مقالات وآراء

رحلة مع ربّات الجنون// رنيم العامري

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

رنيم العامري

 

 

رحلة مع ربّات الجنون

رنيم العامري

 

 غالباً ترافق كلمة المجنون في مخيلتنا العراقية صورة البجامة المصنوعة من قماش (البازة) الأبيض المخطط بالأزرق، لكن الصورة التي تراود مخيلة شخص من الغرب ستكون سترة بيضاء مزودة بأحزمة جلدية تربط يدا المجنون إلى ظهره فلا يتمكن بعدها من تحريكهما. نفس السترة التي كان الساحر هوديني يستعملها في حيله أمام الجمهور، عندما كان يعلق رجليه بعتلة رافعة ليتدلى بالمقلوب من أعلى بناية محاولاً الفرار من قيده.

 

 ما هو الجنون؟

يكتب كلود كيتيل في كتابه (تاريخ الجنون) بأنّ "الجنون حالة مرضية بالمعنى الطبي الدقيق"، "وقيل قديماً أنّه عقاب يبتلى به البشر الذين يقعون ضحية الجموح والغطرسة".

وقيل الجنون هو مرض الروح، ولكل مجتمع ردة فعل أزاء هذا المرض، وتشكل قصص معالجة الأمراض بالشعوذة والسحر، أو بالرقيات والتلاوات المقدسة وطب الأعشاب تراث التداوي السائد في مجتمعاتنا.

 

 لقد تطرقت السينما الى موضوع الجنون كثيراً، مثل الفيلم الرائع (One Flew Over the Cuckoo's Nest) والذي تُرجم إلى (أحدهم طار فوق عش الواقواق) ويترجم أحياناً إلى (الذي طار فوق عش المجانين) وهي برأيي الترجمة التي تضمر المعنى الأصح. في الفيلم يقوم نزيل المشفى الملقب بـ(Chief) بقتل زميله (ماك) أثناء نومه. ولكنه ما فعل ذلك إلاّ ليقينٍ منه بتحرير صديقه من سجن المرض والمصح.

 

 

 ذكر (كيتيل) أن كلٌّ من أفلاطون وإيمبيدوكليس (في القرن الخامس قبل الميلاد) قد ميزا بين نوعين من الجنون، وهما؛ نوع سيّء، وهو الهوس الذي يصاحبه ولع جسدي؛ ونوع جيد، ملهم وسماوي. وهكذا أضاف الفلاسفة الإغريق معنى آخر للجنون، وهو الجنون الذي قد يكون خلاّقاً. ويميز أفلاطون بين أربعة أنواع من الجنون الإلهي: الجنون النبوي والإله المسؤول عنه أبوللو، والجنون المتعلق بالإدراك الحسي الأولي أو الجنون الطقسي والإله المسؤول عنه ديونيسوس، وهو إله الكرمة والخمر والنشوة، والجنون الشعري المُستلهَم من ربات الإلهام والفنون، وأخيراً جنون الشهوة الجنسية المستوحى من الإلهة أفروديت والإله إيروس.

 

  قبل فترة ليست بالقصيرة،ُ كانتّ رحلتي إلى بيروت قد بدأت مع صبية جميلة ومجنونة، إذن كان لابدّ أن تنتهي مع أخرى. حينما فرغتُ من حزم حقائب العودة أعلنت الخامسة مساءً تمامها، عندها تناءى إليّ صوت سيدة حجبت وجهها أوراق شجرة البلوط الكبيرة تحت شرفة غرفتي في الطابق الخامس في الفندق الذي أقمت به، السيدة كانت طيلة فترة إقامتي في بيروت تبتدئ بعصبية مفرطة (مونولوجها) اليومي بالشتائم التي تمطر بها عابري السبيل ليأتيها الجواب من أحدهم: "روئي مدام". لكنّها وبعد أن ينال التعب منها، تتلمس في الوقت مكاناً حانياً ثم تغني ذات الأغنية كل مساء، بصوت حزين يقطع القلب، فيصعد إنشادها على البنايات فوق الأغصان ومنسكباً على رصيف شارع الحمراء. وقد اضطرني جهلي باللغة الفرنسية أن أسجل غناءها لأبحث فيما بعد عن نسخة مترجمة للأغنية واسمها (Je suis malade)، عرفت أنها للمطربة الايطالية المصرية الأصل داليدا التي أنهت حياتها بالانتحار. تلك الأغنية التي كانت بعض من كلماتها بداية هذا المقال سأسمعها الآن مرة أخرى وأبكي مرة أخرى مثل داليدا، ومثل السيدة الحزينة التي تركتها في بيروت تقضي مساءاتها ملتاعة ووحيدة تغني: "هذا الحبّ يقتلني وإذا استمر الحال هكذا، سأموت وحيدة قرب مذياعي كطفل ساذج، أنصتُ لصوتي منشداً أنا مريضة، مريضة تماماً وقلبي أيضاً مريض.."