حصيد الترف// للراحل علي محمد الشبيبي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

 

حصيد الترف

للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*

(1913-1997)

الماشر: علي محمد الشبيبي

 

جلس أبو حامد على فراشه. مسنداً ظهره إلى حَشِيةٍ من الريش، وأمامه موقد نار، تومض فيه جمرات غطاها الرماد. كان يسعل كثيراً، فهو مصاب بالربو، وله من العمر خمسة وستون عاماً.

أبو حامد بكر أبيه، الذي كان قد تزوج خمس عشرة زوجة، لم يبق منهن في البيت إلا أم أصغر الأخوة "صفاء". فقد طلق بعضهن، ومات بعض قبل وفاته، وأخريات بعد ذلك. لم يبق من الأخوة الذكور، غير أبي حامد، وصفاء الذي هو من أصغر نساء أبيه، ولم تلد غير صفاء، أصغر الأخوة جميعاً. إنه يساكن أخاه أبا حامد، ويقوم بإدارة شؤون التجارة تحت إشراف أخيه.

أبو حامد رجل كَيِّس. فهو له مكان أبيه، قام بكل ما تتطلبه حياة العائلة. أخوه صفاء يعيش معه كأنه ابن أمه. تعلم منه كيف يدير أمور التجارة. فأبو حامد كان يرفض التعلم في المدارس الحديثة، ويزدري الوظيفة، لأنه لا يريد أن يدخل جهنم! وكثيراً ما يشير في حديثه إلى أن الله جعل البركة في التجارة. وحاولت كثيراً أم صفاء أن تدخل إبنها المدرسة الحديثة، وفعلاً تم لها ذلك. وحين تخرج من المدرسة الابتدائية، أصرّ ابو حامد أن يكتفي صفاء بهذا، ويكون ساعد أخيه في إدارة أمورهم التجارية. قال: أن الخير عندهم كثير، ولكم ما يكفيكم.

صفاء تزوج أبنة رجل متقاعد، وعند هذا انتقل ببيت خاص. كان صهره موظفاً في العهد العثماني. وقد نشأت أبنته على ذوق تركي، وحياة عصرية أنيقة ... ورزق –صفاء- ثلاثة من الأولاد والذكور، وابنة واحدة، كانت كبرى أولاده. فعني بهم على نحو ما يعني الموظفون الميسورون بأولادهم، وقلدهم بأساليب حياتهم وترفهم، خصوصاً بعد ما أصيب أخوه –أبو حامد- بالربو وترك له التصرف التام، وفعلاً كان عند حسن ظن أخيه. وقد ضاعف اهتمامه، بوعي التاجر القدير.

وجلس أبو حامد اليوم والألم يبدو صارخاً في قسمات وجهه. وهو مضافاً إلى ما يعاني من مرض الربو، فأنه عصبي سريع الغضب، يتحرى أمر الهفوات الصغيرة والكبيرة، عن الصغار والكبار. ويعقب بشكل خاص أسلوب حياة زوجة أخيه صفاء. لكن بدون تعقيب في نقد أو أمر أو نهي، وهو لا يرى منها إلا نادراً، فصفاء مستقل في بيته. وأن يكن هو لا يفارق أخاه إلا عندما تستدعي الضرورة. فقد أصبح بيده مقاليد التجارة، ولكنه لا يغفل عن أن يُطلِع أبا حامد ويستشيره في الصغيرة والكبيرة.

اخوة زوج أبي حامد، أيضاً يكثرون التردد على ديوان أبي حامد، ويعرضون استعدادهم لمساعدة صفاء، فيرد أبو حامد: إن صفاء أخ ونعم الأخ، وعند الضرورة لا يترفع أن يستعين بكم.

أحدهم كان كثير الحث لأخوته، أن لا يهملوا متابعة حياة أبي حامد. فهو لا يعاني –الربو وحده- فقد أصيب بتيبس الأعصاب، لملازمته في المدة الأخيرة البيت، وما يدرينا لعل أمراضاً متعددة أصيب بها أيضاً. والعصبية اصل البلاء.

قال آخر: وما ندري بالعنده؟ مَحَد يعلم إلا هو وحامد. وما ندري شيصير بعده، وشنو مصير أختنه المسكينة، الما حصلت منّه لا ولد ولا بنت. وصفاء دَخّل أولاده وبنته بالمدارس!. صفاء لم يُخفِ عليه ما يفكر به أصهار أبي حامد، وهو على إطلاع تام أن أبا حامد يولي زوجته العناية التامة، ويلبي ما تطلب. وكثيراً ما يكلف أخاه صفاء أن يقوم بشراء ما تريد، وعلى هواها. ويبدي صفاء معها كل الاهتمام واللطف.

مرة أحد أخوتها حاول أن يكاشفها فيما يرتئي، من أجل مصلحتها ومستقبل حياتها بعده. فكانت تثني على صفاء، ثناءً عاطراً. وقص هذا على أخوته، موقف أختهم من صفاء. فردّ عليه أحدهم: تَرَه هذا الكلام مو وكته. أختنه بخير، ورحمة، وابو حامد رجل عاقل ومجرب، ولَتنسون صفاء تربية أبو حامد. وختم كلامه: واحنه ليش نخبط المي گُبَل گباله؟!

على أية حال أن بعض هؤلاء يؤثرُ ان يَجدَ ما يبرر تدخله بين الأخ وأخيه. هو يفسر محاولاته هذه من أجل أختهم، فربما تنتهي حياة أبي حامد دون أن يكون قد كتب وصية تنص على ما لصفاء، بل ربما يترك أبو حامد الأمر دون وصية تشير إلى حق صفاء وحق زوجة أبي حامد. فربما الموتَ –وهذا محتملٌ، احتمالاً كبيراً- يأتيه بغتة، فهو عليل بالربو –شَرقة- خفيفة تؤدي بحياة الإنسان بلحظة.

لكن أمراً أشغل بال الجميع وجعلهم في حيرة. أبو حامد وهو على فراشه، يتضجر كثيراً ويتململ، ويغمض عينيه عن صفاء وغيره، حتى لو أراد شيئاً لا ينادي أحداً باسمه –لا صفاء ولا غيره-! يرسل كلمات تذمر من الحياة. ويشير لو أن الله يأخذ أمانته، فالدنيا تبدلت. تبدل كل شيء فيها. آه سيتحقق ما يقوله بعضهم: ان زمناً سيأتي تتحرر فيه النساء من سلطة الآباء، والآباء راضون!

وأشتد أمر مرضه، فصار أحياناً يغيب وعيه، وتتلاحق أنفاسه. فقلق صفاء، فيكلمه همساً: أدعو لك الطبيب؟ لكن جوابه الذي يجهر به: الله يلعن هذي الحياة وراحَتهه، ما يتعلق بيهه إلا من تكثر ذنوبه، وهو غافل ما يدري، يعتقد انَه نقي تقي وهو غرقان لشحمة أذنه بالذنوب!

ثم أستعاد وعيه، لكنه يضطرب ويربد وجهه ويتغضن، ويروح يضرب بيديه على فخذه، أو يصفق راحاً براح.

ومرت فترة ساد الغرفة سكون. واسترد أبو حامد أنفاسه. وخلت الغرفة إلا من صفاء، وإذا بأبي حامد، يبدو ثائراً، فقد أخذ يضرب على فخذه، ضربات آسف. وأضطرب صفاء، وتلجلج لسانه في فمه، ثم قال:

- عزيزنا أبو حامد. عندك شي غاثك، مني، من غيري. لا تخفيه عني لو عن غيري، آنه وجميع أهلي فداء لك. بس ليضيق خلگك؟

بلهجة المنهار الذي أوشك أن يلفظ أنفاسه، صاح: شرفنه ... يا صفاء، شرفنه؟

وقعت هذه الكلمات القصيرة على صفاء كصاعقة ...!؟

تاه عن نفسه وعن أخيه. دارت الغرفة به كأنما صارت تدور بعنف، ثم ثاب إلى نفسه، وتساءل ... لابد أن أمراً خطيراً مس كرامتنا. لكن، أيصل علمه إلى أخي وهو طريح الفراش، ولا يصل إلى سمعي وعلمي أنا ... ودنا من أخيه، والحيرة قد حجبت عنه كل ما أمامه، وضاعت الكلمات من لسانه. وقال في نفسه: لاشك أنه يعنيني؟. كيف يصل حدث إلى اُذني أخي الذي يقترب من الموت، بينما أنا لم أفهم شيئاً، لم يصل إليّ أي حديث أو كلام، عن بيتنا؟ ودنا من أخيه وقال باضطراب:

- أخي، أفديك بنفسي، بأبنائي، بعائلتي كلها، أخي افصح لا تخفي عليّ شيئاً. ماذا ومن أوصل إليك ما يريبك ويثيرك؟

فضرب –ابو حامد- ثانية على فخذه، وقال، بلهجة أسى:

- شرفنه، يا صفاء، داسته بنتك هيفاء، بعيني شفت وبأذني سمعت؟!

ثم عاودته النوبة من جديد وأبيضت عيناه وتراخت يداه. وبدا له أن أبو حامد سيلفظ أنفاسه. كان المساء قد بسط أجنحته، وخيم على البيت صمت رهيب. وأحست العائلة أن الكارثة ستقع لا محالة. ستلف هذا البيت الذي كان أسعد بيت. وما أن عسس ظلام الليل حتى لفظ ابو حامد نَفَسه الأخير. وعج النسوة بالصياح والعويل. وازدحم البيت بنساء الجيران، والأقارب. وأنشغل الرجال لتهيئة التشييع المناسب لجنازة الرجل الذي غادر الحياة، ولم يترك إلا العمل الطيب للأقربين والجار والمعارف، والعوائل الفقيرة.

*    *     *

-2-

في مقهى –عجمي- يلتقي أشتات من الناس وأضداد. فالشيبة وذوو اللحى الطويلة البيضاء، و –الكشايد[1]-، يتحدثون وبين أيديهم –الغراش- الزجاجية الجميلة المزينة بصور ملوك –آل عثمان- أو ملوك الفرس. والكهول ذوو –الجراويات-، ونمط ما يزال محافظاً على زيه العثماني، وعلى رأسه الطربوش الأحمر، مع عباءة مناسبة لإمكانيته، وهو يجذب الدخان من –الغرشة[2]- بنفس الوقت يلعب بيده الثانية بخرز مسبحته –الكهرب-، ذات الحبات الكبيرة!

وإلى جانب هؤلاء، الشباب الحديث من أدباء وشعراء، وأساتذة وطلبة. بعضهم يحدث بعضاً، أو غارق في مطالعة الجرائد المكدسة على جانبه. ورغم تجمع هذه الأضداد، فأن أجمل ما تتصف به هذه المقهى الهدوء والسكون، لا يخرقه إلا صوت –شفتالو- وهو يصيح - ماء ..... – وقد يبتر صوته، ويتحول عن مكانه سريعاً، حين تتوجه إليه العيون، تفصح عن عدم الرضا عنه ...

في زاوية مجاورة لموقد المقهى، الذي ينفصل عنها بجدار واطئ، جلس شابان، أحدهما فتى في الثالثة والعشرين من عمره. أما الثاني فقد تجاوز الثلاثين، بينما يقدر سنه من يراه أكثر من أربعين. تجاعيد وجهه، ونبرات صوته، تشير إلى هذا. أما الواقع فلأنه من طبقة فقيرة، تَعِبٌ من أجل كسب عيشه، لكنه أيضاً –كما يبدو من حديثه- قد مارس أمور أكسبته تجارب الشيوخ، ومفاهيم المجربين.

كان هذا يحدث صاحبه، أما صاحبه فيتظاهر بالإصغاء. انه في واد آخر، لا صلة له بموضوع محدثه، بينما كان الحديث عنه ومعه، ومهماً جداً بالنسبة له! وهو نفسه الذي فتحه مع محدثه "علاء". فقد جاء مستشيراً، يطلب منه الرأي السديد والصالح.

علاء كان ملماً كل الإلمام بتصرفات "كمال" ونزواته منذ تعرف عليه، وتمت بينهما مودة في هذا المقهى. وسرعان ما صار كمال يكشف ما في سره وبكل أحلامه وآماله، بل وترهاته. هو لا يكتم أمراً، ولا يخفي سراً. فافشى له بسر حبه، ولقائه بحبيبته. أما علاء فقد كان صريحاً حين يبدي رأيه. مع أنه أستطاع بسهولة، وبسرعة أن يستشف من خلال أحاديث كمال كنه ذلك الحب. إنه حب المراهق البطال، وهو مازال يعيش برعاية والده، الذي لا يعرف أكثر من أن يرفه عن عائلته بكل وسائل العيش، من كساء وغذاء، ولهو وبذخ، على قاعدة –أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب-! وما عدا هذا لا يعرف واجبه في التربية، لا التوجيه ولا الرقابة. فابنه الوحيد كمال لا شغل له غير التنقل من مقهى إلى مقهى، وسهر الليالي في الملاهي! وبناته وأمهن لا شاغل لهن غير برمجة مواعيد الزيارة، والقبول.

أما علاء وهو صديق لكمال، مثقف تطارده الأقدار. إذ أنه مولع بالعمل السياسي. والجهاد من أجل القضية الوطنية. وقد سُدت بوجهه جميع أبواب الرزق والعيش. لكنه لم ينصع ولم يتراجع عن رأيه خطوة. وقد أحبه عارفو فضله، وقابليته ونشاطه، وشخصيته الفذة، فلم يهملوا شأنه. ولم يتركوه للجوع والعوز، بما استطاعوا.

أما علاقته بكمال، فليست إلا من أجل توجيهه الوجهة الصحيحة، لاستنفاذ طاقته ونشاطه من أجل تقويم شخصيته في مجال خدمة مصلحته أولاً، وقبل أي شيء آخر. لكن علاء أدرك خلال ما مرّ انه طائش لا يستقيم.

كمال لم يكتم أمر حبه، وهو لا يفهم من الحب غير لقاء فتاته، حين يلتصق صدره بصدرها، وشفتاه بشفتيها، تشبعه ويشبعها قُبلاً وعناقاً. وطالما كادا أن ينزلقا، لكنها تتدارك نفسها، فتنفلت من بين ذراعيه، وأنفاسها تتلاحق بحرارة كأنها لهب!

اليوم جاء يستشير علاء في مكاشفة والديه، وقد علم أنهما يفكران في أمر زواجه. علاء أفاض في الحديث عن هذا الموضوع. تحدث عن أهمية الحياة الزوجية، وما يجب أن يكون عليه الشاب من أهلية ليتحمل مسؤولية ليست عادية أبداً، وليست أمراً سهلاً مطلقاً. لا يكفي أن بين الاثنين حب، على الاثنين أن يفهما كيف، يحافظان على حبهما معتمدين على جهودهما في تدبير العيش والحياة، لهما ولمن يستقبلانه من الأبناء.

ختم حديثه: بعد شهر العسل تنتظر منك زوجك استقلالاً في حياتكما، بينما أنت تعتمد على والديك فقط. أليس كذلك؟

هيفاء ضحت من أجله بحب أبيها منذ أن أطلع عمها المرحوم ابو حامد حين التقيا ببيته، فانفضح أمرهما. وصار هذا سبباً في التعجيل بوفاته. ولم يبد كمال أي اهتمام بعد هذا، إنّ هذا ليس حباً، انه دور المراهقة!

ولقد علم أبو كمال بما بين إبنه وهيفاء. وهو يحترم هذه الأسرة، ومصاهرتهم مشرِّفة أولاً، وعسى أن تكون حداً لنزق أبنه كمال بنفس الوقت هي مصاهرة مال لمال وتجارة لتجارة!

انفض الحديث هنا بينهما وقال علاء كلمته الأخيرة:

- كن عند واجبك، عن حياتك الزوجية، وقدر ما يجب أن تكون عليه علاقاتك باصهارك، والديك، أعمل للحاضر والمستقبل!

وصافح كمال وغادر المقهى ..

*    *     *

-3-

في الشارع المزدحم بالماشين، شيوخاً وكهولاً، وفتية وفتيات، يوالي السير بعضهم وهو يتحدث، وآخرون فرادى، كلٌ يقصد مأربه. آخرون يستعرضون الحوانيت والمخازن، لغرض الشراء أو للعلم. وبين هؤلاء نمط غريب. تائه يقضي الوقت في المقاهي مثرثراً، ومتابعة المارّات، يحدجهن بالنظر الشزر. فإذا ما وجد تجاوباً تابع الفريسة، وربما أخفق. ولكن على أي حال إنهم قد يكتفون من كل ذلك بقتل السأم، والفراغ. هم على هذا كل يوم.

علاء كعادته في مقهى –حسن- يتخذ مقعداً مواجهاً للشارع. وقد تعب من حديثه مع كمال. ولقد أشعره خلال حديثه بمدى تفاهة حياته، وبقسوته في جميع ما أقدم عليه، منذ خطوبته حتى زواجه.

أما كمال، بعد أن ثرثر كثيراً فيما قصه على علاء، عن تطور الخلاف في حياته الزوجية، بينها وبين أمه من جهة، ومشاركة أخواته أيضاً. هيفاء تطالب باستقلال حياتها، وترفض أن تكون للمطبخ وتحت أمرة أمه وأخواته، وأسلوبهن المهين لها. إن أهله ينظرون إليها بمقاييسهم. إنها كنة، عليها أن تقوم بخدمة البيت حسبما تأمر –العمة والحماة- أيضاً؟

أما هو بطال، يستمد كل مقومات حياته وما يبذره من مال من والديه! فكيف يمكن ان يناصر زوجته؟ المرأة على حد قوله: متعة! قد يملّها. فلا يصح إذن أن يناصرها فيخسر أهله!

علاء، عنفه بانفعال. وأشعره بتلميحات انه لم يعد يستريح إلى حديثه بأموره العائلية. لكن كمال قابله بضحكة باهتة، وقال: الأصل سلامتي! طلقت واسترحت وأبگه نَحله أمتص رحيق الزهور!

كان قريباً منهما، ثلاثة نفر يتكلمون همساً. إنهم مثله، إنما يزيدون عليه بذلك الزي، الذي أطلق عليه البعض –أمريكي- في اللباس وحلاقة الرأس. ولا أدري أي صنف من الأمريكيين قلدوا، الزعانف أم شباب اللوردات؟

كانت ضحكات أولئك المخنثين تتخلل أحاديثهم. وفجأة هز أحدهم كتفه كمذعور، وقال: هِيَّ، هِيَّ! وغادر صحبه على عجل. بينما ظل الآخران يتابعانه بأنظارهم. قال أحدهما: تِعرفْه؟

- الكلب ابن الكلب ما ادري شلون يتعَرَف عليهن؟ هذي يا فَحَل! نازله للشغل تازه! ايگول هُوَّ، أعرف أهلهه وزوجهه، وكل شي عنهه!

قال الآخر: وشِسمهَ؟

- لك ذني ماينطن أسم صحيح. لكن هو شلون عرف أسمهَ وقصتهَ وأهلههَ؟ يگول: هددها ايوصل أخبارها لأهلهه، ولها السبب انطته إسمهَ –هيفاء-.

وانتفض كمال كمن فوجئ برشة ماء بارد على حين غفلة، وأصفر وجهه! والتفت إليه علاء وقال:

- سبب كل هذا أنت يا كمال! حرام عليك ويا ويلك!

لاح الانفعال بليغاً بعيني علاء، وقبل أن يستمر بينهما حوار، وقبل أن يرد كمال بكلمة، علا صياح، وتراكض الناس إلى جهة الصياح. سُد الشارع بجموع الناس. كان من بين الناس ذانك الشابان اللذان تحدثا قبل حين عن صاحبهما وعن هيفاء.

ثم ارتدا على أعقابهما، وقد بدا عليهما أرتباك. بينما غادر كمال المقهى وعلى وجهه علائم انخذال واضطراب. ومدّ علاء يده إلى كتف أحدهما، وسأله يستطلع الخبر. لكن ذاك أعتذر، وقال: عَركَه. غير أن أعداداً من الناس ممن كان في المقهى عادوا إليها: يشتمون ويلعنون أبناء هالوكت أشلون رَبوهم آباءهم، على نهش أعراض الناس!

أجاب أحدهم: عيني المايدني زبيله محد يعبيله.

ردّ عليه صاحبه: اسكت أخويه، أنت مو تجيب المثل تلزقه لزق. صحيح الذنب مو على الذيب وحده، أكبر حصه من الذنب على الراعي المايحرس بعين واعي!

عقب آخر مؤيداً: ... لا عاب لسانك هذا الصحيح. ثم سأله، وذوله الأربعة اللي أعتدوا عَلِيهْ أقاربهه؟ أجاب الآخر: لا عيني، ذوله هُمّ المتفقين وِياهه! وهَسّه، أكَلوهه كلهم، كرفتهم الشرطة، هذوله عيني شبابنه!

*    *     *

-4-

كان الوقت غروباً حين فزع الجيران، على أثر سماعهم صوت طلق ناري في بيت صفاء. الجيران كلهم يعلمون ما جنت يدا هيفاء على أسرتها وكرامة أبيها.

كانت هذه الأسرة ترفل بالخير والنعيم، والسمعة الطيبة. فتحول نعيمهم بؤس وشقاء. مذ انهارت صحة أبي حامد ثم ألتحق إلى جوار ربه. لكن أخاه صفاء ليس مثله. سقط ولا يدري، أهمل حتى أمر وظيفته، فأحيل على التقاعد ولازم بيته. إنه لا يقوى على النظر بوجوه الناس. عيونهم تصوب إليه نظرات إزدراء واحتقار، أصابعهم تشير إليه.

وغصت الدار بالناس من الجيران والمارة من الناس، يعلو وجوه الجميع وجوم. كانوا يتزاحمون بالأكتاف. يتساءلون. ماذا حدث؟ مَن المعتدي؟ هل أصيب أحد؟ أفراد الأسرة كلهم يُعوِلون. والناس يصفقون يداً بيد، يأسفون لأيام خلتْ. أيام أبي حامد، وجه المحلة البارز، وأبو الشيمة والنخوة، والديوان العامر.

وينفث بعضهم زفرات حادة: آه شتلعب الأيام بالطيبين؟

وفوجئ الناس بخبر ضحية ثانية، فصارت الدهشة أشد وأعظم ...

تقدم أحد أفراد العائلة يحمل كفاً مازال الدم يقطر منها. وقبل أن يفوه بكلمة. فاجأ البيت عدد ضخم من الشرطة، وتقدم القاتل برباطة جأش وسلم نفسه!

في اليوم التالي نشرت الجرائد الخبر موجزاً. دون أن تذكر أسماً لأهل البيت:

فتاة أهلكت عائلة بأكملها، بسوء سلوكها، وكانت أول الهالكين.

الكاتب: علي محمد الشبيبي

 معتقل مركز شرطة كربلاء في 23/03/1963

الهوامش

*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية./ الناشر محمد علي الشبيبي

1- الكشيدة: لباس الرأس عند العراقيين وعند السوريين واللبنانيين، وأكبر ظني أننا أخذناها من الأتراك، لا الفرس وأن كان الفرس الذين يسكنون العراق يلبسونها أيضاً. وهي عبارة عن طربوش –فينه- ويلف عليها قماش مطرز بالحرير الأصفر.

 

2- وتسمى –النارجيلة- أيضا وكلا الكلمتين من أصل واحد، هو أنهم كانوا يأخذون قشر جوز الهند مفرغاً من اللب ويصنعون منه القاعدة التي تحوي الماء وفوقها جهاز يوضع فيه التبغ والجمر، وآلة التدخين متعددة الأنواع من ناحية الصنعة. فالفقراء كما ذكرت يستعملون قشرة جوز الهند، أما المتمكنون فأنواع أهمها الزجاجية وبعضها من البرونز واليوم قلّ أستعمالها.