مقالات وآراء

.. في حِوارٍ معها.. (الجزء التاسع)// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

 

.. في حِوارٍ معها.. (الجزء التاسع)

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

المألوف والمأمول، تآكل مبتذل للفواصل

أفقتُ بعد قيلولةِ الأمس، لأجد على شاشة جوَّالي، رسالةً نصية من الصديقة المتقاعدة في البعيد المحتل، تقول فيها: لِنُكمل حوارنا يا شيخي، عصرَ غدٍ بعد الصلاة. ساعتَها ، أكون قد أكملتُ مَسرايَ المُتمهل، في أريافِ الجليلِ الأعلى من فلسطين المحتلة. وأكونُ قد وصلت مضاربَ أهلي هناك ،واسترحت في ريف ناصرة الفادي عليه السلام.

 

آب اللهاب، على سواحل جنوب فلسطين حيث أقيم، يَسرجُ قناديلَ حنيني كل صيف، بنسائمِ طبرية والجولان. إعتدتُ كلما فتح أبواب أفرانه، أن أُسابِقَ دواليبَ سيارتي، صعودا إلى مراتع الطفولة في الجليل، أو إلى مرابع الصبا في كرمل حيفا . سأنتظرك غدا، مع الكثير من حنين الوطن.

 

على حوافِّ صبرٍ كاد ينفذ، كنتُ اليوم، أعدُّ دقائقَ الوقتِ المُتباطئ، مُنتظراً سماعَ رنين إتصالها. تَعَجَّلْتُ واتصلتً قبل موعد صلاة العصر بقليل. فَرِحَتْ كثيرا وهي تقول مُمازحةً كعادتها، أنا في إنتظارك يا صديقي.  كل ما يُشجيكَ غيري يترقبك . قهوتك على جمرِ الموقد، تُبَقْبِقُ كما تُحب، وصينيةً قشٍّ ملون، مثقلةٌ بحمولةٍ لذيذةٍ من ثمار فلسطين. تتصدرها كومةٌ من التين الأخضر والموشى تسر الناظرين. تُجاوِرُ تلة من عنبٍ أخضر وأحمر واسود. مزينةٌ بالكثيرِ من أكوازِصبرِ الجبارين. وإبريقٌ فُخاريٌّ، مُترعٌ بماءِ نهر العوجا، لذة للشاربين. كل هذا برفقةِ رائعة الصافي التي تشجيك: على الله تعود يا ضايع في بلاد الله.

 

حَمَدتُ وشَكَرْتُ ما أسمع وما أاتخيل. وقلتُ مُتَلَمِّظاً، لِنستأنفَ حوارَنا يا سيدتي.

 

قالت: نعم هيا، ففي أفلاك واقعٍ مُعاصرٍ بائس، تتقلبُ مُتوالياتُ الخيبات، بين مثالية ماضوية عاجزة، عن تنظيم عالمٍ يلبي بشكلٍ أفضل حاجيات الناس، وأحلامِ يقظةٍ تسعى بالإستنبات المُفتَعَل، إلى إخراجهم من الأنساق الشمولية ألتي تُطَوِّقهم، إلى رحابِ نفعيةٍ فرديةٍ فجةٍ في الحياة، بعيدا عن لغة الحق فيها.

 

قلت مقاطعا: بين هذه المتواليات يا سيدتي،  حوارُ طُرشانٍ أبكمٍ، أصمٍّ وأعمى. أحافيره الإستهلاكية، لا تَنْصَبُّ إلا على التساؤلِ عن وجاهة الماضي وماهيته، وتحقيرِ العرفي وخرقِ حدوده، والتشكيكِ في المقدس ومُتعالِياته الإيمانية، والإعلاء من خصوصيةِ كل منتجٍ سلوكي فردي، مهما بدا هذا المنتج فوضويا غير متجه نحو مستقبل. وذلك في تجارب فردية لا أساس لها ولا عمق، تُميعُ الحدودَ بين الأنساق الجمعية والتجارب الممعنة في الشخصنة.

 

 قالت:  ولكن، بعد أن فشل المتعبون الساعون،  وراء مدنٍ فاضلةٍ لا وجود لها فعليا، صاروا على يقين، أن إحداثَ أي تغير دائم، في استبداد الفوضى وتشعبها في حياتهم الإجتماعية، لن يكون إلا في إعتماد نماذج إشتقاقية إنتقائية، تعتمد التوافق والمزج والمواءمة، بين الأنواع الموجودة مسبقا، والأشكال المختلفة المتنافرة، بدلا من تشكيل أنماط جديدة تماما.

 

قلت: ولكن، دون أن تغفلي ولو للحظة، أن الواقع المعاش، ما زال يعج بأتباعِ  إتجاه آخر يتسم بالتشاؤم. يرى أن الآفاق الماضوية كلها ميتة الآن، وأن جُلَّ ما يستطيع الفرد أن يفعله، هو التلاعب بأشلاء جثثها الموجودة، وإعادة تدويرها بطرق متعددة، غريبة غير منسجمة ،غير متناسقة ومبتذلة في بعض الأحيان. على أنها نوع من التمرد على المألوف، وطريقة لكسر الحواجز بين المطلق، وبين تلك التي تنحو نحو تقديس الجسد في شقه المادي.

 

قالت: في ظل تآكل الفواصل بين القديم والحديث، تتعدد المشاعر والإحتياجات المبتذلة، وتتنافر الخصوصيات المتفلتة. وتتشظى المرجعيات، بعيدا عن صرامة الأطر العقلانية الضابطة، لما نشهد من عنف لفظي ومادي يتسيد الكثير من المشاعر.

 

قلت: هذا هو موضوع حديثنا في النص القادم إن شاء الله.

 

قالت: إذن دع عنك وجعك، وتعال إلي الآن يا شيخي، نسائمُ الجليلِ وإن كان ما زال مُحتَلا وأنا، كفلاء بتضميد جراح روحك.

 

الاردن – 5/8/2017