مقالات وآراء

رباعيتان.. ورهانات فاشلة// معتصم حمادة

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

معتصم حمادة

 

عرض صفحة الكاتب 

رباعيتان.. ورهانات فاشلة

معتصم حمادة

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

بات جلياً، مرة أخرى، أن القيادة الرسمية الفلسطينية، لم تغادر الخيار السياسي الذي تبنته منذ العام 2005، أي مع وصول الرئيس محمود عباس إلى السلطة، خيار المفاوضات السلمية سبيلاً وحيداً للحل مع دولة الاحتلال.

 

المجلس الوطني الفلسطيني، في دوراته الأخيرة، عام 2018، نسف هذا الخيار، حين أعلن وقف العمل بالمرحلة الانتقالية من اتفاق أوسلو، والخروج منه، عبر التحرر من استحقاقاته وقيوده. أما عن المفاوضات، فقد دعا إلى عملية سياسية بإشراف الأمم المتحدة ورعايتها وبموجب قراراتها ذات الصلة، وبسقف زمني محدد، وبقرارات ملزمة، تكفل الوصول إلى الحقوق الوطنية المشروعة، كما أقرتها الأمم المتحدة، أي الحق في الخلاص من الاحتلال، والفوز بالاستقلال وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم عملاً بالقرار 194.

 

تطلب الأمر جهوداً وضغوطاً سياسية وميدانية إلى أن استجابت القيادة الرسمية لقرارات المجلس الوطني، في 19/5/2020، حين أعلنت في الاجتماع القيادي الفلسطيني، التحلل من الاتفاقات والمعاهدات مع إسرائيل والولايات المتحدة، وكان واضحاً أن من الأسباب التي ضغطت على القيادة الرسمية للقبول بقرار 19/5، هو الإعلان الأميركي عن مشروع الضم، والإعلان في 17/5 عن ولادة حكومة ثنائية الرأس في إسرائيل، برنامجها يستند إلى محورين: الأول تطبيقات قانون القومية اليهودية (أي إسقاط الاعتراف بالفلسطينيين شعباً) والثاني: تطبيق خطة الضم عبر لجان مشتركة إسرائيلية – أميركية.

 

وفي ظل هذا الجو، انعقد اجتماع الأمناء العامين، في رام الله وبيروت (3/9/2020)، في ردة فعل كبرى من القيادة الرسمية لخطوة التطبيع لدولة الإمارات العربية مع إسرائيل (في حضور شياطين محمد دحلان بكل ما يتعلق بدولة الإمارات العربية!) وتم الإعلان عن المقاومة الشعبية خياراً نضالياً، تحت قيادة مقاومة وطنية موحدة. وفي خطوة حملت في طياتها إشارات جديدة، تقرر تكليف لجنة من الشخصيات الوازنة لصياغة استراتيجية فلسطينية جديدة، تترجم قرارات المجلس الوطني للعام 2018.

 

وبدا، وكأن القيادة الرسمية بدأت، وإن ببطء شديد، في الخروج من اتفاق أوسلو.

 

غير أن الانقلاب على هذا كله، حصل في 17/11/2020، حين أعلن وزير الإدارة المدنية (ضابط الارتباط مع سلطات الاحتلال) العودة إلى أوسلو، بشقيه الأمني والسياسي. وأطلق الرئيس عباس ما بات يعرف بمبادرته للسلام، وتقوم على العودة إلى المفاوضات، مع إسرائيل، تحت سقف اتفاق أوسلو ورعاية الرباعية الدولية، وأطراف أخرى (كالعربية السعودية ومصر والأردن مثلاً) بموجب القرار 242 ومبادرة السلام العربية. وهي المبادرة التي تبنتها قمة بيروت (2002) قدمت فيها لإسرائيل عرضاً بتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وإسقاط حق العودة، مقابل الانسحاب إلى حدود 5 حزيران (يونيو) 67، تحت مبدأ «الأرض مقابل السلام».

 

عودة القيادة الرسمية الفلسطينية إلى خيار المفاوضات السلمية سبيلاً وحيداً، وتجاهلها لكافة قرارات الأمم المتحدة التي تكفل للشعب الفلسطيني حقه في المقاومة، وتقرير المصير، والاستقلال والعودة، والاكتفاء بالقرار 242، قام على رهانات سياسية، أهمها رحيل إدارة ترامب، ومجيء إدارة بايدن، وضغوط أوروبية وعربية (مصر والأردن والسعودية) وتخوف، بل وحالة رعب، من اتساع دائرة التطبيع العربي – الإسرائيلي، بحيث تبقى القيادة الرسمية الفلسطينية وحيدة في مواجهة دولة الاحتلال.

 

في الجانب الأميركي ماذا تحقق على يد إدارة بايدن نحو القضية الفلسطينية؟!

 

الخطوة الأكثر بروزاً، أنها أعادت إلى خطابها السياسي ما يسمى «حل الدولتين»، دون أي تعريف بهذا الحل وتفاصيله، وفي غموض شديد، دعا العديد من المراقبين إلى التقدير أن إدارة بايدن لا تملك حلاً للقضية الفلسطينية، وأن جهودها لن تتجاوز حدود «إدارة الأزمة دون الوصول إلى حل لها».

 

بالمقابل لم تتراجع إدارة بايدن عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم تتراجع عن نقل سفارة بلادها إليها، مما أبقى الباب مفتوحاً لدول أخرى لتأخذ بالخيار الأميركي من القدس. وآخر ما عبرت عنه الإدارة الأميركية الجديدة هو العودة إلى عبارة «إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة» في وصفها للمنطقة في تقريرها السنوي. وللأسف، وفي تهالك سياسي مذل، أقامت السلطة الفلسطينية احتفالات النصر احتفاءً بهذه العبارة، في تزوير فاقع لمدلولها، بالادعاء أنها تعترف بالمناطق الفلسطينية «محتلة» من قبل إسرائيل، علماً أن التقرير الأميركي لم يأتِ على ذكر كلمة «محتلة»، بل استند إلى اتفاق أوسلو، الذي يعتبر «الضفة الفلسطينية وقطاع غزة» مناطق متنازع عليها، تحسم صيغتها النهائية في مفاوضات الحل الدائم.

 

أما الخطوات الأخرى، التي اعتبرتها السلطة الفلسطينية إيجابية، كاستئناف تقديم المساعدات المالية للفلسطينيين، فهي عودة إلى الصيغة السابقة: مساعدات مالية مقابل التنسيق الأمني بين مخابرات السلطة الفلسطينية ووكالة المخابرات الأميركية ضد «الإرهاب»، وهو أمر لا يحتاج إلى تفسير وتوضيح وشرح لأبعاده السياسية والوطنية.

 

بالمقابل، ما زالت مفوضية م. ت. ف. في واشنطن مغلقة، ولم تفتح مرة أخرى القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ما يعني أن السقف السياسي للخطوات «الإيجابية» لإدارة بايدن ما زال شديد الهبوط، وأن تهيل السلطة الفلسطينية للسياسة الأميركية ما هو إلا محاولة لتغطية سياسة الانزلاق مرة أخرى إلى الالتحاق بالسياسة الأميركية والرهان عليها، دون أن نغفل أن إدارة بايدن اعترفت بوضوح أنها تحث المزيد من الدول العربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأنها ما زالت تلتزم أمن إسرائيل كاعتبار استراتيجي في سياسة الولايات المتحدة. ولا يحتاج الأمر إلى شرح.

 

ماذا بشأن الرباعية الدولية؟!

الرباعية الدولية وتتشكل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، دخلت في غيبوبة سياسية مطولة امتدت من أيلول (سبتمبر) 2018، حتى 23/3/2021، حين عقد أول اجتماع لها، أبرزت فيه قضيتين في بيانها الختامي:

 

• الأولى أنها تهدف إلى إحياء مفاوضات «ذات معنى» بين إسرائيل والفلسطينيين بهدف التوصل لحل يقوم على أساس «وجود دولتين».

 

• الثانية أنها دعت الجانبين، إسرائيل والفلسطينيين إلى «الامتناع عن القيام بأعمال أحادية تجعل تحقيق حل الدولتين أكثر صعوبة».

 

واضح من البيان أن الرباعية الدولية، التي لم يدخل على تركيبها أي تغيير، لا تملك رؤية واضحة للحل، وأنها ما زالت تقف عند حدود «الدولتين». أما حديثها عن «مفاوضات ذات معنى» وكأنها ترى في المفاوضات السابقة عبثاً سياسياً، دون أن تشرح ما هي الأسس، والمرجعية والآليات للوصول إلى «مفاوضات ذات معنى».

 

من جانب آخر، تساوي الرباعية الدولية بين سلسلة الإجراءات الإسرائيلية اليومية من استيطان، ومصادرات، وهدم، وقتل، وتدمير البنية التحتية، وجرف المزروعات، ومصادرة الجرارات الزراعية، والقتل العمد، والاعتقالات الجماعية، وزرع الحواجز، وعرقلة الحياة اليومية، ومصادرة أموال المقاصة، وحصار قطاع غزة وقصفه بالطائرات والمدافع والدبابات، وهي كلها انتهاك ليس فقط للقرارات والقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، بل وكذلك لاتفاق أوسلو البائس نفسه، ... وبين أعمال المقاومة الفردية للفلسطينيين في الضفة، وهي في واقع الحال أعمال يشرعها القانون الدولي، ويعتبرها حقاً من حقوق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن سيادته الوطنية.

 

ما يعني في رؤية شبه نهائية، أننا أمام رهان سياسي فلسطيني رسمي على إطار «دولي» للحل، تحتل فيه الولايات المتحدة الموقع الأكثر تأثيراً، والأكثر قدرة على الفعل، ويفتقر في الوقت نفسه إلى رؤية واضحة للحل، بما يعيد الأمور إلى سابق عهدها: مفاوضات من أجل المفاوضات، تشكل غطاء لاحتلال بلا كلفة وتديمه دون سقف زمني محدد، وتبقى الحالة الفلسطينية في صيغة سلطة بلا سلطة، لا تتوقف عن الحديث عن حالة الحمل الكاذب التي تعيشها، والتي من شأنها أن تسفر عن ولادة دولة فلسطينية.

 

رباعية ميونخ ... كاسحة ألغام!

تشكلت رباعية ميونخ على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، وتضم مصر والأردن وألمانيا وفرنسا، وعقدت لها سلسلة اجتماعات طوال العام الماضي، ولعبت دوراً في «اقناع» القيادة الرسمية الفلسطينية بالتراجع عن مسار 19/5/2020 «التحلل من الاتفاقات والمعاهدات مع إسرائيل والولايات المتحدة».

 

وفي بياناتها وتصريحات أعضائها (وزراء خارجية الدول الأربع) تدرك رباعية ميونخ حجم الصعوبات التي تواجه الرباعية الدولية لإعادة الحياة إلى المسار التفاوضي السلمي بين إسرائيل والفلسطينيين، لذلك جعلت رباعية ميونخ من نفسها «كاسحة ألغام»، لفتح الطريق أمام الرباعية الدولية، من خلال تحركاتها بين تل أبيب ورام الله، بما في ذلك تبليغ رام الله برسائل يحملها إليها رؤساء الأجهزة الأمنية في مصر والأردن، أو في زيارات ميدانية لوزراء خارجية الأطراف الأربعة.

 

ولعل ما تفتقت عنه أعمال هذه الرباعية، هي العمل على بناء «الخطوات التمهيدية في إطار تراكمي»، للوصول إلى جمع الطرفين إلى طاولة المفاوضات. ولا نعتقد أن في هذا التكتيك ما هو جديد. فقد سبق للخارجية الأميركية في ولايتي أوباما، أن لجأت إلى تكتيك مشابه. منه على سبيل المثال:

 

• عند الفشل في «إقناع» إسرائيل بوقف الاستيطان، قدمت حلولاً جزئية، منها مثلاً، التوقف عن بناء مستوطنات جديدة مقابل استكمال بناء ما تمّ التخطيط له في المستوطنات القائمة بما فيها ذلك البنية التحتية (أي بتعبير آخر الطرق الالتفافية)، ورغم أن حكومة نتنياهو أعلنت أكثر من مرة التزامها مثل هذه الخطوات، إلا أن تقارير منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية الميدانية، بما فيها الجوية، أثبتت أن شيئاً لم يتغير، وبالتالي بقيت عقدة الاستيطان، رغم التنازل الفلسطيني، هي العقدة التي عطلت استئناف المفاوضات.

 

• كذلك قدمت الخارجية الأميركية العديد من الصيغ «التمهيدية» لاستئناف المفاوضات المباشرة، منها ما سمي بـ«مفاوضات الاستكشاف»، و«المفاوضات عن بعد» و«المفاوضات غير الرسمية» وغيرها من الأساليب التي هدفها استئناف المفاوضات، في ظل الاحتلال الفاضح في موازين القوى لصالح الجانب الإسرائيلي، إلى أن اقتنع وزير خارجية أوباما، جون كيري، في نيسان (ابريل) 2014 أن إسرائيل لا ترغب في السلام.

 

السؤال الأخير: ماذا تغير للعودة إلى المفاوضات؟!

• إسرائيل تزداد تصلباً، والمجتمع ينزاح أكثر فأكثر نحو اليمين، وباتت أحزاب المستوطنين تحتل موقعاً متقدماً في خارطة السياسة الإسرائيلية وصاحبة نفوذ في الكنيست، وفي تشكيل الحكومات ورسم سياساتها ومشاريع الاستيطان تعيش حالة من الجنون في التوسع في كل أنحاء الضفة، وعلى قاعدة أن كل استيطان هو مشروع لضم جديد.

 

• مروحة الانفتاح الإسرائيلي على العالم باتت أوسع (علاقات مع الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والهند، وتركيا، ودول عربية – علناً وبالسر – وغيرها من دول إسلامية ولاتينية)، وبالتالي بات موقعها الدولي أكثر تماسكاً (يجري التعبير عنه في تراجع أعداد المصوتين لصالح القضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك دول عربية على غرار البحرين).

 

بالمقابل:

• حالة فلسطينية رسمية متهالكة، ونظام سياسي فلسطيني بات يعيش الربع الساعة الأخير من مسيرته، بعد فشل اتفاق أوسلو، وانقلابه على مشروع المقاومة، وعودته إلى أحضان الولايات المتحدة والرباعية الدولية، والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية.

 

• حالة مجتمعية فلسطينية (في الضفة والقطاع بشكل رئيسي) فقدت ما تبقى عندها من ثقة بالسلطة ومؤسساتها، تعبر عن ذلك بالأعمال الفردية ضد الاحتلال، وتصاعد نشاط بؤر الصدام مع الاستيطان، وهذا العدد الهائل من القوائم المستقلة لانتخابات المجلس التشريعي، وتفتت حالة فتح في أكثر من قائمة، ما يضعف موقع السلطة في حسابات المجتمع الدولي والرباعية الدولية.

 

بعبارة أخيرة:

ما ترسمه القيادة الرسمية الفلسطينية من «استراتيجية» ما هي إلا محاولة فاشلة للتمديد في عمر مشروع أوسلو، في رهان على الدعم المرتقب من الرباعية الدولية، في وقت بات فيه جلياً أنه لم يتبقَ من أوسلو، سوى القيود التي تتحكم بالسلطة الفلسطينية، فيما تحررت إسرائيل من كل استحقاقاته، ولا تلتزم إلا ما تراه في خدمة لمشروعها الصهيوني القائم على توسيع دولة إسرائيل إلى حيث يصل حذاء الجندي الإسرائيلي