اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

ماتا هاري بين الفن والإغواء والجاسوسيّة// يعقوب أفرام منصور

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

يعقوب أفرام منصور

 

عرض صفحة الكاتب

ماتا هاري بين الفن والإغواء والجاسوسيّة

1876 ـ 1917

يعقوب أفرام منصور

 

     في مطلع القرن الحالي صدر في باريس عن دار "بلون" Plon كتاب بأربعمئة صفحة عن ماتا هاري الراقصة والجاسوسة، أندونيسيّة المنشأ، ومؤلّف الكتاب هو فيليب كولاّس حفيد القاضي العسكري الفرنسي الذي أجرى التحقيق مع هذه المرأة ذات الأطوار الغريبة، وساقها إلى الإعدام.

 

     عُدّ ظهور هذه المرأة على مسرح الأحداث في مطلع القرن العشرين في غرب أورباـ وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ـ ظاهرة غريبة إسترعت إهتمام وتأمّل بعض المثقفين والباحثين عن الغرائب والأسرار، وبعض علماء الأجناس البشريّة، ودارسي حضارات الشرق الأقصى بعد معرفتهم بموطن نشأتها الأولى في أندونيسيا.

 

      كانت قصّة هذه المرأة مدار إهتمام وأحاديت عائلة هذا القاضي، كما كانت مثار خيالات حفيده، مؤلّف الكتاب، إلى حد الإفتتان بها ومرافقتها إياه كأسطورة غامضة، حتى إنه في نضوجه عثر على أوراق جدّه في شأنها، التي كانت مودَعة في صندوق على سقيفة في بيت العائلة. فانتهز فرصة الأسترسال في مطالعة الأوراق، وغِبّ انصرام ثلاثة أرباع القرن المنصرم أجرى نوعًا من إعادة التحقيق، جمع خلاله شهادات ومذكّرات أشخاص، ونقّب أرشيف المحكمة، وراجع الصحف التي أوردت تفاصيل هذه القضيّة، وانشغلت بأنباء ووقائع الفضائح والتجسس، ثم قارن بين الأقوال والإعترافات، ثم إطّلع على ما تكشّف  بعد إعدام هذه الشخصية المُلغِزة؛ فآل كل ذلك التحقيق والمقارنة والكشف والتثبّت إلى تأليف كتابه.

 

خصائصها الجسمية والحياتية

      فارعة القامة، سوداء الشعر، مهيبة الشكل، صبيحة الوجه، فاتنة القَسَمات، أنيقة الزيّ. عندما وصلت إلى باريس في عام 1904 نزلت فندق الأوبرا، وسجّلت إسمها في سجل الفندق بإسم (ليدي ماك ليود) إذ هي قرينة السكوتلندي (ماك لويد)، ولم يكن في محفظتها غير عشرة فرنكات، لكنها سوف توجد سُبُلاً لإغتنائها بعد الإختلاط بأرقى طبقات المجتمع والساسة، بل تغدو شخصيّة يتهافت كثيرون على دعوتها والتباهي بصحبتها.

     في جيئتها السابقة إلى باريس قبل 1904، حاولت العيش بفضل جمالها من خلال كونها نموذجًا للرسّامين الكثيرين آنئذٍ في المدينة، لكنها رفضت طلبهم بالجلوس عارية حين يرسمونها، فضجرت من دفع إيجار غرفتها الوضيعة، وعن تناول وجبة طعام ساخنة.

     هي هولندية الجنسيّة، إندونيسّة الأصل، واسمها (مارغريتا زلا)، منفصلة عن قرينها ماك لويد رسميًا لكن بلا طلاق نهائي. بعد صعود إسمها إلى كونها من أشهر راقصات زمانها، غيّرت إسمها إلى (ماتا هاري) ويعني في لغة (جاوا) الإندونيسية "عين النهار".

     مصدر رأسمالها جمالها وخِبرتها وثقتها بنفسها، لكنها بعد إخفاق محاولتها الأولى، عزمت على توظيف ذكائها وخبرتها وتأثير جمالها، والتخلّي عن الصدق. وكان العصر آنذاك في فرنسا خصوصًا عصر مظاهر وأساطير وبدايات السينما، وتزاحم الفنون، وتدفّق الثراء من المستعمرات، والتلذذ بالغرائب الآتية من البلدان النائية. ولبثت ماتا هاري ردحًا طويلا مجهولة المنشأ ونوعية علاقتها بالشرق، وهل هي من أصلين (آسيوي  وأوربي) أم أندونيسيّة بسبب ورود ذكر أحد ألقابها (أميرة جاوا)؟!

       بنت ماتا هاري شهرتها على الغرابة والطرافة واستغلال فتنة الشرق وغموضه وأساطيره وقصصه الخيالية ـ كما تصوّرها الأوربيون بتأثيرات حكايات ألف ليلة وليلة ـ وكان ذلك في مرحلة (1906 ـ 1908) أعوام صعود إسم راقصة أخرى حينئذٍ تميّزت بالغرابة والإبتكار هي (إيزادورا دَنكِن) التي ذكرها مرّةً جبران خليل جبران في إحدى رسائله إلى صديقته الأمريكية ماري هاسكل، فما قامت به ماتا هاري كان شبيهًا نوعًا ما برقص كاهنات المعابد الهندوسيّة، وهي سمّت رقصَها "رقصة شيفا" بحسب تخيّلها وابتكارها وإخراجها بشكل يُطابق تصوّر الأوربيين وتخيّلاتهم عن الشرق. فما ارتدته كان قريبًا من الصُوَر ألتي إلتقطها الرحّالون الغربيون إلى الشرق، في حين كل أرديتها وزينتها كان مقتنى من مخازن باريس.  ومن الأماكن الراقية التي رقصت فيها: مكتبة متحف "غيميه" في ساحة "يينا" الشهيرة، وفي قصر البارون "دي روتشيلد"، وصالة الأولمبيا. وكان إعجاب الجمهور الباريسي وطبقاته الأرستقراطية كبيرًا ـ بتأثير مشاهد رقصات تُماثل رقصات "كاهنات المعابد الهندوسيّة" لأنهم مزجوا بين (الهند) وبين (أندونيسيا)! وهذا ما حمل إحدى الصحف أن تكتب: "إذا كانت الهند تمتلك مثل هذا السحر، فكل الفرنسيين سيرحلون إلى ضفاف نهر الكنج."

     لكنّ ماتا هاري لم تكتفِ بما ارتجلته في البداية من عروض ورقصات لم تكن رقصًا بالمعنى الدقيق، بل شرعت في أخذ دروس في الرقص، ومع ذلك ظلّت تُصمّم رقصاتها وفق نمط شرقي، وبدأت تطالع وتشاهد عروضًا وهي تواصل الصعود. ومن صحف تلك المرحلة، والأحاديث التي أُجريت معها، يبدو أنها لم تكن سطحيّة أو عديمة الثقافة، بل تكلمت عن الرقص بكونه فنًا يحيل الجسد إلى روح، وفسّرت التعرّي بكونه تساميًا.

     رقصت في (مسرح أنطون) الشهير وفي (أوبرا مونتي كارلو)  "رقصة النار"، وأضحت شهرتها "فنّانة العصر"، حتى إنّ المتموّلين وذوي المناصب والمراكز الرفيعة في المجتمع الفرنسي كانوا يدعونها لحضور حفلاتهم، وتكاثر حولها القناصل والموظّفون الكبار العائدون من المستعمرات وأصحاب التُحَف والصُوَر عن الشرق الخيالي الغرائبي ليسألوها عن أصلها وموطنها، فكانت تروي لهم كثيرًا وتزيد فضولهم، وتبتكر الرقصات والأزياء الشرقية، وسكنت دارًا فخمة، وسافرت تلبيةً لدعوات كثيرة لتقديم رقصاتها.

     ربما لم تكن رفيعة العِفّة، لكنها رفضت عروضًا عديدة للإقتران بها، لكنها أصرّت دائمًا على كون القرار صادرًا عنها، وأن تلبث سيدة مصيرها ومعتمدة على نفسها. والمعروف عن بداية حياتها أنها نشأت في بيئة فقيرة، واقترنت بضابط هولندي في أندونيسيا، ورُزِقت منه بإبن وبنت، وعانت الأمرّين من ظلم وقسوة قرينها الضابط بسبب سلوكه المتعالي على السكّان الأصليين، وإزاء النساء الأندونيسيات. لكن الشجار الدائم بينهما أرغم الزوج على طلب نقله إلى موقع ناءٍ، فلبثت مع طفليها، وتأقلمت في العيش مع السكّان الأصليين، وصارت تتفاهم معهم باللهجة المحليىة حتى سمّت نفسها (ماتا هاري) إنسجامًا مع الأسماء الأندونيسية، وحضرت كثيرًا من احتفالات السكّان، وشاركت رقصاتهم. لكن ذلك أزعج قرينها، فعمل على نقلها مع طفليها إلى المنطقة النائية المعزولة التي عُيِّن فيها، حيث تفاقم الخلاف، لا سِيّما بعد مقتل إبنهما من قِبل المستعمرين الهولنديين إنتقامًا. ولما إنتقل الزوج إلى هولندة، حيث حاولت الطلاق، غير أنها حصلت على الإنفصال وحضانة إبنتها، لم يكتفِ القرين بعدم دفع النفقة المفروضة عليه، بل قام بخطف البنت. عندئذٍ واجهت ماتا هاري الفقر، فكان لا بدّ من مورد لتعتاش منه، فوجدته في باريس حيث نجحت، وغدا نجاحها مادة صحافية رائجة، وعمّت شهرتها أوربا. ولمّا علم القرين بالنبأ، حضر على مسرح الأحداث، ونشر صورتها، وأقام عليها دعوى طلاق، وطلب التعويض. وبذا كشف عن أصلها الهولندي، وليس لها علاقة ببريطانيا ولا هي أميرة جاوا. غير أن هذا الحدث جاء متأخرًا، إذ إستطاعت شهرة ماتا هاري وثروتها أن تُسكتا هذا القرين، غير أن الطلاق مكّن الزوج  أن ينتزع منها حضانة إبنتهما قانونيًا.

 

ألفصل الأخير من حياتها

     ضمن المغرمين بها كان ضابط ألماني كبير يُدعى (ألفريد كيبر)، وبعد طلاقها أمَلَت في الإقتران به، ولذلك غادرت باريس إلى برلين، غير أنه بعد عامين إنتهت العلاقة بالفراق، فعادت إلى باريس لتجد نجومًا غيرها قد صعدت.

    وفي بحثها عن عقود فنيّة وجدت نفسها مجددًا في برلين عام 1914 حيث حصلت على عقد مع دار للأوبرا. لكن قبل استهلال العروض فيها نشبت الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) وبين ألمانيا. فأُلغِيَ العقد مع دار الأوبرا،، ولم تقبض (ماركًا) واحدًا، ثمّ جًمّدت أموالها في المصرف وكذلك مجوهراتها بوصفها مقيمة في فرنسا، وحجز الفندق أمتعتها لأنها لم تدفع الأجرة، وصادر أحد الباعة حقائبها لأنها كانت قد اشترت منه قماشًا للمسرح، فوجدت نفسها في الطريق بِلا حفائب. ودفعت آخر مارك لديها في محاولة فاشلة للهروب إلى باريس، وفي عجزها عن العودة إلى باريس، وحرمانها من المجد والأضواء، وجدت أنها في الشارع. وتوالت عليها عدة عوامل أرغمتها على قبول عرض مكتب الجاسوسية الألماني بالعمل لصالحهم مقابل مبلغ كبير من المال مع إعادتها إلى باريس، غير أن عملها مع الألمان كان قصير الأمد، لأن الإنكليز إشتبهوا بها، كما سرّب الألمان إسمَها ليمنعوها من العمل مع غيرهم. في تلك الأثناء، أُغرمت بضابط فرنسي، وتقرّبت من الفرنسيين وعملت معهم في التجسس، لكن أمر تجسسها للألمان قد انكشف، ولم يُصدّق الفرنسيون في أثناء التحقيق معها أنها كانت صادقة في تعاملها معهم، وأنها لم تلعب لعبة العميل المزدوج، فحكموا عليها بالإعدام. وقدّم فيليب كولاّس، مؤلّف الكتاب الأدِلّة على صدقها، ورأى ان جدّه تسرّع في الحكم عليها بالإعدام ولم يمنحها أسبابًا تخفيفيّة.

 

ألمشهد الأخير

     غِبّ شهور من الإعياء والجوع والإحباط والشكوى من سوء أحوال الحبس في السجون المفتقرة إلى توفّر الشروط الإنسانية، وصلت ماتا هاري ماشيةً مرفوعة الرأس، مُتوكّئةً على ذراع راهبة عجوز واستها في محنتها. كانت في أبهى زينتها وأناقتها، ولم يعرف أحد من أين حصلت على الملابس، فذُهِل الجميع إذ رأوها. نظر إليها صفّ الضبّاطِ المكلّفين بإطلاق النار عليها. مرّةً أخرى رفعت رأسها وقالت: "أنا بريئة ولا أخاف". وهنا أجهشت الراهبة العجوز في البكاء، وطيّبت  ماتا هاري خاطرَها. ودّعت محاميها، وسلّمته وصيّتها الأخيرة وما تبقّى لديها. ورفضت أن يعصبوا عينيها، ونظرت إلى الضابط المكلَف بإعطاء الإشارة وحيّته. أُطلقت الرصاصات من البنادق السِت، ثمّ أُطلِقت رصاصة الرحمة القاضية، وأُعلِنت مِيتتُها.

       لبثت الجثّة في موضعها، ونُودِيَ على ذويها كي يتسلّموا الجثّة، فلم يُطالب بها أحد. وهكذا دفن الفرنسيون حُلمَهم الشرقي بعد أن إستغلّوه ووظّفوه وعبثوا به ثمّ  قتلوه!

 

ألمصدر: مجلّة نسائية " لها" ركن "نساء شهيرات"

ألموسوعة الميسّرة 1987

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.