مقالات وآراء

ثورة إكتوبر والرياضة// ترجمة: قحطان المعموري

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

 

 

ثورة إكتوبر والرياضة

بقلم: كاريث ادواردز

ترجمة: قحطان المعموري

 

في عام 1917 قلبت الثورة الروسية العالم رأساً على عقب، وألهمت الملايين من الناس من خلال رؤيتها لمجتمع مبني على التضامن وتحقيق الحاجات البشرية. في خضّم هذه العملية أطلقت الثورة العنان لكل مجالات الإبداع في الفن والموسيقى والشعر والأدب وكل ما يمس حياة الشعب بما فيها الألعاب الرياضية التي كانوا يمارسونها. ومع ذلك فأن الرياضة في تلك الفترة لم تكن ضمن الأولويات. كان البلاشفة، الذين قادوا الثورة، يواجهون حربا أهلية وجيوش غازية ومجاعة واسعة الانتشار وحتى وباء التيفوس. وعليه فأن البقاء على قيد الحياة، وليس الترفيه، هو ما كان مطلوب يومياً.

 

وعليه ، ربما من السهل وصف البلاشفة بأنهم مناهضون للرياضة. لقد كان العديد من كبار قياديي الحزب، مثل ليون تروتسكي وأنوتولي لوناشارسكي، على مقربة من أولئك الأشخاص الأكثر إنتقاداً للرياضة خلال مناقشات موضوعات الثقافة البدنية التي جرت في بواكيرعام 1920، إن موقف الحزب من الألعاب الأولمبية آنذاك كان عادة ما يعطي الدليل الذي يدعم هذا الإدعاء . لقد قاطع البلاشفة الالعاب الأولمبية على اساس انها "ستحرف العمال عن النضال الطبقي وتدرّبهم على الحروب الامبريالية". ولكن في الواقع فأن مواقف البلاشفة آنذاك تجاه الرياضة كان أكثر تعقيداً.

 

وفي أعقاب الثورة، لم يكن مستغرباً أن تلعب الرياضة دوراً سياسيا لدى البلاشفة. ففي مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية التي كانت تهدف الى القضاء على الطبقة العاملة وثورتها،كان البلاشفة ينظرون الى الرياضة كونها وسيلة يمكن من خلالها تحسين صحة الشعب وسلامتهم. وفي بواكيرعام 1918 أصدرالبلاشفة مرسوماً، بشأن التعليم الإلزامي في الفن العسكري، حيث أعطوا الأولوية  للتدريب البدني على النظام التعليمي.

 

أما وضع المرأة فكان قد تحسّن كثيراً آنذاك من خلال إضفاء الصفة القانونية على الإجهاض والطلاق، لكن يمكن للرياضة أيضاً أن تساعد المراة و جعلها تؤدي دوراً كبيراً من خلال مشاركتها الفعالة في الحياة العامة ، وهذا ما أكده لينين حين قال "ان مهمتنا العاجلة هى جذب المرأة الى الرياضة"، مضيفاً ، "اذا تمكنّا من تحقيق ذلك وجعلناها تستفيد بشكل كامل من الشمس والماء والهواء النقي لتحصين نفسها فاننا سنحقق ثورة كاملة في طريقة الحياة الروسية".

لقد أصبحت الرياضة إحدى الوسائل الهامة  لنقل المثل العليا للثورة إلى الطبقات العاملة في أوروبا. امتدت الحركة الرياضية العمالية في أرجاء القارة واصبح الملايين من العمال أعضاءاً في النوادي الرياضية التي تديرها أساسا منظمات إصلاحية. تأسست الرياضة الحمراء العالمية (RSI) في عام 1921 لغرض التواصل مع هؤلاء العمال. و خلال العقد التالي، اقامت مؤسسة الرياضة العالمية مع (منظمة الرياضة العمالية الاصلاحية العالمية) بعدد من الألعاب الأولمبية العمالية (سبارتكيادس) في مواجهة الألعاب الأولمبية الرسمية.

 

أن المشاركة في الثقافة البدنية الجديدة من شأنها أن تكون نشاطا حياتياً ثابتاً، وهو ما يتيح للشعب  تجربة حرية حركة أجسامهم. لقد كان لينين على قناعة تامة من أن الترفيه وممارسة التمارين الرياضية هما جزءان لاينفصلان من أسس الحياة الجيدة ، ومؤكداً على أن "الشباب يحتاجون بشكل خاص إلى أن يكون لهم روح الحياة وأن تكون معنوياتهم عالية. إن الرياضة الصحية - الجمباز، السباحة، المشي لمسافات طويلة هي ممارسات رياضية بدنية - وينبغي الجمع و بأكبر قدر ممكن بين مجموعة متنوعة من الإهتمامات الفكرية ، الدراسة ، التحليل والتحقيق ...وبين الأجسام الصحية والعقول الصحية!".

 

لكن البلاشفة لم يكونوا مفرطين في تحليلهم لما ينبغي أن تكون عليه الثقافة البدنية. لم يكن للحزب أن يقرر الشكل الأفضل للنظام الرياضي أو أن يرسم الخط الصحيح الذي يمكن للطبقة العاملة متابعته في هذا الخصوص. وبدلا من ذلك، فقد كان أغلبية الناس يناقشون و يحاورون ويجربون ويبتكرون ، ومن خلال هذه العملية، فأنهم يخلقون رياضتهم الخاصة وألعابهم. لا يمكن لأحد أن يتوقع بالضبط ما ستكون عليه طبيعة المجتمع الاشتراكي في المستقبل، ولكن لا يمكن لأحد أن يشك في الحاجة الماسة إلى الرياضة البدنية.

كانت مقاربة البلاشفة تشكل جانباً واحدا في الحوارالواسع حول الثقافة البدنية ، والذي شارك فيه أيضا أخصائيي الصحة ورجال الثقافة البروليتارية. أخصائيو الصحة، كما يوحي الاسم، كانوا عبارة عن مجموعة من الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين عٌرفوا بمعارفهم الطبية والصحية الواسعة. عموماً، فإن الحديث كان منصباً على القلق من تركيز الرياضة على المنافسة، وهذا  من شأنه أن يضع المشاركين في خطر الإصابة الجسدية. كما كانوا على نفس القدر من القلق على انشغال الغرب بالركض الأسرع، والطفر والقفز الأعلى  من أي وقت مضى. وكما قال زيكموند رئيس معهد الصحة البدنية في موسكو، "انه امر غير الضرورى تماما وغير الهام أن يسجل أي شخص رقماً قياسياً عالمياً أوروسياً". وبدلا من ذلك دعا اخصائيو الصحة الى ممارسة الرياضة البدنية غير التنافسية - مثل الجمباز والسباحة – كوسائل من شأنها أن تجعل الناس يعيشون في وضع صحي جيد.

 

لقد كان لأخصائيي الصحة وفي فأوقات معينة تأثيراً كبيراًعلى السياسة السوفيتية المتعلقة بالقفافة البدنية، وبناءاً على مشورتهم ، تم حظر رياضات معينة ، إضافة الى حذف كرة القدم والملاكمة ورفع الاثقال من برنامج وقائع دورة الالعاب عام 1925. ومع ذلك فأن هؤلاء الأخصائيون كانوا بعيدين عن الإجماع  في في إدانتهم للرياضة . كان جيرونيفسكي على سبيل المثال  مدافعاً عن لعبة التنس التي يعتبرها ممارسة بدنية مثالية. أما نيكولاي سيماسكو والذي كان طبيباً ومفوضاً شعبياً للصحة فقد ذهب بعيداً بالقول من إن الرياضة هي " البوابة المفتوحة للثقافة البدنية " التي " تطوّر كل أنواع القوة والإرادة التي يجب أن يتمتع بها الشعب السوفييتي".

وعلى النقيض من الأخصايين الصحيين كانت حركة الثقافة البروليتارية صريحة وواضحة في رفضها للرياضة (البرجوازية) على حد تسميتهم لها. حتى إنهم نددوا بأي شيء يحاول الصدام بالمجتمع القديم، سواء كان ذلك في الفن أو الأدب أو الموسيقى. ورأوا أن الأيديولوجية الرأسمالية تحاول ان تنسج افكارها في الرياضة ايضاً، وادت قدرتها التنافسية الى ان يقف العمال بعضهم ضد البعض الآخر ، وقسمت الشعب حسب الهويات القبلية والقومية.

 

وبدلاً من الرياضة، طرحت حركة الثقاقة البروليتارية (البرولتكلت) أشكالاً جديدةً من الألعاب البروليتارية ، تقوم على مبادئ المشاركة الجماعية والتعاون . وغالباً ما كانت هذه الألعاب بمثابة عروض مسرحية ضخمة تشبه الى حد بعيد الكرنفالات أو المسيرات الرياضية التي نراها اليوم. لقد تم تجنّب المسابقات على أساس أنها تتعارض إيديولوجياً مع المجتمع الاشتراكي الجديد. وقد حلت المشاركة محل المشاهدة ، وكان لكل حدث رسالة سياسية متميزة، وكما يتضح من بعض أسماء هذه الأحداث مثلاً : النجاة من الإمبرياليين، تهريب الأدب الثوري عبر الحدود، ومساعدة البروليتاريين .

ومع صعود الستالينية ، تم وئد آمال الثورة، جنبا إلى جنب مع الآلاف من البلاشفة القدامى . لقد  تم دفن المثل الجماعية لثورة 1917، واستبدلت بالاستغلال والقمع الوحشي. كما تخلت عن النزعة الأممية لصالح "الاشتراكية في بلد واحد". وبما أن قيم المجتمع وضروراته قد تغيرت أيضا، فإن طبيعة الثقافة المادية للبلد قد تغيرت أيضا. و بحلول عام 1925 كان البلاشفة قد تحولوا بالفعل إلى نموذج أكثر نخبوية للرياضة. وخلال هذه الفترة نُقل عن ستالين قوله: "نحن نتنافس مع البرجوازية اقتصاديا وسياسيا، وهي منافسة لا تخلو من نجاحات. نحن نتنافس في كل مكان يمكننا فيه المنافسة ، فلماذا لا تتنافس في الرياضة؟ " . ظهرت الفرق الرياضية وبشكل كامل مرة أخرى، متشابهة مع الطراز الرأسمالي وبطولات الكؤوس. وعومل الرياضيون الفائزون كأبطال في الاتحاد السوفييتي، كما إستمرالتخطيط و العمل لتحقيق الأرقام القياسية.

 

وفي نهاية المطاف، أصبحت الرياضة وكأنها الوكيل للحرب الباردة. في عام 1952 تم إعادة دمج الاتحاد السوفيتي في الحركة الأولمبية الدولية ، ولضمان قياس القوة النسبية للشرق والغرب  في كل دورة رياضية بقدر ما يحصلون عليه من الذهب والفضة وانحاس. وبما أن البلاد قد اضطرت لا محالة إلى المنافسة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الساحة الدولية، فقد وجدت نفسها أيضا في منافسة رياضية مع الغرب.

إن من الخطأ الحكم على المثل العليا للثورة الروسية من خلال أحداث الفترة الستالينية، كما لا يمكن القبول بأن تحجب إنجازات الأيام الأخيرة للرياضة السوفيتية، تلك التجارب المبكرة الرائعة في الثقافة البدنية. اليوم ، أصبحت الرياضة وكانها ألعوبة بيد شيوخ دول النفط، والشركات والأوليغاريين, وإنتشر في أوساطها الفساد والجدل والمنشطات. واصبحت مشاهدة الناس للمباريات الرياضية تشكل عبئاً مالياً عليهم. حتى العمال الذين يقومون ببناء المنشآت الرياضية للأحداث الرياضية الكبرى العالمية يدفعون ثمناً غالياً على حساب صحتهم و قوة عملهم . إن الحاجة إلى نقد وضع الرياضة اليوم أصبحت أمراً ملحاً و اكثرمما كانت عليه قبل مائة عام.