مقالات وآراء

العراق والولايات المتحدة: من يحتاج من؟// د. حميد الكفائي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. حميد الكفائي

 

العراق والولايات المتحدة: من يحتاج من؟

د. حميد الكفائي

 

المفاوضات العراقية الأمريكية، التي تبدأ في شهر حزيران، تشكِل مفترق طرقٍ لكلا البلدين، فالعراق يواجه أخطارا حقيقية وداهمة تتعلق بوحدته وتماسك شعبه وقوة اقتصاده وموقعه كدولة مهمة في المنطقة والعالم. والولايات المتحدة هي الأخرى تواجه تحديا سياسيا واستراتيجيا كبيرا في منطقة الشرق الأوسط، التي اعتادت منذ منتصف القرن الماضي على وجودٍ فاعل للعامل الأمريكي كلاعب أساسي فيها.

 

لكن هناك متغيراتٍ كثيرةً تحتم على الولايات المتحدة أن تلعب دورا فاعلا في المنطقة، خصوصا مع تنامي العامل الإيراني التخريبي فيها، والعامل الإيراني هذا، لا يتعلق فقط بدول المنطقة، بل بدول العالم الأخرى، خصوصا الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة، لأنه يهدد مصالحها ومصالح الدول الغربية عموما، بالإضافة إلى تهديده، ليس مصالح الدول العربية فحسب، بل وجودَها القومي والسياسي والثقافي والاقتصادي، فطموحاتُ الولي الفقيه لا حدود لها.

 

كثيرون يخشون تناقص الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط مع تصاعد المطالبات الشعبية الأمريكية بالاهتمام بالداخل الأمريكي بدلا من الخارج، بالإضافة إلى شعارات الحزبين الرئيسيين بأولوية الاهتمام الداخلي، خصوصا مع احتمالات اكتفاء الولايات المتحدة ذاتيا في مجال الطاقة، المتوقع حصوله عام 2030 نتيجة اعتمادها على النفط الصخري، الذي تزايد انتاجُه في الولايات المتحدة منذ عشر سنوات. لكن كلفة انتاج الأخير تبقى مرتفعة بالمقارنة مع كلفة إنتاج النفط العربي، خصوصا عند انخفاض الأسعار كما هي الحال الآن. لذلك سيبقى النفط العربي مهما للولايات المتحدة وأوربا من الناحية الفعلية والاستراتيجية على أقل تقدير.

 

سيبقى الشرق الأوسط منطقة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة والعالم أجمع لأسبابٍ كثيرة، حتى وإن لم يعد مصدرا للطاقة الرخيصة لأمريكا وأوروبا، لكن الأوضاع سوف تتغير مستقبلا، وأن الغياب الغربي عن الشرق الأوسط، إن حصل، سوف يملأه آخرون دون شك، سواء كانوا صينيين أم هنوداً أم روساً أم إيرانيين، وهؤلاء ليسوا أصدقاءَ للبلدان الغربية، ولن يكونوا على الأمد القريب على الأقل، وهم، إن تمكنوا، لن يسمحوا بموضع قدم لأمريكا أو الاتحاد الأوروبي في مناطق نفوذهم، وهذا ما يحصل الآن في سوريا على سبيل المثال، إذ لم يعد للبلدان الغربية أي دور فيها بسبب تخليها عن دورها، طوعا ولأسباب أنانية قصيرة الأمد.

 

سيبقى الشرق الأوسط قلب العالم، ففيه بدأت الأفكار والأديان والفلسفة والعلوم والتأريخ، ومنه استمد العالم قوانينه الروحية والوضعية وأديانه وسبل حياته، وسيبقى يستمد منه طاقته وطرق اتصالاته وتواصله، لذلك لا يمكن أن يتخلى العالم الغربي أو الشرقي عن هذا القلب النابض، حتى وإن أصابه عطبٌ موقت أو تعرض إلى اختطافٍ طارئ من جهات لا تمت لثقافته المعتادة بصلة.  

 

فيما يتعلق بالعلاقات العراقية الأمريكية فالأمر لا يتعلق فقط بالعلاقات الاقتصادية وحاجة العراق إلى الولايات المتحدة لإنقاذه من خطر الإرهاب والاحتلال الإيراني فحسب، بل هناك موقف أخلاقي على الولايات المتحدة أن تقفه ألا وهو أنها هي التي أحتلت العراق وأسقطت الدولة العراقية وحلّت الجيش العراقي وسمحت بتشكيل المليشيات التي تأتمر بأمر دولة أخرى معادية للعراق تأريخيا وثقافيا، وتتحين الفرص لإضعافه والسيطرة عليه، وقد كان هذا إجراءً غبيا عاد بالكارثة على العراق، وهي التي أوصلت السياسيين الفاسدين الحاليين إلى الحكم، مع علمها بأنهم معادون للمدنية والتحضر والديمقراطية، وسكتت عن فسادهم وجرائمهم ومخالفاتهم القانونية وارتباطاتهم المشبوهة بدولة راعية للإرهاب وجماعات إرهابية.

 

ليس من حق الولايات المتحدة أن تتخلى عن العراق الآن بعد أن أطاحت بالدولة العراقية، لتتركه فريسة لأخطار الإرهاب والتقسيم والحرب الأهلية والاحتلال الإيراني والنهب الاقتصادي والتخريب الاجتماعي والثقافي، وهي التي وعدت بأن تجعله دولة ديمقراطية مزدهرة. هناك مسؤولية أخلاقية وقانونية تقع على عاتق الولايات المتحدة وبريطانيا، والدول التي أيدتهما في احتلال العراق عام 2003، في تحدٍ للإرادة الدولية، لدعم الدولة الوطنية العراقية ومؤسساتها الديمقراطية، فهذا ما وعدتا به العراقيين، وهذا ما صدقه ملايين العراقيين، وكان مبررَهما لغزو العراق في مخالفة صريحة للقانون الدولي. 

 

انسحاب الولايات المتحدة من العراق سيشكل ضررا كليا للعراق، وسوف يعرضه لأخطار قد تكون مدمرة، لذلك على المفاوض العراقي الوطني ألا يستجيب للتهديدات الإيرانية أو تهديدات المليشيات المأتمرة بأمر الولي الفقيه، الطامع في الاستيلاء على العراق، فمصلحة العراق على الأمد البعيد تكمن في أن يكون جزءا من المجتمع الدولي الديمقراطي والاقتصاد العالمي والمنظومة الأمنية الإقليمية، وليس دولةً هزيلةً تابعةً لدولة محاصرة دوليا ومنبوذة إقليميا ودوليا.

 

الشعب العراقي لا يرتضى التبعية لإيران وقد برهنت انتفاضة تشرين بما لا يقبل الشك بأنه يريد دولة عصرية ديمقراطية متفاعلة مع المجتمع الدولي والمحيط العربي. مصلحة الشعب العراقي ورأيه يجب أن يؤخذا بنظر الاعتبار في المفاوضات العراقية الأمريكية المزمع إجراؤها في حزيران، وهذه المصلحة تكمن في إقامة علاقات سياسية واقتصادية وطيدة مع الولايات المتحدة وباقي الدول المتقدمة كي يتمكن العراق من البقاء كدولة متماسكة وكي لا يتأثر بنشاطات إيران وطموحات قادتها الخارجية غير المشروعة، المزَعْزِعة لاستقرار المنطقة والعالم. 

 

حكومة الكاظمي مدعوة لأن تقف مع مصالح وطموحات الشعب العراقي في إقامة دولةٍ قوية مستقلة ديمقراطية وغير تابعة لدولة أخرى، دولةٍ تكون جزءا من المجتمع الدولي والعالم العربي، وعليها أن تتخذ إجراءات جريئة في هذا الإتجاه. نعم، هي حكومة جديدة وغير مكتملة، وهذا يجعلها ضعيفة نسبيا، ولكنها بحاجة لأن تظهر مواقف قوية وصارمة تجاه الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران، التي تتدخل في السياسات الداخلية والخارجية للعراق. اتخاذ مواقف جريئة وقوية سوف يعزز من موقع هذه الحكومة ويجمع حولها كل القوى الوطنية الطامحة في دولة قوية تساوي بين مواطنيها وتفرض سيادة القانون على الجميع وترفض التبعية والخنوع تحت أي مسمى.

 

حتى الآن، بدت حكومة الكاظمي مترددة وكأنها تريد أن تمسك العصا من الوسط، وهذا موقفٌ ليس في مصلحتها ولن يكون في صالحها. هناك مقولة مأثورة لرئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر في هذا الصدد ومفادها (ليس صحيحا أن تقف وسط الطريق، لأنك المركبات السائرة في كلا الاتجاهين سوف تصدمك وتقضي عليك). وعلى حكومة الكاظمي ألا تقف وسط الطريق لأنها سوف تفقد تأييد الشعب العراقي والمجتمع الدولي على حد سواء، وهي بالتأكيد لن تكسب تأييد إيران والجماعات المسلحة التابعة لها، والتي لن تقف معها في كل الأحوال. إن أراد العراق أن يبقى دولةً محترمة، فعليه أن يكون مستقلا ويحد من نفوذ إيران فيه ويلجم المليشيات التي أسسها الولي الفقيه لتفتيت العراق وإضعافه وتحقيق مآربه غير المشروعة والمخالفة للقانون الدولي.

 

على الحكومة العراقية أن تعلم أن البرلمان الحالي لا يمثل إرادة الشعب العراقي لأنه جاء نتيجة لانتخابات مشكوك في نزاهتها. يجب ألا ننسى أن الشركة الكورية التي استأجرتها مفوضية الانتخابات الحزبية السابقة هي شركة صغيرة، وقد تساهلت في ترتيب النتائج لصالح الأحزاب الحالية، ويجب أن نتذكر بأن بعثة الأمم المتحدة حينها قد تبرأت منها. معظم العراقيين يعلمون أن التزوير في انتخابات عام 2018 كان كبيرا وواسعا، وهذا ما صرح به سياسيون كثيرون وبعض أعضاء المفوضية نفسها. أحد أعضاء المفوضية، سعيد كاكائي، قال صراحة إن بعض نتائج انتخابات عام 20018 مزورة بنسبة 93%! لذلك على حكومة الكاظمي، إن أرادت حقا أن تحترم إرادة الشعب العراقي، أن تعمل وفق هذه المعطيات وأولها أن القوى الممثلة في البرلمان الحالي لا تمثل إرادة الشعب العراقي ويجب أن تجرى انتخابات حرة ونزيهة كي تنتج برلمانا يمثل الشعب العراقي تمثيلا حقيقيا.

 

قليلون هم الذين يعترفون بنزاهة الانتخابات السابقة، وأقل منهم من يعتقد بأن حكومة الكاظمي قادرة على إجراء انتخابات مبكرة، قبل موعدها المقرر دستوريا في منتصف عام 2022. وبعيدا عن الأوهام، فالمطلوب هو الاستعداد لانتخابات حقيقية تخوضها أحزاب ديمقراطية حقيقية لها برامج سياسية واقتصادية مدروسة وواقعية، ووفق قوانين انتخابات وأحزاب وانتخابات منصفة وعادلة. ومثل هذه الأحزاب لن تتشكل وتنظم نفسها في شكل طبيعي إلا عندما تعتقد حقا بأن بإمكانها أن تحقق ذلك وأن هناك تمويلا كافيا وعدالة حقيقية! لا فائدة في انتخابات مبكرة تأتي بالجماعات الفاسدة الحالية، لذلك على القوى الوطنية أن تهتم بإجراء انتخابات شفافة وعادلة ووفق قوانين منصفة للجميع، بدلا من التركيز على إجراء انتخابات مبكرة تجرى كيف ما اتفق وتأتي بالفاسدين الحاليين مرة أخرى.