اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الثامن)- زورق (آل إزيرج )!// محمود حمد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الثامن)

زورق (آل إزيرج )!

محمود حمد

 

منذ الصباح الباكر حَزَم "عروة" فِراشه وحقيبة ملابسه الجلدية العتيقة، وحشر نفسه مع عدد من القرويين ونسائهم وأطفالهم في الحافلة الخشبي المتجه إلى حافة (نهر الميمونة).

 

عند الشريعة المُزدحمة بالقادمين من (مدن البطائح) بِصَيْدِهِم من الأسماك والطيور...يرسو زورق تجلس فيه امرأة عجوز وفتاة لم تبلغ العشرين من العمر بعد، ذات ملامح سومرية مُتحفزة، عيونها الاستقصائية الكحيلة الذكية ترصد المدى، شفاهها اللّمْياء المُكتَنِزَة أُنوثة تتدفق شغفاً!

 

سألَ "عروة" الكهلَ الجالس خلف محرك الزورق الخشبي عن مقصده...أجابه بودٍ:

الطُوَّيِّل.. (ناحية الطُوَّيِّل) ...أستاذ!

 

لم يتذكر إن هذا الاسم قد مَرَّ عليه عندما سأل في مكاتب مديرية التربية عن عنوان المدرسة التي تم تعيينه فيها...لأن موظف الذاتية المُتغطرس أظهر له بُغْضاً مُختزناً في نفسه ، كأنه يُضمره له منذ زمن طويلٍ وكان بانتظاره لتسديده نحوه...نَبَشَ ذاكرة الطفولة وسنوات صباه ومراهقته...لم يتذكر أنه التقى هذا الموظف أو سَمِعَ باسمه، غير أن اللوحة الخشبية الموضوعة على الطاولة كتب عليها بخط بدائي اسم الموظف، ويشير إلى أن ذلك الموظف البغيض يحمل نفس اسم قبيلته...أيقظه من حيرته معلم عجوز كان ينتظر في ممر مبنى المديرية يتابع إجراءات تقاعده...متمتماً:

هذا مخلوقٌ يكره كل الناس...يستمتع بإيذائهم!

 

لم يسعفه الوقت لسؤال ذلك المعلم المتقاعد عن عنوان (مدرسة أم جومه) وكيف الوصول إليها حيث نودي على ذلك المعلم لمكتب (الموظف المُبْغِضْ) ...اقترب منه فراش يقف في باب ذلك الموظف... أوضح له:

أنا أسمع أن الطريق إلى تلك المدرسة يبدأ من (قضاء الميمونة) ...

اذهب إلى هناك واسأل أصحاب الزوارق!

تَصَفَّحَ حُزمة الأوراق التي يحملها في كيس ورقي سميك...مستعرضاً الوثائق التي صدرت له خلال شهر واحد:

شهادة التخرج بامتياز...الترشيح لبعثة دراسية إلى رومانيا كونه الأول في دفعته...قرار وزارة التربية بحرمانه من البعثة بأمر من مديرية الأمن العامة...أمر إداري للتعيين في التلفزيون التربوي بالعاصمة...أمر وزاري يلغي الأمر الإداري السابق ويفرض تعيينه في مسقط رأسه...كتاب مختصر بتنسيبه إلى مدرسة لا يعرف الطريق إليها حتى موظفو مديرية التربية!

فهم من سائق الزورق أنها في أعماق البطائح (الأهوار) التي تتوسط المسافة بين ثلاث محافظات جنوبية.

 

كانت تلك البقعة من الأرض قبل التاريخ (فجر الحضارة الإنسانية، وموئلاً للسومريين مبدعي الحرف الأول الذي تَعَلَّمَهُ الإنسان) ... يعتقد بعض المؤرخين أنها الموقع الذي يطلق عليه اسم (جَنَّةُ عَدنٍ) في الكتب المقدسة!

 

وضع أمتعته في حوض الزورق إلى جانب بضاعة بَقّال يقصد إحدى (قرى المياه)...ازدحم الزورق حتى صار رذاذ الموج يخفق عند حافته التي يجلسون عندها ويُبَلِّلَهُم...احتفوا به بلهجتهم المفعمة بالود والتواضع ، مستدركين بذكائهم الفطري أنه معلم جديد قادم لتعليم أبنائهم ، أفسحوا له مكاناً وسط الزورق ، بعد أن تَخَلّى شابٌ لفحت الشمس بشرته حتى صار تمثالاً برونزياً ذو عينين قادحتين لم تكفا عن ترقب قادم من بعيد... كان الشاب قد أبلغ سائق الزورق أن ينتظر قليلاً...بعد دقائق وصل رجلٌ عجوزٌ يسير بصعوبة وبطئ ، قفز إليه الشاب من سطح الزورق إلى حافة النهر واحتضنه حاملاٍ إياه إلى داخل الزورق... تَنَحى الجالسون عن مكانهم له، صار مجلسه إلى جوار "عروة" إزاء الفتاة السومرية...بدى عليه أنه نصف كفيف...لم ينقطع عن التحديق بوجه جاره الغريب "عروة" القادم من المدينة بهيئة أقرب ما تكون للمهرج وهو بقميصه الأحمر وبنطاله الجينز وشعره المسترسل على كتفيه وحزمة الورق التي تأبطها...طلب العجوز من الرجل الذي يجلس إلى جوار الفتاة السومرية بصوت آمرٍ مؤَنِبٍ تبدد في اصطخاب صوت محرك الزورق:

تعال هنا واترك المكان للأستاذ حتى يجلس إلى جوار عائلته!

 

تململ الصبي مساعد قائد الزورق في مكانه... ثم انحنى ليشاور الرجل العجوز...فما كان منه إلاّ أن كرر الاستغفار بالله ثلاثاً!

مضى الزورق في رحلته...

أناس ينزلون في نقاط لا يسكنها غير الطير، وآخرون يصعدون من حافات منبسطة للنهر كمداخل لفضاءات الأراضي المنخفضة المديدة الأفق...

 

بعد أكثر من ثلاث ساعات توقف الزورق عند مرفأ(شريعة) ينتصب عنده ثلاثة دكاكين، وبعض بنايات تلتهمها الرطوبة، إلى جانب قطيع من أكواخ القصب والبردي...بدأ الركاب ينزلون دون أن يتحرك هو من مكانه...لجهله بالمكان الذي وصلوا إليه... التفت إليه سائق الزورق قائلاً:

أستاذ وصلنا (الطُوَّيِّل)...

ثم استدرك:

لا تنزل...

سأوصلك إلى (شريعة) زورق (الخُمِسْ)!

 

توقف الزورق عند حافة النهر الزلقة إلى جوار زورق متآكل البدن تكسو الطحالب ألْواحَهُ الخشبية... كأنه مهجور منذ زمن بعيد... نهض سائق الزورق الذي أوصله ليساعده على نقل سريره الحديدي، وفراشه المربوط بعناية إلى ذلك الزورق المعلول... مُطَمئِناً إياه:

سيأتي الركاب بعد الظهر...

إن شاء الله تتحركون قبل المغرب...

لأن الركاب إلى (منطقة الخُمِسْ) قليلون!

 

أوشكت الشمس على الغروب، لم يأت أحد من الركاب، اعتذر له صاحب الزورق عن الرحلة...واقترح عليه أن يذهب بـ(المشحوف)...لكنه أخبره بإن هذا سيستغرق الليل بطوله...أو عليه أن ينتظر للغد صباحاً... سأله عن مكان يمكن أن يبيت فيه إلى الغد، أجابه سائق الزورق بتلقائية وثقة:

مع المعلمين في (مدرسة الطُوَيِّل)!

 

في تلك الآونة مَرَّ زورق مسرع نحو الجنوب يستقله رجلان يجلسان في وسطه، وآخران يتربعان فوق سطحه، نهض جميع من على الشاطئ فجأة رافعين أيديهم بالتحية وإشارات الإجلال...رفع "عروة" يده بحركة آلية مع الآخرين!

 

بعد مسافة ما يزيد عن مئة متر استدار الزورق وعاد إليهم، فهَبَّ الجميع صوبه، نزل منه رجل كهل أشيَّبٌ وهو يَفُكُّ (يشماغه) الأزرق الداكن مُفصحاً عن وجهه...مد يده إليه مصافحاً، وسأله عن مقصده فأخبره عنه...

 

أشار (السيد) على الفور إلى الواقفين بلغة أبوية آمرة:

ضعوا أمتعة الأستاذ في الزورق!

انضم إليهم...

عَرَّفَ الكهل الأشيب بنفسه (السيد عباس)، وقدم كبيرهم إليه (الحاج حسن الإزيرجاوي) الذي كان محط احترام واهتمام الجميع...جلس إزاءهم برهة بصمت...بادره (الحاج حسن) بالسؤال عن (نَسَبِهِ وقبيلته!) ...ترددت في صدره ضحكة ساخرة من نفسه...هو الذي طالما استهجن نمط الحياة القبلية وعلاقاتها (المتخلفة!) ...لم يتذكر سوى اللقب الذي وضِعَ عنوةٌ في وثائقه...أشرق وجه الحاج بالترحاب حالما ذكر اسم قبيلته...قائلاً له:

أنتم أخوالنا!

 

لم يفهم المغزى القبلي لما قاله (الحاج حسن) ... لكنه اطمأن إلى أنه ذاهب صوب مجتمع ليس غريب عنه... أسهب (الحاج حسن) في الحديث عن مناقب عشيرته التي تقع المدرسة بين (أسلافهم)... دون أن يغفل الإشارة بين حديث وآخر لاعتزازه بقبيلته (إخوة باشا) والتعريف بتاريخهم وامتدادهم الى (قبيلة حِمْيَّرْ) وأصولهم الى لواء المنتفك، وعلاقاتهم الطيبة مع جميع قبائل (البطائح) وقبائل (السهل الرسوبي) المجاور للبطائح.

 

لَفَت انتباهه ذكر اسم رجل مُهابٌ لطالما التقاه في طفولته كونه جَدِّ أحد زملائه في المدرسة الابتدائية... سأل "عروة" بشوق (الحاج حسن) عما آل اليه صديقه طفولته الصموت (بلاسم الإزيرجاوي)، اعتدل (الحاج حسن) في جلسته، كأنما يريد أن يحتضنه بأبوية...عرف فيما بعد أنها واحدة من بين خصال حميدة كثيرة يتمتع بها (الحاج حسن)!

 

التفت (الحاج حسن) مبتسماً إلى (السيد عباس) بنظرة ذات مغزى معلوم بينهما!

قال (السيد عباس):

يا أستاذ.... إن شاء الله تستقر كم يوم... وستجد نفسك بين أهلك!

 

كان الزورق ينطلق بسرعة فائقة وسط الظلمة الحالكة في النهر الملتوي المحاط ببرك مائية زرقاء داكنة تتراقص فيها النجوم مع خفق الريح على صفحة الماء...تتسع البرك كلما توغلوا جنوباً باتجاه (هور الحَمّار) ... على امتداد الشاطئ يقف الرجال والنساء والأطفال يُلَوِّحون بأيديهم بالتحية والدعاء لـ(الحاج حسن)، كلما مر الزورق عليهم، كأنهم على موعد مع مروره!

 

في حلك الليل توقف الزورق عند (شريعة) مُحكَمَةٍ بالأعمدة والقصب والبردي ترتبط بمدخل (مضيف) كبير ذو ثلاثة أجنحة من القصب المقرنص، كشخص هائلٍ باسطاً ذراعيه على ضفاف المسطح المائي الهادئ يرحب بالقادمين...هرع عدد من الرجال بالفوانيس لاستقبال (الحاج حسن) ومن معه...أنزلوا الأمتعة من الزورق، وضع (الحاج حسن) يده على كتف "عروة" بود قائلاً له:

ستستريح الليلة عندنا...

وإن شئت فراقنا غداً..

سنوصلك إلى المدرسة!

 

لم يمكث (الحاج حسن) معهم كثيراً حيث كان عائداً من العلاج في المدينة...امتدت السهرة حتى الفجر بينه والـ (السيد عباس) وبعض شباب العشيرة، تخللتها حكايات واستذكار لأهازيج يفخرون بها، ومنها تلك الأهزوجة التي رددها آباؤهم في منطقتي (الهدّام) و(أم كعيدة) عشية انتفاضة فلاحي آل إزيرج عام 1952 اعتزازاً بأحد رموزهم المرحوم (الحاج مؤنس آل رضيوي) بعد مقابلته وزير الزراعة (عبد الجبار الجلبي):

منك يا أبو فاخر (الحاج مؤنس) خوش اجتنا علوم

قابلت الوزارة وعالملك مندوم

الإقطاعي سمع وابيته ظل يلوم

أصبح يتريك بالذل وأمه تلوم عليه!

 

طيلة الجلسة لم يكف (خِصّاف) ذو العشرين ربيعاً من التعليق على ما يقوله الشباب من أمثاله دون أن ينطق كلمة واحدة حينما يتحدث كبار السن...لكنهم يستعينون به لتنشيط ذاكرتهم عندما ينبشون حقول تلك الذاكرة...توقف أحدهم محدقاً إليه لإعانته على روايته التي كان ضحية فيها، سأله الفتى:

تقصد حكاية الغَدْرِ بكم يا أبتي؟

ثم التفت إلى "عروة" محدثاً إياه عن:

كيف دَبَّرَ الضابط العراقي اليهودي (عزرا وردة)، معاون مدير شرطة (لواء العمارة)، مكيدة لزعماء (آل إزيرج) أثناء الانتفاضة الفلاحية بـ(الهَدّام) و(أم كعيدة) بحجةِ أنه يريد مجموعة من الفلاحين كممثلين عن إخوانهم للتفاوض مع الحكومة...لكنه سرعان ما قام باعتقالهم وزَجهم في السجنِ لثمان سنوات، ولم يطلق سراحهم الا عند قيام ثورة تموز 1958!

 

خَيَّمَ جَوٌ من الانكشاف السياسي في أحاديث الساهرين من الآباء والأبناء، عندما وجدوا أن ضيفهم يحمل حكايات تؤجج مكامن ذاكرتهم وتثير إحباطات حاضرهم!

بعد أن تناولوا فطورهم من لحم وبيض الطير الطازج... أصَرَّ (خِصّاف)على أن يتولى إيصال "عروة" إلى المدرسة دون غيره.

 

في طريق الرحلة راح (خصاف) يحدثه عن زفاف (ابنة الحاج حسن) على (بلاسم الازيرجاوي) الذي يعيش معها في العاصمة...ولم ينقطع حديث (خِصّاف) عن رغبته الجامحة في السفر إلى المدينة لإكمال دراسته الثانوية... وحتى الجامعة!

قالها (خِصّاف) مقهقهاً ساخراً من أحلامه!

لاحت المدرسة من بعيد... كصف متلازم من صرائف القصب الجديدة اللامعة تحت أشعة الشمس... عائمة كشبه جزيرة صغيرة عند خاصرة عشرات الأكواخ المتناثرة وسط مساحة الماء الزرقاء الشاسعة الممتدة للأفق الأخضر الداكن... تتراقص حَولها عشرات المشاحيف على إيقاع الموج...وأسراب البَطِّ الملونة تخفق بأجنحتها متطايرة على جبهة الماء... وتعوم على مقربة منها قطعان الجاموس بأجسامها السوداء الزيتية الفخمة!

 

مع اقتراب (مشحوفهم) من حافات (شريعة) المدرسة خرج المعلمون وتلاميذهم محتشدين على حافة الجزرة (الجبيشه) المؤطرة بنضيد القصب المعقود التي تعوم فوقها المدرسة!

احتواه حشد الطلاب والطالبات الصغار والمعلمين بترحاب غامرٍ، ووَدَّعه (خِصّاف)!

 

أحاط به المعلمون في كوخ سكنهم الذي مازالت رائحة القصب والبردي المحصود حديثاً تفوح منه، وتملأ أرجائه...فوجئ بصديق طفولته (ماهر الطويل) معلماً في المدرسة... صرفوا الطلاب ذلك اليوم مُبكراً احتفاء به... وتولى (الأستاذ روضان) القائم بأعمال مدير المدرسة مهمته اليومية إعداد الغداء لهم... فوجد نفسه في محيط يألفه وكأنه عايشه منذ زمن طويل!

 

جلس إلى جواره (المعلم لطفي) المعلم الفتي الخجول الذي كان زملاؤه يحثونه على إظهار (موهبته!) ...وهو يمتنع بحياء...لكن معلم الرياضة ذو الملامح الأفريقية دفعه جانباً ممازحاً إياه وأخرج ناياً من قصب الخيزران من تحت سريرة الحديدي النحيل، هرع المعلم الخجول إليه خشية على (آلته المقدسة!) ... أمسك بها وراح يبعث أنغاماً تخرج من قرارة روحه...

 

أينعت ألحان الناي في يباب نفوسهم براعم من البهجة...كادوا ينسون الموقد الذي يتأجج تحت قِدرهم ويمتد شواظه إلى مقربة من قوصرة الكوخ اليابسة!

 

بعد أن أوشك الحاضرون على التماهي حد الثمالة مع أنغام الناي...أيقظهم (عازف الناي) من غيبوبة المتعة التي سَرَتْ في عروقهم بصمته...ملتفتاً إلى "عروة" عندما عرف أنه سابح معه في ذات المحيط الذوقي الذي يُخرج الإنسان من توحشه...متحدثاً له عن:

قصب الناي الذي يأتي به من قريته في الطرف الآخر من (هور الحويزة) ...ينتقيه له أبوه صائغ الفضة (الشيخ مهَتَّم المندائي) الذي يهوى هو الآخر العزف وصناعة الناي!

 

وقف (عازف الناي) وسط الكوخ حاملاً آلته الموسيقية كالممسك بإناء كريستال رقيق...يُلقي عليهم (درساً!) في تاريخ الموسيقى...ليُضفي على جمال عَزْفِهِ، ورِقَّةَ روحه وَهجاً معرفياً يعكس شغفه بتلك الآلة:

(الناي...صوت القصب وأبجديته التي تخاطب الروح...لا المسامع فحسب...أول من اخترعه واستخدمه أجدادنا السومريون في مدينة "أُور"، ومنهم ارتحل إلى الأقوام الأخرى...بعد آلاف السنين...حَطَّ ربيعاً على ضفاف "شرائع التَصَوِّفِ"، فصار نديماً للصوفيين بفضل الشاعر الكبير مولانا "جلال الدين الرومي")!

قاطعه (المعلم روضان) الشاعر الشعبي طالباً منه المساعدة في بسط المائدة على الأرض حال استلامهم أرغفة الخبز الحار من طفلة عند باب الكوخ...قائلة:

أستاذ بعد قليل سنأتي باللبن!

 

على حصير القصب اللامع أحاطوا بـ(ثريد مرق الطيور) الذي أعَدَّهُ (المعلم روضان) ...كأنهم في فسحة للتعارف فيما بينهم لأول مرة...جميعهم تواتروا على المدرسة خلال أشهر... لم يتح الوقت المتسارع عليهم تبديد وَجَلِ الغربة عن نفوسهم وفتح شرفات أرواحهم الفتية بعضهم لبعض!

 

كانوا بانتظار تعيين (مدير) و(فَرّاشٍ) للمدرسة لكنهم يميلون إلى تعيين (المعلم روضان) مديراً للمدرسة لدقته وحماسته في العمل ودماثة اخلاقه، و(محيبس) مغني السَلَفِ (فَرّاشاً) لطرافته وشهامته ونظافته وتطوعه لخدمتهم...كان (محيبس) أول الزائرين له بعد الغداء... أطربه بـ(أبوذِيَّة) من تأليفه...مليء بالألغاز عن المحبوب الغائب الغامض، ومفعم بالشوق والحنين والغزل الحزين...أسفر فيه عن مكنوناته التي فضحها له المعلمون تندراً بقصة عشقه السارية على جميع الألسن كالريق في الحناجر!

 

بعد أن صدر أمر تعيينه فرّاشاً للمدرسة...وجد (محيبس) فيه ملاذاً يلتجئ إليه لفك عزلته، يحكي له عشقه الذي حُرِمَ منه، بسبب نبذ العشيرة له...لأنه (مغني سفيه!!) ...لا يحترف (مهنة الرجال!) يزرع أو يصطاد...بل يعتاش على كدح أُمه في (حقل الرز العنبر) ... يستذكر له بألم عندما طردوه ونبذوه ليلة الإقدام على مكاشفة أُمه لأُمها بقصد خطبتها...يومها انتابته نوبة جنون، ألقى بماكينة الخياطة إلى قاع (بُرْكَة سلَيْمَّة)!

 

تلك الماكنة التي اشتراها ليَمْتَهِنَ الخياطة إرضاءً لمعشوقته (حورية)...وألقى بنفسه وراءها مُكَبَّلاً بها...لكن الشباب انتشلوه وفكوا وثاق يديه ورجليه!

 

في (صريفة) القصب الملاصقة لكوخ نومهم ينهمك (المعلمان ماهر وصالح) كل يوم لتصنيف وتصفيف الكتب المدرسية الجديدة التي وصلت قبل يومين، للبدء بتوزيعها على التلاميذ المحتشدين حول الصريفة يتابعون بفضول طفولي من ثقوب عُقَدِ القصب كيف يرصف المعلمون الكتب اللامعة ذات الصور الزاهية الألوان!

 

فيما كان "عروة" يجلس مع (المعلم روضان) لإعداد الجدول المدرسي بالاستعانة بـ(مدير مدرسة الخُمِسْ) الذي يسبقهم في الخدمة بخمس سنوات...بينما كان (محيبس) منهمكاً مع عدد من التلاميذ بتغليف (فصول القصب والبردي) بحصران القصب الندي اتقاء من برد الشتاء!

بعد أن ينام من ينام منهم يأخذ الساهرون فيهم فانوسهم إلى (صريفة الإدارة) ...

 

(المعلم روضان) يكتب ويمحي ما يكتب... (المعلم صالح) يستهلك علبة سجائر كي يكتب شطر قصيدة، (المعلم لطفي) يوقظ الموتى من قبورهم بأنغام نايه بعد أول كأس (عرق زحلاوي)، (المعلم برّاك) يوشك أن يستكمل كتابة لوحات الصفوف والإدارة بخط النسخ الجميل...(محيبس) ينوح بصمت يجتر أحزانه...و"عروة" مغترب عنهم برسومه التي تقطر مرارة!

 

صار "عروة" يُدرك يوما بعد يوم أن جميع من معه في هذه البقعة النائية...ما كان لهم أن يكونوا هنا...لولا نبذ أهل السلطة لهم بقدر بغضهم للسلطة!

 

انهمر المطر والصقيع بغزارة لم يشهدها من قبل...تَجَلَّدَ سطح البُرَكِ التي تفصل المدرسة عن الأكواخ المتناثرة لعوائل التلاميذ...كان التلاميذ يصلون المدرسة مرتعدين من شدة البرد شبه عراة...إلا من دشاديشهم التي تقطر ماء شديد البرودة!

 

اجتمع المعلمون ذات مساء حول موقد الشاي الساخن، بعد انقضاء (ترانيم الناي) ...خطرت في رأسه (فكرة) عرضها عليهم بعد أيام من تجواله بين المدرسة وأبعد كوخ عنها...متعقباً طرق مرور التلاميذ عبر البُركِ الصغيرة الموحلة:

ما نحتاجه بضعة أعمدة، القصب والبردي تحت أيدينا...لماذا لا نقيم قناطر للتلاميذ على السواقي الصغيرة تحميهم من الخوض بالمياه المتجمدة في رواحهم ومجيئهم إلى المدرسة؟!

 

كانت (الفكرة) حاضرة...كأنهم جميعا كانوا يكتنزونها في عقولهم...قال (الأستاذ روضان):

ما نحتاجه سوى بضعة دنانير نأخذها من رواتبنا في رأس الشهر!

 

قرروا أن يذهب (المعلم روضان) و(محيبس) إلى المدينة مطلع شهر يناير لشراء أعمدة للقناطر...بعد ان وضعوا قائمة بالتكاليف وجدوا أن المبلغ الذي سيجمعونه من رواتبهم، سيزيد عن الحاجة لأنشاء القناطر، وأن المبلغ الفائض يكفي لشراء أقمشة شتوية تُخاط دشاديشاً للفتيات والأولاد...وتعهد (محيبس) بخياطتها بعد أن يوَفِّر له (خاله) ماكينة خياطة (سنجر تجارية)!

 

طلب "عروة" من (السيد عباس) الذي صار يلتقيه في كوخه، مع عدد من الفلاحين كل ليلة جمعة، دعوة (الحاج حسن) لتوجيه أولياء أمور التلاميذ، من اجل توفير القصب والبردي والتراب من حافات المياه، وإنشاء القناطر...كان (خِصّاف) أكثر الحاضرين حماساً لتنفيذ الفكرة، وتوزيع الأدوار فيما بينهم!

 

في نهاية شهر ديسمبر... تسلم المعلمون رواتبهم، ووضعوا مساهماتهم المالية عند (الأستاذ روضان) للبدء بتنفيذ (الفكرة)، وتعهد (السيد عباس) بدعوة أولياء الأمور للشروع بحصاد القصب والبردي، وتمهيد مواقع القناطر في المناطق الحسيرة من المنخفضات المائية...كان التلاميذ والتلميذات مازالوا يعبرون المسطحات المائية الضحلة، حُفاتاً بدشاديشهم الرثة المبللة، يخوضون بالمياه والوحول حتى الحزام، مرتعشين!

 

في ظهيرة اليوم التالي توقف زورق الشرطة المسلح عند (شريعة المدرسة) ...كان (السيد عباس) و(خِصّاف) مكبلَّين في داخله، واقتادوا معهم (الأستاذ روضان) و"عروة" أمام ذهول المعلمين والتلاميذ!

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.