اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

النهر مسؤولية الفرعون وجنوده ومازال// عادل نعمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

عادل نعمان

 

عرض صفحة الكاتب 

النهر مسؤولية الفرعون وجنوده ومازال

عادل نعمان

كاتب واعلامي من مصر

 

 إذا انخفض منسوب النهر، فليهرع كل جنود الفرعون، ولا يعودوا إلا بعد تحرير النهر مما يقيد جريانه، الفرعون متأهب وجنوده دوما)، هذا عهد وميثاق منذ الآف السنين، معلق على مقياس النيل، كتاب مقدس عقيدة كل الفراعين، حماية النهر وتحريره ملزمة وواجبة على كل الحكام، من قرأها منهم ومن لم يقرأها، ويظل شريان الحياة هادرا لا يتوقف، فما تولى أمر مصر حاكم إلا وقد عرف وأدرك أن مهمته الأولى هى حماية هذا النهر مما يقيد جريانه، حتى لو خرج هو وجنوده لمحاربة الطبيعة والجبال والأحجار والشياطين لفك أسره وقيوده، يسقط الحاكم إذا توقف النهر عن الجريان، وينجح الحاكم إذا أجرى النهر مهما دفع من أثمان، ولأن النهر سر الحياة والبقاء والنماء، وغيابه هو الموت والدمار والفناء، فإن الفرعون وجنوده موقوفون عند شاطئيه بطوله، لا يعودون إلا إذا عاد الماء، فإن عاد عادوا، هذا قدره وقدر جنوده، ولا فكاك منه، فإما الفرعون وجنوده وإما الماء، هكذا كانت مهمة الفرعون والجيش ومازالت قائمة حتى نهاية الحياة.

 

سيدى.. هيرودوت «مصر هبة النيل».. نعم، لولا هذا النهر ما كان الأمس وما جاءنا الغد، وما كان الحرث وما كان النسل، وما كان الجد أو الأب أو الابن، يشق نهر الأنهار طريقه من الجنوب إلى الشمال من ملايين السنين ولا يموت، جاءته الحياة تتهادى على مهل، وتوطنت شاطئيه أرواح ونباتات وجمادات فى سلام وأمان ودعة، إذا شح النهر وبخل هبط المصرى درجات ليحيا بجواره يلامسه ويداعبه فيصيبه بعض من فضله واليسير من إحسانه، وإذا فاض صعد المصرى درجات فلا يلاحقه مكروه كرمه ومعروفه، وينجو من أذى بره وإنعامه. المصرى القديم فى هبوطه وصعوده متصالح مع النهر، راض بما قسمه له من رزق، إن قل وإن كثر، لا يخاصمه ولا يخرج عن طوعه وطاعته، بين أحضانه وضلوعه يتمدد، إن ثار وإن سكن، وإن غضب أو رضى، وارتاح واطمأن إلى غضبه وفزعه، كما اطمأن إلى دعته وهدوئه، معه يأتى الخير والنماء، حبيبنا هكذا منذ ملايين السنين.

 

الحكومات المركزية والدولة المصرية من ملايين السنين لم تُنشأ إلا لتنظيم هذا الصعود وهذا الهبوط الشعبى حول النهر، وإفشاء السلام بين الشعب والنهر، والرضا بالمقسوم إن جف وإن فاض وأغرق، وإقرار مبدأ التصالح بينهما، يحبونه ولا يعترضون عليه، بل يعوضونه بالجميلات حتى يرضى ويهدأ ويسكن، مصر حكومة كانت مهمتها الأولى تنظيم هذا النهر وتطهيره إن حمل نفايات العالم، وإفساح وشق الطرق والقنوات ليسير فى هدوء حتى تتهادى الموجات فى سكون إلى نهايته ومثواه، تحمل بين طياتها ركب الإله «خنوم» رب الماء، صاعدا من الجنوب، يوزع الخير على من يعيش على ضفاف النهر، ويحمل ركب الإله «حابى» رب الحياة وإله الخصوبة، هابطا من الشمال، يوزع الأولاد والبنات والبشر والأشجار على ضفتيه، ويربت على الأمواج أن تسير بهدوء عند الفيضان إذا ما فاض وهاج، الفلاح المصرى القديم والجديد لا يفرح ولا يزوج أولاده إلا إذا فاض النهر وكشر عن أنيابه أو ابتسم، وتناسلت النساء وكثر الأولاد والبنات، هكذا كانت مهمة الحكومات المركزية، الحفاظ على خصوبة النهر وخصوبة النساء.

 

الشعب المصرى رحلته مع ترويض النهر لا تنتهى، تارة يستميله ويعبده، وتارة يستهويه ويقدس تماسيحه وأفراس نهره خوفا، وطمعا فى النجاة من لحظات الغضب والفوران، تارة بتوحيد النهر شماله مع جنوبه، وأخرى يداعب شبقه ببنات فاتنات جميلات يقذفهن إلى عمق النهر للزواج منه وإرضائه وإشباع رغباته، وأخرى يلاعبه بأساطير من الخيال كمن يداعب طفلا شقيا بحكاية قبل النوم حتى يهدأ ويستكين، فينسى النهر عنفوانه ويهدأ، فهذا («أوزوريس» المقتول على يد شقيقه «ست» بسبب الغيرة القاتلة، وتقطيع جسده أربعين قطعة وإلقاؤها فى النهر، جاءته زوجته «إيزيس» ولملمت رفاته وأعضاءه وأعادت له الحياة، وضاجعته وحملت منه «حورس» الذى قتل عمه وانتقم منه). مداعبات المصرى القديم لهذا النهر واحتضانه وحكاياته وأساطيره وملاعباته وملاطفاته وترويضه- هدأت من روعه وعنفوانه، أذعن وتواضع واستكان أكثر مما ثار وهاج، وركن إليها غير كل الأنهار، واستقر مكانه ولم يتغير مساره ثلاثين مليون عام، يسير على خطى هذه الأساطير وهذا الحب الدافئ والجميلات الفاتنات، لا يخرج ولا يموت حتى إذا شح الماء، لا يغيب عن أحبابه.

 

هذا هو النهر الخالد من ملايين السنين لا يفارقنا، ولن نفارقه، هو أو خيره أو شره، سنظل على شاطئيه نحيا ونموت، وماؤه يتهادى فى رفق من شماله إلى جنوبه، يملأ الوادى جمالا، وستظل مواكب «خنوم» و«حابى» فى صعودهما وهبوطهما يوزعان ويقسمان الخير والنسل حتى نهاية الكون، ويظل الفرعون وجيشه يهرعون ولا يعودون إلا إذا حرروه مما يقيد جريانه، طبيعة كانت أو جمادا أو بشرا، وشعب يداعبه بحبه وعشقه وأساطيره ونفاياته أكثر، يعيش بينهما الود حتى لو أهمله، وليس كما أحبه وقدسه أجداده.

"المصري اليوم" القاهرية

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.