اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

الوهم، "يوتوبيا utopia" قصة عمرها 500 سنة// المطران د. يوسف توما

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

المطران د. يوسف توما

 

الوهم، "يوتوبيا utopia" قصة عمرها 500 سنة

المطران د. يوسف توما

 

            تميزت نهاية القرن 15م وبداية القرن 16 بمتغيرات كثيرة غيّرت وجه العالم، بتوسع العالم المعروف (اكتشاف الأميركتين 1492)، احتلال العثمانيين للقسطنطينية لتصبح عاصمة لهم، تصاعد الصين في عهد سلالة مينغ، لتشهد أوج عظمتها الهند في زمن الملك أكبر (1542 - 1605) المغولي تصل أيضا إلى أوج عظمتها.

 

كانت للبوصلة الدور الأكبر في هذه التحولات، فهي اختراع صيني نقلها العرب وكيّفوها. ليحسبوا خط العرض (موقع الشمال أو جنوب خط الاستواء)، عن طريق قياس ارتفاع النجوم بالنسبة إلى الأفق. كما تغيرت صناعة السفن فقام علم الأشرعة في سفن "كارافيل"، في حوالي عام 1440، بإضافة ثلاثة أشكال من الشراع، مما جعلهم يتمكنون من الإبحار حتى لو كانت الريح معاكسة، فقاموا برحلات طويلة في أعالي البحار، في حين كانوا يكتفون في السابق بالملاحة الساحلية. استطاعوا هكذا عبور بحر الظلمات (المحيط الأطلسي). كل هذه المتغيرات مهمة، ولكن!

 

لكن الأهم في تلك الفترة والمحرك الأساس للمنافسة هو حمى الاستكشاف لأنهم حلموا بطرق جديدة للوصول إلى الهند ونقل البهارات متجنبين العالم الإسلامي والعثماني. فقام البرتغاليون باستكشاف أفريقيا على طول الساحل الغربي. بحثوا عن الربح السريع، من خلال تجارة الذهب، ثم التوابل، المرغوبة جدا في أوروبا، كان العثمانيون يتاجرون بها عبر التجار الإيطاليين، خصوصا مدينة البندقية، التي سيطرت على السوق. لكن البرتغاليين خطفوه منها.

 

دعم البرتغاليين ملوكهم ثم لحقهم الاسبان، لإيجاد طرق جديدة للوصول إلى آسيا. إما بتجاوز إفريقيا جنوبا، أو، ولم لا، الإبحار غربا إلى آسيا؟ أليست الأرض كروية كما قال منذ إراتوستينس Eratosthène  (276 – 194ق.م) الذي توصّل إلى قياس محيط الأرض بدقة مذهلة: 39375 كيلومترًا مقابل حوالي 40 ألف كيلومتر في التقديرات الحالية.

 

طريقان من أوربا إلى آسيا

وصل البرتغاليون إلى الهند. واستعمروا مناطق عدة وجزرا منذ بداية القرن 15: وطوروا زراعة قصب السكر، ومارسوا تجارة العبيد وذهبوا أبعد وأبعد فوصل بارتيليمي دياز إلى أقصى جنوب أفريقيا إلى "رأس الأعاصير" لكن ملك البرتغال لم يعجبه الاسم فأسماه "رأس الرجاء الصالح" كان ذلك عام 1488. ثم تجاوزه فاسكو دا جاما ووصل إلى الهند عام 1498؛ ليعود بعد سنة بسفن محملة بالفلفل، وكان لدى البرتغاليين مكاتب comptoirs في كل مكان وفي الهند "جوا" Gpa وملقا وماكاو في الصين 1557 عواصم لهم، منذ 1513. لكن بحارا إيطاليا كريستوف كولومبوس كان لديه رأي آخر فعرض على ملك إسبانيا أن يصل إلى الهند واليابان بالذهاب مباشرة غربا. ولولا هذا الوهم لما اكتشف أمريكا، وبقي متوهما يسمي سكانها "الهنود الحمر". كان ذلك في عام 1492.

 

البرتغال وإسبانيا كانتا سباقتين، لحقتهما بريطانيا وفرنسا وهولندا ليستقطع كل منهم جزءا من العالم الجديد ومعه سار الطمع والقتل ومحو حضارات. غزا هرنان كورتيس الاسباني، المكسيك عام 1519 وبيرو حيث إمبراطورية الإنكا (1524-1534) مع فرانسيسكو بيزارو. في أمريكا الشمالية، اكتشف الإيطالي جان كابوت كندا نيابة عن ملك إنجلترا عام 1497. وأستطاع ماجلان أن يدور حول العالم، في 1522 فصار كل شيء أفقا للأوروبيين خلال عقود قليلة.

 

في هذه الأثناء، عام 1516، صدر للكاتب الإنجليزي توماس مور (1478-1535) رواية "يوتوبيا"، (الوهم) مشتق من اليونانية "utopos" أي "اللا مكان" يحكي فيه عن "مجتمع لا يمكن لأحد أن يصل إليه، لأنه يتجاوز الواقع". فيوتوبيا جزيرة مثالية وجمهورية مثالية. لا أحد فيها يعمل أكثر من 6 ساعات باليوم، لا مال فيها ولا ملكية خاصة ولا حسد وسكانها يتشاركون في إنتاج المحاصيل الزراعية، وليس فيها عبيد بالطبع. 

 

كان توماس مور قاضيا وعضوًا في البرلمان ومستشارا وصديقا للملك الإنجليزي هنري الثامن الذي وقع في عام 1533 في حب آن بولين وقرر الانفصال عن زوجته كاثرين والزواج من حبه الجديد في الكنيسة، كان هذا مخالفًا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية. وإزاء معارضة البابا، انفصل هنري الثامن عن روما وأسس الكنيسة الأنجليكانية التي هو رئيسها، أما توماس مور، وهو كاثوليكي تقي فقد عارض الملك وشجبه فقام هذا باعتقاله. وحكم عليه بقطع الرأس. (في عام 1935 أعلنته الكنيسة الكاثوليكية قديسا وهو شفيع السياسيين، وفي عام 1966 قام فريد زينمان بإنتاج فيلم عن توماس مور: "رجل لجميع الفصول"، والذي فاز بست جوائز أوسكار). ما بقي من هذه الحقبة جدير بالاهتمام إذ أن رواية "يوتوبيا" أصبحت من أشهر وأهم القصص الرمزية للقرن 16 إذ فيها نقد مور المشهد السياسي في عصره وإنجلترا، حيث ساد الفساد والطمع بالسلطة وعدم الكفاءة. في حين يسود جزيرة يوتوبيا العدل والإدارة الجيدة، وكل سكانها سعداء على أرض مستدامة بيئيًا.

 

كل عصر يحلم بالآتي

يقول المؤرخ الفرنسي جول ميشليهMichelt  1798 - 1874، "كل عصر يحلم بالآتي". أي منذ أفلاطون حلموا بجمهورية مثالية. وحلم جوناثان سويفت "في رحلات جوليفر" بعالم يحكمه الأقزام (قصار القامة) ثم رأى ديفو أن العزلة هي مصير الكل في قصة "روبنسون كروزو". وحتى في زماننا حلم ألدوس هكسلي بـ “عالم جديد شجاع"، ورأى جورج أورويل الحكم المستبدّ في رواية "1984"، والمأساة المقبلة في "فهرنهايت 451" للكاتب ربادبري. ثم جاء القرن 19 ليترجم ردود فعل ما سبقه إلى تيارات آيديولوجية سرعان ما قلبت الأحلام على كوابيس، وبالرغم من اعجاب كارل ماركس بأن توماس مور هو شيوعي من القرن 16 لأنه ألغى الملكية الخاصة في جزيرته الخيالية يوتوبيا، إلا أن الواقع شيء آخر.

 

هكذا إذن تقلب العالم عبر خمسة قرون بين وهم الاستكشاف وحلم الاستقرار وهذا يتأرجح بين حب السفر او البقاء وتغيير المجتمع بالقوّة والسلطة والهيمنة باعتماد الدين والقومية من خلال التطرف. بالمقابل قامت أشكال معارضة في كل المجتمعات تندد وتقترح البديل فكانت حركات الإصلاح مثل: يان هوس (تشيكيا) ومارتن لوثر (ألمانيا)، لكن الكتاب والأدباء أيضا تعاقبوا بعد توماس مور ليندّدوا بجنون السلطة مثل سرفنتس (أسبانيا)، وكل من سخر من وهم "الطوبائية" في بلدان صار الجشع فيها يسمى "الليبرالية". التي تحوي مرضا خطيرا، كما قال "كورتيس" مستكشف المكسيك ومدمّر حضارتها للملك مونتيزوما: "لدينا نحن الأوربيون مرض في القلب لا يشفيه سوى الذهب!"، مرض سبّب الحروب والغزوات ودمّر الطبيعة. فكل الغزاة جاؤوا بأشكال التصحّر، فكري وروحي وفعلي (كما قال ابن خلدون أيضا)، وكما قيل عن أتيلا المغولي إن "العشب لم يكن ينبت خلف حوافر حصانه"!

 

يوتوبيا (الوهم) قصة صدقت عبر القرون، ولم تعالجها الانقلابات والثورات وشعارات التقدّم والأوهام، لأن القسوة كان أسلوبها بحيث تحوّلت الجماهير إلى قطعان لا حول لها ولا قوة. ثورات وانتفاضات أفقدتها الشعور بالزمن وجعل "كل جيل يحلم بالآتي"، أو يقيم على خبرة آبائه لأن ليس لديه خطة بديلة ولا رؤية للمستقبل.

 

بسبب متطلبات الحاضر وحاجاته، تسبب حبّ السلطة في عصرنا بعمق في فقد الشعوب لأي رؤية مستقبلية، أي إنها أصيبت بقصر النظر. فتجمّدت الأمور وبقي القوي يمسك زمام السلطة، بحيث رأينا "ملكيات دستورية" وجمهوريات وراثية... المهم أن يبقى يحكم ويرث أولاده وأحفاده، حتى لو كان النظام شيوعيا، من هنا جاءت "الشعبوية" populisme، التي تقول المهم "خذ السلطة"، واحصل على المال واللذة، واختزل الزمن والتاريخ واحصره في شخصك (أو جماعتك)، أحكم بأنك كل شيء ونهاية كل شيء، وقل لهم "بدوني سيأتي الخراب" وسيوجد دائما من يصدقك، دون أن يفهم أن السلطة مجرد وسيلة تحتاج إلى تفويض شعبي...

 

الخاتمة

إن حقيقة هذه القرون الخمسة، ترينا أشباحا وشخصيّات سخيفة كانت مخيفة لأنها مارست القتل كي تبقى في السلطة، ليس فيها من نفتخر به صاحب سيرة شريفة، إنهم مجرد صور كاريكاتورية لطموحات مفرطة، مريضة، محبة للهيمنة على العقول والشعوب. وكما يقول المثل الروماني القديم: "أفضّل أن أكون الأوّل في قريتي على أن أكون الثاني في روما"! ألهذا الحد حبّ السلطة والانفراد بها إدمان يسيطر على صاحبه؟ ألا يشعر يوما بأنه محدود، وأن الحياة ستجبره على الخضوع والقبول بالتخلي؟ هذا يذكرني بصلاة يسوع إلى الآب: "لتكن مشيئتك"، فالطاعة للظروف محدِّدة للكل، لكنها هي التي تفتح باب المستقبل. يبقى السؤال: أين نجد السياسي الذي يستطيع أن يتصوّر في إمكانه المساعدة بإقامة "مدينة فاضلة"؟ رحم الله من اعترف بخطئه وعجزه وانسحب قبل أن يُطرَد أو يموت!

 

ذهب كثيرون وهم لا يعرفون أن هناك نظرة أخرى يمكن أن نلقيها على العالم، وهي ليست بالضرورة نظرة سلطوية.

 

كركوك 4 تشرين الثاني 2020

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.