبس.

وربما من المفيد من أجل استكمال هذه الصورة، أن نستعرض ما "انجزه" حزب البعث بعد انقلاب شباط المدان الذي سموه بـ "عروس الثورات" من اجراءات وممارسات رجعية بعد انقلاب شباط عام 1963 لترضية المراجع الدينية الرجعية المتطرفة على اختلاف مشاربها التي أصدرت فتاويها بإراقة دم الشيوعيين، وشيوخ العشائر ومسعاه لإعادة عبودية الفلاحين و...، كي نحكم على مجمل سلوك الحزب خاصة بعد ثورة تموز ولحد الآن. فغسان لم يشر ولو بكلمة واحدة إلى أي وجه أو أية ممارسة سلبية لحكم البعث ومسؤوليته رغم كونه كان من المشاركين في نشاط الحزب والعارفين عن قرب بمجمل سياسته وسلوكياته، بل يلقى اللوم كله على الشيوعيين واتحاد الطلبة لمجرد تعرض أنفه لبعض الخدوش والاعتقال القصير، بالرغم من أنه عمل ينبغي استنكاره. كما أنه لم ير التحول الخطير الذي طرأ على حزب البعث بعد ثورة تموز عندما فتح أبواب الحزب لكل فلول العهد الملكي والفئات العشائرية والمتخلفة التي لعبت دوراً في دفعه إلى المنحدر الخطير، هذه القوى التي هيمنت لاحقاً على الحزب ودفعته إلى الدهاليز المظلمة والسياسات المغامرة التي تورط فيها خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة. وأذكر هنا مثالين، أحدهما يتعلق بأبن خالي المرحوم مؤيد الصفار الذي لم يلتحق بحزب البعث إلا بعد أن تم فصل خالي من منصب القنصل العام في بيروت وعارض من حيث المبدأ التحول الذي جرى في العراق في تموز عام 1958. كما أشير إلى عادل عبد المهدي، نجل الاقطاعي المعروف عبد المهدي المنتفجي عضو مجلس الاعيان العراقي، الذي ناصب هذا التحول العداء خاصة بعد الاجراءات التي اتخذها الحكم الجديد في ميدان اصلاح العلاقات الزراعية، وانضم إلى حزب البعث ثم تحول إلى التيار اليساري المتطرف.

كما لم يشر غسان في مذكراته حول حادث كلية العلوم إلى ما حدث في الأعظمية في الفترة نفسها من مآسي عندما شُرع بتهجير جميع العوائل التي لا تساير نهج التطرف القومي وشعاراته، ولعب في ذلك حزب البعث بدرجة رئيسية، حيث شُردت الكثير من العوائل العريقة التي تسكن في الأعظمية و حُرقت بيوت البعض منهم، كما حدث بالنسبة إلى حرق بيت الشخصية الوطنية المرحوم عبد الرحمن البراك ( جرت تصفية ابنته شذى البرك على يد البعث في بدايةالثمانينيات) وتشريد عائلته، وتهجير عائلة الدكتور زياد الأعظمي، كما تم اغتيال فهر نعمان الأعظمي وحرق بيتهم واغتيال المربي ممدوح الآلوسي في ساحة عنتر...الخ. وتحولت الأعظمية إلى "غيتو" من لون واحد، كي يجري التحكم بمشاعر المواطن وسلوكه وحرمانه من التفاعل مع الحراك الفكري والسياسي في عموم المجتمع. وجرى الأمر نفسه في حي المشاهدة والتكارته في بغداد وفي مدن كالفلوجة والرمادي، ولاحقاً في مدينة الموصل، حيث يورد غسان في مذكراته :".... بل ان احدهم، حازم جرجيس، وهو،وَيَا للمفارقة الماساوية، لم يعير السياسة اهتماما وكان المعيل الوحيد لوالدته الأرملة وأخواته فركز جل اهتمامه على عمله في مديرية الأمراض المتوطنة في الموصل، قد اغتيل هناك بعد سنة من محاولة الشواف الانقلابية، على يد عصابات الاخوان المسلمين". وفي الحقيقة والواقع أن الفرق المسلحة البعثية هي التي قامت بجميع حملات الاغتيال في الموصل، وليس الأخوان المسلمين كما يسعى غسان إلى التخفيف من وزر ودور حزب البعث في ذلك، والتي قاربت 600 ضحية من أهالي الموصل غالبيتها من المواطنين المسحيين وتهجير نسبة كبيرة من أهالي الموصل، واضطرار بعضهم إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة. وهذا يذكرنا بالنهج نفسه وبما حدث في هذه المدن في عام 2014 عندما اكتسح الدواعش هذه المدن بترحيب من فلول حزب البعث وربما بتخطيط وترحيب منها. هذه الممارسة الشنيعة لم تحدث في أي حي أو في أية مدينة كان للشيوعيين والقوى الديمقراطية رصيداً كبيراً بين أهاليها، ولم تتحول تلك المناطق إلى "غيتوات" يحتكرها الشيوعيون والديمقراطيون، وكمثال على ذلك حي العرصات في الكرادة – بغداد التي سكنها غسان رسام مع عائلته والتي لم تتعرض إلى هذا النمط من الاقصاء والتهجير وحرق البيوت على غرار ما حدث في احياء الأعظمية وغيرها أو في مدن مماثلة. وعلى الرغم من محاولة البعثيين نشر هذا النمط من "الغيتوات" في الكرادة، حاولوا أشعال النار في بعض السيارات العائدة إلى بعض الشيوعيين، ومنها أشعال النار في سيارة صديقنا فاروق عبد المجيد رضاعة عضو سكرتارية اتحاد الطلبة أمام بيتنا، إلاّ أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل لإنعدام الحواضن في تلك المحلات. فإلا تستحق هذه القضية المأسوية التوقف عندها كي يرسم غسان صورة متكاملة عن أسباب الاحتقان وتداعياته والتي لعبت دوراً في لجوء بعض الشيوعيين إلى وسائل غير مبررة كتلك التي تعرض لها غسان عندما أصايب أنفه بجرح بليغ؟؟.

 في حادثة كلية العلوم جامعة  بغداد في ربيع عام 1959، جرى اعتقال بعض الزملاء ومن بينهم غسان رسام وسهل السنوي وسامي شريف و...بتهمة توزيع منشورات معادية للحكم وما رافقها من اشتباك.علماً أن مثل هذا الحادث لم يجر في أية مؤسسة تعليمية في بغداد في ذلك الوقت التزاماً بتأكيدات من قيادة الحزب الشيوعي العراقي بخطأ القيام بدور السلطات الأمنية والقضائية أو ممارسة الانتهاكات. وكنت آنذاك أتولى مسؤولية التنظيمالشيوعي  الطلابي في جامعة بغداد والثانويات البغدادية. وقد رفع الحزب آنذاك شعار "عدم الانجرار الى الاستفزازات" التي كما يعلم غسان، كان يتعرض لها الشيوعيون والديمقراطيون من استفزات و "تصجيم" حتى في قاعة الدراسة والمختبر الذي كنا نتشارك بهما. ولم يكن هذا الشعار مورد قبول بعض أعضاء الحزب. ويمكن الرجوع إلى عدد من المقالات حول ذلك والتي كتبت من قبل بعض أعضاء الحزب الذين اعتبروا أن هذا الشعار هو الذي مهّد إلى ردة شباط عام 1963. فالحادث الوحيد لردود الفعل هو ما جرى في كلية العلوم التي تشير إليها الذكريات، علماً إنني أثناء الحادث لم أكن في الكلية في تلك الساعة (في الفرصة بين الساعة الثانية عشر والثانية بعد الظهر) بل كنت في الكلية الطبية، ولهذا لم أقم بدور المحقق مع غسان رسام كما ورد في مقالته، ودون أن يتعرض الزملاء الآخرون إلى مثل هذا التحقيق من قبل عادل حبه!!!. علماً أن عادل حبه لم يكن من خريجي كلية الشرطة كي يتمتع بالمهارة والكفاءة بهذه المهنة كما ورد في مذكرات غسان. ثم ما هو جدوى التحقيق وبأي حق وبأية صفة، خاصة بعد أن أطلق سراح غسان من قبل الأجهزة العسكرية التي اعتقلته، وهي مديرية الخطط العسكرية في وزارة الدفاع التي كان يرأسها الشهيد الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أزهقت روحه في 8 شباط عام 1963، ودون أن يتعرض غسان للتعذيب أو لأي تصرف عنفي ينتهك حقوق الإنسان أثناء تحقيق الأجهزة الأمنية معه كما يؤكد، بل أكتفى المعتقل بتزويده بأمتع الأكلات من مطعم "تاجران" كما يروي غسان. ولم أفهم إشارة غسان إلى المقارنة بين معتقل الخيالة وبين قصر النهاية والوجبات فيهما؟؟، فقصر النهاية في العهد الجمهوري لم يتحول إلى " مسلخ" لتقطيع الأوصال ودفن الضحايا وهم أحياء إلاّ بعد انقلاب شباط عام 1963.

وما أن وصلت إلى كلية العلوم في الأعظمية، وما أن عرفت باسباب هذه المواجهة التي جرت بذريعة توزيع منشورات معادية للحكم من قبل البعث، توجهت إلى مكتب الطيب الذكر العميد الدكتور صلاح عزت تحسين، وقام الدكتور بالاتصال بدائرة الخطط العسكرية في وزارة الدفاع التي كانت المسؤولة عن الاعتقال، وجاء الشهيد الرئيس عمر فاروق الذي جرت تصفيته في انقلاب شباط 1963، وطلب منه اطلاق سراح المعتقلين في مركز شرطة الفاروق الذي يقع على مشارف ساحة عنتر ومقابل مدرسة التحرير للبنات. وبالفعل توجهت مع الشهيد إلى مركز الشرطة ورأيت الزملاء ومنهم (.......) وعلى وجهه بعض الخدوش، وجرى اطلاق سراحهم وتوجه الزميل سهل السنوي الذي كان معتقلاً أيضاً صوب سيارته المركونة أمام كلية العلوم، ونقل جميع الزملاء الآخرين إلى محل سكناهم. الحادث كان فردياً، ولم يشارك من  الطرفين إلاَ نفر قليل لا يتجاوزعدد أصابع اليد، في الوقت الذي بلغ عدد طلاب كلية العلوم بكل فروعها قرابة 180 طالب آنذاك. مما يعني أن ليس هناك توجيه بالانخراط بمثل هذه الأفعال المضرة بمكانة الحرم الجامعي. وانتهى الحادث كلياً وعاد الزملاء إلى معاودة تلقي دروسهم في الصف الثالث من فرع الجيولوجيا، وكنت أحد أولئك الطلبة كما تعلم. وليس لدي أي علم بنقل هؤلاء الطلبة إلى معسكر الخيالة، فلم يتحول هذا المعسكر إلى معتقل إلاّ بعد انقلاب شباط، حيث تحولت مؤسسات مدنية رياضية وعسكرية إلى سجون ضمت الآلاف من المعتقلين المعارضين للانقلاب، ومنها قصر النهاية سيء الصيت وملعب الإدارة المحلية في المنصور والنادي الأولمبي في ساحة عنتر في الأعظمية ومعسكر الخيالة وراء السدة والسجن العسكري رقم واحد في معسكر الرشيد الذي كان مخصصاً في السابق للسجناء العسكريين ولكنه تحول بعد شباط 1963، إلى سجن رهيب ضم مدنيين بارزين من أركان الدولة إلى جانب كبار ضباط الجيش العراقي. لربما يتحدث الزميل غسان عن حادث آخر جرى في وقت لاحق وليس لدي أي علم به. ومع انتهاء هذا الحادث استمر الزملاء في تلقي دروسهم، وأنهينا جميعاً الصف الرابع المنتهي، وقد حُرمت أنا من تلقي الدروس بالللغة الألمانية الاختياري الذي  كان يجري بعد الانتهاء من الحصص المختبرية في الفترة بين الساعة الخامسة الى السادسة كما هو معلوم، وذلك بعد حملات الاغتيالات التي طالت أهالي الأعظمية من الديمقراطيين.

 هناك إشارة في المذكرات إلى "بعبع الخاكي" وغمز ولمز لنشاط اتحاد الطلبة أو المقاومة الشعبية،واللون الأحمر لراية الشيوعية العالمية، وما هو إلاّ غلو روائي وإدعاء يتعارضان مع واقع الحال. فأنني على سبيل المثال، لم  أر أي طالب يرتدي الخاكي في أثناء الدوام، وكما أنك لم تراني أرتدي الخاكي عند  الحضور في قاعة المحاضرات أو في المختبر، سوى في الفترة التي كان يأتي إلى الكلية، ولفترة قصيرة، موفد ومدرب عسكري من وزارة الدفاع في البداية لتديب الطلبة والطالبات على بعض الفنون العسكرية بناء على توجيهات من القيادة العامة للقوات المسلحة في الفترة التي تسبق الحصص الدراسية في فجر كل يوم. وشملت هذه التدريبات جميع البالغين من العراقيين اختيارياً في مرافق أخرى وبدون فرض أو إلزام. فمن المعلوم أن المقاومة الشعبية التي يشير إليها غسان لم تكن لديها ذخيرة ولا السلاح في الكلية. كما جرى تشكيل المقاومة الشعبية بمرسوم صادر من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة وهي تابعة لوزارة الدفاع وتأتمر بأوامره وليس للحزب الشيوعي ولا لاتحاد الطلبة العراقي العام في الجمهورية العراقية، وجرى حل المقاومة أيضاً من قبل القيادة العسكرية نفسها بمرسوم بعد أشهر من تشكيلها، ولم تساهم  المقاومة الشعبية بأي عمل عسكري سوى بعدد محدود في المواجهة مع محاولة انقلاب الشواف في الموصل في آذار عام 1959، بعد توجيه نداء رسمي لها بالمشاركة في العمليات العسكرية من قبل القائد العام للقوات المسلحة عبد الكريم قاسم في صبيحة 8 آذار عام 1959 ( يمكن الرجوع إلى خطاب عبد الكريم قاسم في ذلك اليوم ومحتواه وإصدار اوامره لقمع العصيان). ولذا فالمقاومة الشعبية ليست مؤسسة تابعة للحزب الشيوعي وتأتمر بأوامره أو قام بتأسيسه، وإلاّ كان سيعارض الحزب حل المقاومة الشعبية. وهناك وصف للحادث من قبل غسان وكأن عملية عسكرية قد جرت بحيث يجري احتلال كلية العلوم من قبل المقاومة الشعبية والمبالغة والتلويح "بالسحل"، وهو مجرد حادث يقع بين أطراف متنازعة سياسية غير مسلحة في شوارع أكثر البلدان عراقة في الديمقراطية، تجري بين يوم وآخر في برلمانات دول ديمقراطية كالبرلمان الايطالي والتركي والأوكرايني والكوري الجنوبي وأخيراً العراقي، حيث يلجأ نواب الشعب إلى التراشق وتبادل البوكسات ورمي الأحذية خلال انخراطهم في النقاشات. والأمر في حادث كلية العلوم هو ليس بتدبير مسبق من "بعبع " المقاومة الشعبية ولا اتحادالطلبة ولا الحزب الشيوعي الذي لم يأمر ولم يجر "سحل" أحد من حزب البعث ولا غيره، وليس له مصلحة في إذكاء المناوشات بقدر ما كان للطرف الآخر هذه المصلحة في إذكاء هذه المناوشات كي يمرروا مخططاتهم الانقلابية كما يتبين في ثنايا السطور التي يرسمها غسان.

 

 

حفلة تعارف كلية العلوم في بداية عام 1957، في الوسط عادل حبه وهو يغني اغنية  تضامنية مع الشعب المصري اثر العدوان الثاثي على مصر في خريف عام 1956

 

إن الصورة التي يرسمها غسان في روايته عن اتحاد الطلبة في الجمهورية العراقية هي مجرد تشويه لفعاليات الاتحاد ونشاطاته آنذاك وكأنه قوة بوليسية. فهذا الاتحاد تأسس منذ عام 1948، وعقد أول مؤتمر له في ساحة السباع في شارع الشيخ عمر، وساهم بنشاط في إلغاء معاهدة بورتسموث الجائرة التي عقدها رئيس الوزراء العراقي صالح جبر وتعرض أعضائه للسجون والمنافي، علاوة على مساهماته الدائبة في الدفاع عن حقوق الطلبة المهنية والديمقراطية. وقد أسهم اتحاد الطلبة قبل الثورة في النشاط المهني والديمقراطي والوطني والقومي، فعلى سبيل المثال شارك الاتحاد في المظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي في 16 آب عام 1956 استنكاراً لخطف قادة جبهة التحرير الجزائرية في الأجواء التونسية من قبل الطيران الحربي الفرنسي، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين وكان عادل حبه أحدهم. كما بادر في حفلة التعارف التقليدية التي نظمها الطلبة في عام 1956 إلى إدراج فقرة غتائية للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، وقدمت فرقة الاتحاد، وكان سرياً، وصلة غنائية تضامنية كان "السوليست" فيها عادل حبه.

 

وثيقة الشعبة الخاصة حول اعتقال المتظاهرين في 16/8/1956 بتهمة التضامن مع الشعب الجزائري ومنهم عادل حبه في أسفل القائمة بأسم عادل محمد، وعٌثر على الملف بعد سقوط النظام في 2003

كما أن الاتحاد خاض انتخابات الطلبة العلنية في عام 1958 وحصل على نسبة 75% من الأصوات في ظل مقاطعة البعث والقوميين للانتخابات. وقامت اللجنة الاتحادية بإقامة النشاطات المختلفة المهنية والثقافية والرياضية والمشاركة في المناسبات الوطنية والقومية. فقد تولى الفقيدالدكتور طارق الشواف مسؤولية اللجنة الثقافية حيث بادر وبمعداته الشخصية بإقامة حفلات أسبوعية للتعريف بالموسيقى الكلاسيكية. فعلى سبيل المثال نظم الاتحاد احتفالاً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني بمناسبة وعد بلفور، ودعي أحد الطلبة الفلسطينيين في فرع الرياضيات وأسمه محمد..،الذي ما أن شرع بالقاء كلمته في مدرج قسم الفيزياء حتى شرع البعض الذي كان يتجمع في بوابة المدرج بالتلويح بالسكاكين مما أدى إلى امتناعه عن إلقاء كلمته وخرج مسرعاً من القاعة. ونظم الاتحاد الكثير من المذكرات لتحسين ظروف الاقسام الداخلية وتنظيم السفرات الترفيهية، والمشاركة في الندوات التي كان ينظمها الراحل الفنان حافظ الدروبي في مرسمه الواقع في الطابق الثاني من مبنى كلية العلوم. هذا إضافة إلى إجراء المسرحيات التي كان يخرجها شقيقي الفنان عبد الله حبه، ومنها مسرحية "ضرر التدخين" للروائي المعروف أنطون تشيخوف.

إن ما جرى من ممارسات سلبية فردية من قبل بعض الشيوعيين، لم يتستر عليها الحزب الشيوعي العراقي، وقد أدانها الحزب في تقرير اللجنة المركزية الصادر في تموز عام 1959. ويكاد الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب العراقي الوحيد الذي يشير وينتقد أخطاءه حيث قام في فترات تاريخية مختلفة بإصدار 5 تقييمات لسياسة الحزب وأخطائه وكان آخرها

 

 

فريقا كلية الاداب وكلية العلوم، وفي الوسط عادل حبه

 

التقييم المتعلق بتحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث في الفترة بين أعوام 1973-1979. إن مثل هذا النقد الذاتي لم يقدم عليه أي حزب من الأحزاب العراقية التي مارس بعضها القتل الجماعي والأسلحة الكيمياوية ضد العراقيين. إنني كنت أتوقع من غسان، وهو الأكاديمي والممارس المهني، أن ينظر بتجرد إلى مسلسل الأحداث المريرة التي عصفت بالعراق وتعصف به إلى الآن، وأن يتمسك بالحقائق والوقائع الموثقة والمستندة إلى وثائق لا أن يدفعه الانتماء الفكري والحزبي السابق أو الضرر الشخصي الذي لحق به إلى الابتعاد عن المنهجية الأكاديمية وتعميم السلبيات جزافاً، في ظرف نحن بحاجة إلى نقل الحقيقة وبشفافية عالية إلى المجتمع العراقي الذي يعاني من قلب الحقائق وتزويرها. والأمر يتعلق هنا بممارسة القتل الجماعي من قبل البعث في انقلابه الأول عام 1963 حيث تم تقطيع الأوصال ودفن الضحايا وهم أحياء كما حصل للصحفي اللامع عدنان البراك والدكتور فيصل الحجاج والدكتور صاحب المرزا والدكتور محمد الوردي  والآلاف من الضحايا الذين لم يترك لهم أي قبر للرقود فيه، والذين لم يجر الكشف عن مثواهم الأخير حتى الآن رغم المناشدات الإنسانية لأولياء الضحايا لتعريفهم بقبور هؤلاء الضحايا، وكان آخرها الرسالة التي بعث بها نجل الشهيد الزعيم الركن قائد القوة الجوية العراقية جلال الأوقاتي، جعفر جلال الأوقاتي إلى أياد علاوي لتقديم العون للكشف عن مثوى وقبر والده. كما لم يحرك وجدان أحد، ولا مذكرات غسان، اعتقال واهانة عالم العراق الأول عبد الجبار عبدالله وتحميله قاذورات السجن وبرازه وأوساخه، واعتقال الكثير من رجالات العراق من أمثال الدكتور ابراهيم كبه والشخصية الديمقراطية محمد حديد والفنان يوسف العاني والخبير الاقتصادي الدكتور حافظ التكمجي والمئات من الأدباء والفنانين والخبراء ومن ذوي الاختصاصات الذين خسرهم العراق بعد أن فارقول الحياة في زنزانات البعث أواضطروا إلى مغادرة بلدهم.

في الحقيقة، ياغسان، كنت أتمنى أن يبادر العقلاء من البعثيين، أن يتخلوا عن حمل وزر الجرائم التي أرتكبت في ظل حكم البعث الذي دام أربعة قرون، من تصفيات جسدية لما يزيد على الآلاف من ضحايا 8 شباط 1963( 1 من كل 8 بالغين اعتقلوا في العراق)، واعتقال المئات من النساء العراقيات والاعتداء على أعراضهن في تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق في ممارسة قلما تحدث في التاريخ العالمي سوى ما ارتكبه هتلر في نزواته الاجرامية، وازهاق أرواح المعارضين بـ"سم الفار" في أقبية قصر النهاية ودوائر المخابرات البعثية وقصف المدن والمعارضين بالاسلحة الكيمياوية "مجزرة حلبجة" ومقرات المعارضة المسلحة في اقليم كردستان، وجريمة الأنفال ( ضحيتها 180 ألف مواطن كردي) والقتل الجماعي في لنتفاضة أذار عام 1990 (75 ألف مواطن)، ومسؤولية النظام البعثي في أزهاق أرواح مئات الآلاف من الجنود والضباط العراقيين في مغامرة غزو أيران والكويت، ومسؤوليته التغيير الديموغرفي وتهجير المئات من الآلاف من الأكراد الفيلية ومن كان يتهمهم النظام بالتبعية، والمئات من الضحايا من عقلاء الحزب وعلى رأسهم المغدور عبد الخالق السامرائي وعدنان الحمداني في مجزرة  قاعة الخلد في بغداد ووو و...غيره من الأحمال الثقيلة والأوزار التي تحيط بعنق حزب البعث. نعم كنت أتمنى ولا زال الوقت غير متأخر في أن بعتذر العقلاء، مجرد اتذار وليس توجيه الاتهام للمحاكمة أو العقاب، نعم يعتذر هؤلاء العقلاء للشعب العراقي ويتنصلوا عن تلك الجرائم التي تدخل ضمن جرائم الحرب والمستمرة إلى الآن وبغلاف داعشي، وأن يدلوا بمعلوماتهم عن أماكن دفن هؤلاء الضحايا كي يخقفوا من آلام الفقدان من أعز مالديهم من آباء وأمهات وبنات وأبناء، وسيذكرهم عندئذ التاريخ بالخير وليس بالإدانة التي يرضخ تحت ثقلها حزب البعث. عسى أن يكون ذلك؟

عادل حبه في 14/9/ 2016