مقالات وآراء

المغرب للجزائريين حبيب (4)// مصطفى منيغ

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

مصطفى منيغ

 

عرض صفحة الكاتب 

المغرب للجزائريين حبيب (4)

مصطفى منيغ

الرباط : المغرب

 

وجدتُ الجزائر في تلك الحِقبة امرأة دَهَنَت بالنَّفط شعرها ، لتجلب أطماع الراغبين في ودِّها ، بمقابل يطمعون في الحصول عليه منها ، براميل من الذهب الأسود  ذي الرائحة الناشرة إغراءها ، لصيد مواقف تقبل بأي طلعة منها ، صوب ما تريد داخل القارة السوداء الخاضعة لتيار ثورات تنفض بها غبار ما تحياه من انتكاسات اقتصادية خانقة تقضّ مضاجع حكامها ، امرأة أدخلت طموحها لبرنامج تجميل سطَّره "الهواري بومدين" ينأى عن تَرِكَةِ مَن سبقه للزعامة لغاية التخلص النهائي القطعي من الفكر الناصري ، الذي اعتمده أحمد بنبلة مهيمناً على بلاد تريد فرنسا أن تبقى في محيط ثقافتها حتى في الجزء المؤيد لسياستها الخارجية القائمة على تفريق شمل العرب من المحيط إلى الخليج بدافع فرّق تسود ليبقى الجميع طوع بنانها . امرأة أهملتها قساوة العادات المحافظة على مبادئ لا يكتمل جمال الأنثى إلا بها ، غير الحياء المُبالغ فيه نفاقاً الملجّم للأفواه المكسِّر أي محاولة للتعبير عن رأيها ، لتبقى منعزلة طائعة للأوامر منتجة لأولادها ، أكانت مع عمرو أو زيد لا مشكلة لها ، صابرة على توجيه كبراء الأسرة في سالف كمستقبل عمرها ، ما دام الاستعمار الفرنسي جاثم على قلبها وقلوب أولياء أمورها . بعد الاستقلال وجدت مصيرها متغيّر فما استطاعت كَتْم فرحتها، حيث خرجت للدنيا مبعثِرة طاقاتها ، على هذا وذاك تلبية لهوى صاحب كرسي تربَّع فوقه ليسلب كل حقوقها ، بأسلوب نفَّذه بالتدريج ليلهيها ، ولمَّا وصل الأمر لمعاداة المغرب شعرت أنه طاعن ظهرها ، بخنجر ما فكّرت رفعه على وجه مَن كان أيام مِحنها الطوال قبل وبعد استقلالها ، أفضل وأخلص وأقوى سندٍ لها  .

 

... تجولتُ بما يكفي لأقارن ما جئت به من معلومات وما استطعتُ إضافته في عين المكان موسِّعاً آفاق تحرُّكي المريح وصولاً لانجاز ما عزمتُ النيّة على انجازه مهما اعترضت تقدمي من عثرات ، قاطعاً المراحل بسرعةٍ لضيق تاريخ الفترة المنتهية بالشهادة فالرحيل عن هذه الدنيا ، أو تمكين الرئيس الهواري بومدين من فرصة تغيير موقفه من المغرب ، علما أن خوض مثل المعارك داخل الجزائر لا يسلم من مخاطر الفشل فتحمُّل أبشع أنواع العقاب المصحوب بالانتقام الأعمى المنعدم الشفقة أو الرحمة  ، لكن التأنِّي المُحكم الارتباط بذكاء التنقُّل بين الوقت المناسب والمكان الأنسب ، يؤهل الاستمرار تحت نفس الغطاء ، لدرجة الشعور بالارتياح ، مع التغلُّب على الغرور "هدية الطبيعة لذوي النفوس الضعيفة" كما وصفته الأديبة الفرنسية "جورج ساند" ، و التمكن من قناعة لا تقل أهمية ، أن الذكي من يقر بوجود من هو اذكي منه بكثير ، خاصة وجهاز المخابرات التابع لأوامر الهواري بومدين يتوفر على عناصر قوية التدريب  مزودة بآخر الآليات التقنية ابتكاراً الحاسبة على الهدف المشكوك فيه حتى الأنفاس ، أما العملاء الخارجين من دائرة الضوء ، فمصيبة أخرى تحتاج لجهدٍ استثنائي لتفادي شرورها الجزئية كالكلية .

 

... بعد مسلسل "الشيطان" واللقاء الصدفة الذي تمَّ بيني والرئيس الهواري بومدين ، أصبحتُ جذ معروف بين شرائح عدة من المجتمع في العاصمة ووهران وغيرهما من المدن الكبرى ، من تلك الشرائح  نخب ميادين شاغلة وظائف مهمة في الدولة ، والمنضوية بعضها تحت لواء جمعيات ، أكانت ثقافية التوجه  فنية الميول ، أو سياسية تحاول الإقلاع بمنظور مؤيد للنظام ، باستثناء أقلية معارضة بقيت وفية لأحمد بنبلة الموضوع في اقامة جبرية منعزلا عن العالم بأمر شخصي من صديق دربه الهواري بومدين .

 

 ذات صباح اتصل بي أحد مساعدي المدير العام للإذاعة والتلفزة الجزائرية  طالبا مني مرافقته للوقوف على أمر يخصني ، لبيت الأمر بكل سرور وتبعته لغاية مكتب أدخله لأول مرة يمثل محور تلك المؤسسة بواسطة مدير متمتع بصلاحيات تنفيذية مرتبطة بكل الاختصاصات الإعلامية الملونة بإرادة رئيس دولة ، يريد بواسطتها أن يكون الكل في الكل 24 ساعة على 24 ساعة ، وما يتطلبه الفاعل من مجتهدين ومبتكرين وأصحاب أفكار تبسط المطلوب بما يقرّب لعقول المواطنين ، بما يُذاع صوتاً أو يُرى صورةً ما يبذله الرئيس من مجهود لخلق دولة معاصرة قوية تليق بجزائر القرن العشرين الذائعة الصيت لدى المحافل الثورية عبر العالم ، ذات الكلمة المسموعة وبخاصة في دول عدم الانحياز والعديد من الأقطار الأسيوية وبعض الدول العربية ، بتحفظ يخفي ما يقلل من عدم اهتمام بالأخيرة لأسباب سأتطرق إليها لاحقا . رحَّب بي السيد المدير بكلمة مدح جعلتني أتأكد أن مسلسل "الشيطان" أدى أعظم دور خدمة للشخصية التي أصبحتُ مميَّزاً بمكانتها في عالم الكتابة الهادفة للتأثير الإيجابي على المجال السياسي صلب تدبير الشأن العام في بلد حديثة العهد بالاستقلال ، طبعاً السيد المدير لم يقتصر على إبداء رأيه في عملي السريع التقدم لما أحظى به من تقدير مُشرِّف ، بل نقل لي رغبة الرئيس الهواري بومدين أن أتولَّى إنتاج برامج تهدف شرح مضامين الثورات الثلاث المصاحبة انبعاث نظام جديد ، ينقل جزائر الحاضر إلى جزائر المستقبل ، بواسطة شجرة تدبير متكامل التنظير والتطبيق ، بفروع ثلاثة : الثورة الثقافية ، والثورة الصناعية ، والثورة الفلاحية ، وقد كُلّف أن يزودني بكل الدراسات المعمولة من طرف خبراء ، كل في مجال تخصُّصه وأيضاً ملاحق  تفصيلية مع وثائق أخرى تكميلية ، المطلوب مني قراءة كل مضامين مثل الملف الضخم الذي وضعه بين يداي للخروج منه بمشاريع برامج تذاع صوتا وصورة وفق ترتيبات زمنية سنحددها فيما بعد ، المهم أمامي أسبوعا واحدا لا غير ابتداء من الآن كي نلتقي في اجتماع خاص للاطلاع على نتاج اجتهادي في الموضوع ، وأخيرا أبلغني بوضع الإدارة كل احتياجاتي المادية وغيرها تصلني أولا بأول ، وإن احتجتُ لإضافات أخرى ما عليَّ إلاَّ الاتصال به  شخصياً ، مماَّ يجعل إقامتي مريحة وتنقلاتي مهما كانت الوِجهة فورية ، وقبل أن يودّعني بأدب جم ،  التمس مني أن أبقِي الموضوع برمته في طي الكتمان وشروط السرية المُطلقة.

 

اخترتُ منتجع "لامدراغ" لأسباب أربعة منها : نقل إقامتي بعيداً عن صخب العاصمة ، والتخلص من عيون جاحظة لا يود أصحابها مفارقة أماكن أتردد عليها للتمويه لا غير ، وخاصة تلك المقهى الغريبة بروادها المعارضين لنظم بلدانهم ، أعلبهم من تونس وأقلهم من المغرب ، وخليط من الليبيين والسوريين ، المثير للانتباه تلك الحماية البالغة في حقهم ومنها توفرهم على وثائق تبيح لهم الاستقرار في العاصمة كضيوف يتوصلون بإعانات مادية وليسوا كلاجئين سياسيين ، لم يكن يهمنى الأمر أكثر من البحث عن خيط يمهد طريقي لغاية التيقن إن كان لأي من هؤلاء صلة بما يروج عن اختيار السلطات الجزائرية ذوي الحالات المُشابهة لتكليفهم بمهام زرع القلاقل على الجانب المقابل من شريط الحدود بين المغرب والجزائر في نقط معينة تطل على "وجدة" و"السْعِيدِيَة" و"بني دْرَارْ" و"بُوعَرْفَةْ" و"تَنْدْرَارَةْ" و"فِجِيجْ"، إلى أن عثرت على فتاة مغربية من مدينة الدار البيضاء قذفت بها موجة الغضب عن حالة أسرتها الاجتماعية ، لضفة  جزائرية حسبتها طوق نجاة ، فإذا بها  واقعاً أسود أعادها للغرق في يم كادت تفقد وسطه أغلى ما تملك ، لولا إرادتها التي نبَّهتها لمغربيتها التي لا ترضى بالذلّ ولو نقلها لما حلمت أن تكون سيدة مجتمع مستقرة في بيت مشيَّد على الحلال بالحلال ، تلك الفتاة التي استعادت ثقتها في نفسها وحدثتني بأمر فتح ذهني على بدايةٍ المفروض أن تتحوَّل من الغد الموالي إلى جَمْعِ أحجار من العيار الثقيل لتشييد سد يمنع ما ذهبت زمرة الهواري بومدين لتفجير قنوات ماء حار  لم يفطن هؤلاء ورئيسهم أن الضَّرر سيعمّ على الشعب الجزائري بصنيعهم ذاك  قبل سواه . ثمة من اتصل بها قصد إقناع ما أمكن من المغاربة للمشاركة في نشاط عالمي ضخم تشرف علية وزارة العمل الجزائرية ، وأعطاها عنوان قسم كائن في مقر الإذاعة والتلفزة الجزائرية ، لتتصل به هناك ، متى أنهت المهمة ، ولها مكافأة ستسعدها حقاً ، بالتأكيد تعرفت على داك المسؤول وأيضا اختصاص القسم المعني ، تمنيتُ لها النجاح في مهمتها وذهبتُ رافضاً صُحبتها لموانع اقتنعت بها حقاً .

 

السبب الثاني ، الذي جعلني أختار "لامدراغ" ، عائد لميناء صيد لا بأس به قد يسهِّل اللجوء للانسحاب بواسطة قارب من قواربه وفق خطة مسبقة التحضير ، عزمتُ على وضعها (لفائدة تنوُّع بدائل للنجاة جاعلاً كل الاحتمالات واردة) متى توفرت لي معلومات يملك جلها بحارة الميناء ذاته وبعض من رواده .

 

السبب الثالث ، وجود ملهى ليلي يتوافد للسهر فيه نخبة من علية القوم وسادة نظام يعوّضون تعبهم في تنفيذ أوامر الهواري بومدين ، بالترويح عن  أنفسهم بكيفية تنتهي بفقدان عقولهم فلا يميزون إن كان حديثهم خارق لحاجز السرية ، أم مظهر من التعبير على مستوى عملهم الوظيفي للاستفادة من المعاملات الخاصة التي لا تحتاج لشرح كي تُفهم .

 

السبب الرابع ، لأُقنع مدير الإذاعة والتلفزة أنني منهمك (في عزلة تامة ) على استنباط أفكار صالحة تتمحور حولها برامج توعية ، شديدة القدرة على إقناع المواطنين بأن المستقبل ما يفكر فيه نيابة عنهم ، الزعيم الأوحد والقائد الملهم والحكيم النابغة الهواري بومدين .

 

... أصبح قرار الاستمرار لا يحتمل التأخير تمشّياً مع تصاعد الاستعدادات المضادة المسخر لها كل الإمكانات المالية والموضوع لإنجاحها أكفأ العناصر التقنية وأكثرهم قابلية لتسريع ما يتصورونه نتائج تبهر العالم بما تقدمه من افتراءات على شكل مُشوق تعكسه وجوه حسناوات ، و يتخلله تمويج ألحان من الروعة بمكان ، في قالب من خشب تعاون في إعداد تصميمه أكثر من مهندس ديكور ، المزخرف بأطياف تخطف البصر ، وما يزيد على ذلك من تنوع خارق للمعتاد ، يُبعد المتفرجين عن الشعور بالملل ، إذ من الصعب مخاطبة عقول العقلاء ، بواسطة أباطيل تتواثب داخل بستان مصطنع ، أزهاره من أوراق ملونة ، وخلفياته طاقات بشرية لا يهمها من لب الموضوع برمّته ، إلا التعويضات الزائدة عن حدِّها بوعود إضافية ترفعهم لتحقيق ما سعوا لتحقيق ولو ربعه منذ استقلال الجزائر إلى تلك اللحظة وسلطة بلدهم تمسح بهم أرضية ما تعلَّموه عن اجتهاد لتصريفه في مكانه المُجمَّل بهيبة الحق، بخِرَقٍ مُغَمَّسة في القَار ليعم السواد المتصاعدة منه رائحة تديم لمن استنشقها ، عاهة الندم وألم الضمير طول العمر .

 

... خلال جولة بين قاعات التدريب والتسجيل شدت أذني نغمة أغنية مغربية لي معها قصة وموقف ، قادني الصدى لمواجهة مفاجأة ، لم انتبه حتى وجدتُ نفسي غير قادر على الانسحاب إذ لمحتني المغنية المؤدية اللحن التي نسيت نفسها ومَن يعزفون وراءها  فاتجهت مسرعة لتعانقني بلهفة وتوشوش في أذني : "انأ هنا اسمي جليلة حافظ ".(يتبع)

 

مصطفى منيغ

سفير السلام العالمي

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.