اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

الروحانية في زمن الأزمات// المطران د. يوسف توما

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 المطران د. يوسف توما

 

 

الروحانية في زمن الأزمات

المطران د. يوسف توما

 

 الشاعر التشيلي بابلو نيرودا 1904 – 1973 (جائزة نوبل للآداب لعام 1971) كان قد نفي في عام 1950 إلى جزيرة إيطالية صغيرة في البحر الأبيض المتوسط. تقول قصة حياته إن ماريو، وهو شاب أميّ، يعمل في خدمة نيرودا، يسلمه كل يوم البريد. قامت بين الشاعر وماريو صداقة بحيث أخذ الشاب يحكي للشاعر همومه عن الظروف وتعدّي الجيران عليهم، فسأله الشاعر: ألم يفعل والدك شيئا لرفع الغبن عنكم؟ أجاب ماريو: "بلى، فَعَلَ، لقد كان يشتُمُهم كلَ يوم"!   

 

في هذه الأيام التي تعصف فيها تظاهرات في مدن جنوب العراق وبغداد حيث يطالب جيل الشباب بخدمات وفرص عمل، بحيث احتلت مساحة الأخبار في مواقع التواصل السمعي والبصري والشبكة العنكبوتية، وبقدر ما تيسّر لي أن أتابع ما يكتب لاحظتُ أن ردود فِعل الناس تتميّز بالتأثر الآني والانفعالي، بل إن بعضه ينزل إلى الابتذال والشتائم، مثل "أبو ماريو" كوسيلة وحيدة لحل المشاكل بالنسبة إليهم.

 

وإن كان ماريو ابن جزيرة نائية، لكننا اليوم لم نعد في عزلة قرية أو حي صغير بل مسرَحُنا العالم. إلا أن الجهل السائد يبقى يَستعمل أدوات قديمة لا نفع ولا فائدة فيها كالسلبية والشتائم.

 

في بداية تدربي على العمل الصحافي – الذي جئت إليه متأخرا نسبيًا، 44 عاما – اكتشفتُ أن الكلب الذي صدَمتْه سيارةٌ أمام بيتي يستحوذ على اهتمامي أكثر من آلاف المساكين الذين يُقتلون بسبب الحروب او الكوارث الأخرى. وأصير تحت وقع الحدث من دون قُدرة على التحليل والكلام كما يجب عن كيفية العبور والتجاوز أو المعالجة، والسبب أني بقيتُ على عزلتي الانفعالية المتشائمة، فالناس لا يعرفون أن عواطفهم تقيّدُهم عندما تتهيّج بدل اعتماد هداية العقل وخبرة الآخرين الناجحة.

 

            الانفعالات تسيءُ إلى كل شيء، حتى الدين الذي تربّينا بالقرب منه، ولكن ليس في داخله، فلم يصبح تجربة تفيد حياتَنا، ما عدا طغيان طابع المؤسسة عليه، مثل السياسة، ففَشَلَ كلاهما في استنفار المخيّلة والعقل للخروج من الأزمات التي تجابهنا كل يوم. ولم تعد ممارسات الدين - ولا السياسة - ملهِمة للدروس والسلوك العملي، بل صارت بعيدة حتى عن الأخلاقية وأقرب ما تكون إلى أيديولوجية قومية أو مذهبية عمياء، لأنها فارغة من الروحانية.

 

الروحانية، دينية كانت أو سياسية، هي عبارة عن قوّة داخلية تتطوّر من خلال الصلاة (في الدين) والتأمل والفكر (في السياسة)، إنها قوّة ترافقنا ما دمنا على قيد الحياة وتغذّينا. والروحانية بدورها تتغذّى عادة بالأخلاق وأعمال الاقتسام والمحبّة، تبدأ بالأسرة فتشدّ أعضاءّها إلى بعضهم، ثم تكبر لتعبُر إلى الجيران والمجتمع أكثر فأكثر. أي إن كل ما نقوم به من أعمال فيه مهنيّة واحترام وثقة بالذات، ثم – مع الوقت - تصير الروحانية قِيَما وتقاليد تحكمُ سلوك المجتمع وترسُم آماله وأحلامَه ومشاريعَه... فيتمكن من التخطيط للمستقبل، في حين نلاحظ أن من ليس لديه روحانية - فردًا كان أو مجتمعًا- لا يتكلم قط عن المستقبل ولا يخطط له بصورة صحيحة!

 

 مع ذلك، أوقات الأزمات يمكن أن نستفيد منها، لأنها تكشِفنا وتبيّن النماذج التي في عقليّتنا، ويُساعدنا ذلك على التشخيص ومعرفة أسباب البطالة والفقر والجهل التي تنخرنا بعمق، كما تَظهَر الأزماتُ السياسة على حقيقتها، وتفتَحُ عينَي كل فرد فيرَى أفقا آخر إيجابيا، فلا يُصبح ضحيّة الشعارات والتكرار ويبني على قيَم جديدة. عندئذ لا يعود المواطنون يُشبهون ركاب طائرة تتعرّض لمطبّات هواء مخيفة: هم جالسون مربوطون بأحزمة السلامة، لكن ليس لديهم أي سيطرة على الموقف، ولا يعرفون متى ستنتهي الأزمة، وأينما نظروا لا يرون سوى فراغ هائل تحتَهم!

 

في الكتاب المقدس حالات مماثلة كثيرة عن أناس مرّت حياتُهم عبر الأزمة. أكتفي بإثنين كمثال يوضّح كيفية تكوّن الروحانية في أوقات الأزمات: إنهما سِفرَي الجامعة وأيوب.

 

     يدعونا سفر الجامعة إلى عدم الإفراط في اعتبار كل الأمور بنفس الجدّية. فيبدأ بجملته الشهيرة: "باطل الأباطيل، وكل شيء باطل". أي كل شيء زائل، متغيّر ومتحوّل. مثل الكثير من المؤلفات والقصص تنتهي بهذه الحقيقة، كاللازمة التي تكرّرها بطلة "ألف ليلة وليلة" في نهاية كل قصة: "حتى أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات"، أي الموت، أي علينا أن نتذكر أنه لا بد من العبور، ولا أحد يتوقّف، بينما الكل يريد أن يرتاح ويبني ويستقر ويقول مع الرسول بطرس يوم التجلي: "يا رب حَسَنٌ لنا أن نبقى هنا" (مر 9/5). إنها حكمة التخلي ليتحقق التجلي بإطلاق سراح الحياة وقبول التغيير، فتقلّ المعاناة، وهذا درس نتعلمه مع التقدّم في السن من جميع العقلاء والحكماء عبر التاريخ.

 

            السِفرُ الآخر هو "أيوب" يتناول المعاناة الفردية، حيث عاش أيوب "البار"، أزمة أطاحت بذريّته وأمواله وصحّته. لكنها لم تتمكن من نَسفِ الرجاءِ لديه. وهو كل ما تبقّى عنده، أي الثقة بالله. وإذ كان يرى فقط الجانب السفلي من لوحة الحياة، مع ذلك بقي يعتقد أن هنالك أجزاء أخرى عُليا تتجاوزُه، وهي تشكّل تصميما جميلا وإن خفي عن عينيه. وبذلك الموقف الشجاع استطاع أيوب أن يواجِه الواقع من منظور آخر خَفِي على أصدقائه. وتأتي نهاية سفر أيوب عجيبة، يتحوّل فيها أيوب من داخله، فيخاطب الرب بهذه الكلمات المدهشة: "سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ رأتْكَ عَيني" (42/5)، أي بدأت الروحانية تعمل فيه.

 

ليست الأزمات إذن حدثا حادثا على طريق الحياة، بل هي الطريق. كقول بولس الرسول: "فإننا نعلم أن كلَّ الخليقة تئِنُ وتعاني من آلام المخاض" (رو 8/22). لذلك من أجل مواجهة أي أزمة لدينا، نحتاج إلى قَيَم روحية تُعطي من هم حولنا الدعم والشجاعة والتفاؤل، ويمكن أن نستخلصها من دروس التاريخ، كما فعل يسوع مع تلميذَي عماوس كان "يسير معهما ويشرح لهما الكتب" (لو 24).

 

عندما أنظر إلى ما حولنا وأرى ما يحيط بنا من بؤس وفقر وإرهاب واغتيالات وتفجير وسيارات مفخخة بذكاء شيطاني، أتذكر قصة حدثت عام 1944 في أحد معسكرات الاعتقال التي أقامها النازيون في "أوشفيتز" في جنوب بولندا، دفعت المأساة أحد الساخطين أن يرفع قبضتَه نحو السماء ويصيح: "يا رب، أين أنت؟ لماذا تبقى صامتا ولا تفعل شيئا؟"، فجاء صوتٌ من أحد المساجين كان واقفا خلفه قال له: "نعم فعلتُ شيئا، خلقتُكَ أنتَ!". لو فهمنا هذا لاتضح معنى وجودنا وأن شيئًا إيجابيا لن يتحقق إلا إذا وضعنا يدنا في عجينة الحياة.

 

كركوك 22 تموز 2018

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.