قراءة في أشعار منهل الكسيري// د. رحيم الغرباوي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. رحيم الغرباوي

 

الحس الرومانسي بين جمال الروح وأناقة الوجدان

قراءة في أشعار منهل الكسيري

د. رحيم الغرباوي

 

   الفن هو ذلك النُّصب الذي يحفظ لنا المشاعر؛ كونه حيَّاً لايموت, ولمَّا كانت  المشاعر هي نبض الحياة الإنسانية الذي عزف على وتره الشعراء منذ مطلع الخليقة إذ بدأ الشاعر يحاكي ما حوله، فجعل ذلك ميداناً له للتعبير عن مشاعره وأحاسيسه تجاه الوجود والكون.

   

    ومهمة الفن حسب دولوز "لم تعد تقتصر على مجرد التقليد والمحاكاة بل هي حفظ المشاعر والأحاسيس في أشكال فنية أو إبداع, وفتح عوالم ممكنة" (1) ؛ لذا تغنى الشعراء بعواطفهم تجاه ما حولهم بكل ما يسرهم ويشعرهم بوجودهم الإنساني أو ما يؤلمهم, فأجادوا وأحسنوا حتى ركبوا سفن مشاعرهم دون أنْ يشعروا بمراسيها التي اصبحت مُدناً مأهولة بقصور من المعاني وطرائق من الحروف لدى النقاد ومؤرخي الأدب.

 

  ولعل التيار الرومانسي شَغلَ مدىً شاسعاً في حقول المعرفة الأدبية وجمالها المترامي الأبعاد كونه يهتم بترجمة الشعور الإنساني وملاذا للتعبير عن هواجس النفس ودواخلها الشفيفة، فالمُحب وهو يعبر عن حبِّه وشوقه تجاه الحبيب, والروح الجميلة, وهي تفتتن بمشاهد الطبيعة ومغانيها, ومشاعرالنفوس وهي تتغنى بأمجاد الأمم  وأوطانها وجمال بلدانها.

 

   والشاعرة منهل الكسيري من الشاعرات اللاتي طفن بمشاعرهن في عوالم الخيال, كي توقد من أفنان كرومها وعناقيد ذائقتها الشاميَّة أنقى المشاعر وبأوفر الأحاسيس التي تزينت بها  مجمل نصوصها, وهي تهل علينا برؤاها التي لم تغادر روضة الحبيب الغنَّاء بالألوان والأزاهير والعطور والفراش, فهي تقول:

أُسارع إلى الصبح حافية

ففيه بقية من عطرك الليلي

وأنثر الجلنار على سياجات الهوى

وأغدو سربَ فراش

أُباري النجمات تألقاً

وأساوي الشمس شروقاً

إذا مرَّ بالبال اسمكَ

فكيف أعانقك ؟!

 

    فقد استعملت الشاعرة في نصها من رموز الطبيعة، فالصبح  يمثل الانطلاقة الأولى لافتتاح يوم جديد, أمَّا أنها حافية، فهي تشير إلى تلهفها للقاء الحبيب, بينما بقية عطره الليلي لها فيمثل عمق الارتباط به, فليس هناك لحظة يمكنها نسيانه, والجلنار من رموز الجمال والطيبة والسكينة التي آثرت الشاعرة نثره على أسيجة الذاكرة الجميلة المتمثلة بالهوى, أمَّا الفراش فيمثل منتهى الرقة والشفافية والتعلق بما هو جميل, فهي من فرط سعادتها تأبى أن تكون إلا فَراشاً يداعب الورود ويترنم بخيلاء الحب والأمل وزهو المطلع, ثم تقارن ذاتها بالنجمةِ في تألقها والشمس في شروقها, لكنَّها تبدي حيرتها، باستعمال اسم الاستفهام (كيف) الذي منح السياق معنى الحيرة والتعجب, فكيف سيكون حالها إنْ قابلت الحبيب وهي من دونه قد امتلأت بأجمل الأوصاف وأطيب المشاعر؟!

 

   ويبدو أنَّ تناولنا للأشياء ومعرفتنا بها "في صميمها قائمة على أفاعيل الممارسة والألفة مع رغباتنا وأهدافنا، وكل ما يمكن ما يتمثل من انطباعات حواسنا وطريقتنا في التعبير عن الحقيقة القصوى، فنحن خالقين لمعرفتنا تبعاً للغاية التي نتوخاها" (2) , ولعل الروح هي من ترغب في توجيه انطباعات ذواتها تجاه الأشياء ومن ثَمَّ تتحقق المعرفة التي نخلقها تبعاً للغاية المرجوة, فإنْ قلنا نزعة رومانسية قصدنا هواجس الروح وهي تندفع من خلال مؤثِّر معيَّن يحيلنا إلى سَوق معرفتنا؛ فنعبِّر عنه بالإيجاب أو السلب من خلال الذوبان فيه، أو العيش بأطيافه في عالم الشعري الذي تنتجه روافد استبطنته ميولنا، فينتج لنا فِكراً لها ملفَّعاً ببصمة تلك الروح ومرتدياً نمارق الأسلوب, فهي تقول:

لو لم تكن الأنثى أجمل ما في الحياة

لما كافأكم الربُّ في الجنَّة

حتى الأسد ينحني مقبِّلاً رأسَ لبوته ...

إنَّها الأنثى سيِّدي !

 

    فالشاعرة في هذا النص تحيلنا إلى العالم الآخر الذي وهب الله سبحانه وتعالى المؤمنين الحور العين في قوله: ((وحورٌ عِينٌ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنون)) (3) هذه المكرمة التي أطلقها سبحانه لعباده الصالحين, بينما تلتفتُ إلى الأسد الذي طالما يعيش شامخاً في مملكته، لكنه ينحني إجلالاً وإكراماً لأنثاه. بيد أنَّ  شاعرنا يبقى في لاوعيها أنَّ السيد والرمز والمتسلط هو الرجل, بينما ركوعه لأنثاه ما هو إلا غريزة فطرها الله بعباده؛ لتكون المرأة سيدته بالغيب وحبيبته في عالميه الأول والآخر. وهي التفاتة جميلة من شاعرتنا التي انمازت بمجمل كتاباتها من أنها تمتلك الصرامة في عشقها والشفافية المزدهرة الغنى بأنوثتها.

 

   والشاعرة الكسيري فيما يبدو تتطلع الى الخروج من "رتابة الحياة اليومية وتطالب بالخروج إلى الهواء الطلق.. إنما تصدر عن عاطفة فنية تحتاج إلى الاندهاش الدائم من أجل الخلق والإبداع" (4) , كما نجدها حين تستوحي الحبيب تخرج إلى عوالم هي أسمى مما تراه في الواقع الضيق؛ لتنطلق معه إلى عوالم خيالية تكاد تمنحها حياةً أنقى وأسمى.

ففي قصيدتها التي تقول فيها :

يسعدني جدَّاً أن تكونَ همِّي

فأنشغل بربطة عنقك

وعطرك

وقهوتك

وأنفاسك ... وتفاصيل عشقك

يسعدني جداً أنْ أنسى الهموم

فالدنيا بحضرتك ؛

لأنَّكَ الرجل الخرافي العناية

جعلتني خارجةً عن المألوف ,

سعيدة

سعيدة جدَّاً كفراشة.

 

  نجدها تنظم مشاعرها بكلمات سهلة مسترسلة وكأنها تحكي ما يختلجها, وهي برفقة  الحبيب, واهتمامها به طالما يدفئها باهتمامه فـ  ربطة العنق  تومئ بها إلى أناقة الحياة التي تظلل الحبيبين، بينما العطر هو ما يجعلهما يرفَّان حولَ بعضيهما, أما القهوة فهي تومئ إلى السكينة في ديوان حنانه ، بينما الأنفاس فتمثل توارد الحب بينهما من أقصى شطآنه؛ مما يجعلها تعيش معه في أعلى قمة الاهتمام بها والعروج بسماواتها الأنيقة التي صارت هي من نكهة عشقه خارجة عن المألوف, وهذا ما جعلها تعيش قمة سعادتها.

أما في قولها :

لروح أجفلها الصقيع

كعشٍّ اعتاد أنس طيوره ,

وقد أفِلوا !

وعشعشتْ في حناياه طحالب منسيَّة

مخسوف قمره , وقد أتلفه الصدأ

وعن سندياناته أسقطه الحنين

لايثمر الصفصاف

تمهَّلْ ,

وأعد بناء آمالك من جديد.

 

     في هذا النص نجدها قد فارقت صبا مشاعرها وترافة أحاسيسها؛ لتعيش ضباب الأمنيات, فالصقيع يمثل الجمود والسكون, بينما الطيور التي تمثل الأناقة والجمال والاهتمام قد أفلت أنوارها, أمَّا الطحالب المنسية فتمثل هي الأخرى الذبول والانكماش، وخسوف القمر قد تجلَّتْ من خسفه الظُّلمةُ, بينما الصدأ فيوميء إلى البلى والتهالك؛ فنراها تومئ بجميع الصور ما يدل على معاني الفراق والتلاشي؛ إشارة إلى أنَّ الهواجس والمشاعر قد ذوت, وأصبحت من دون جدوى أو فائدة؛ لذا لايمكن للصفصاف أن يثمر ولا الحنين يمكنه أن يرده إلى سندياناته العقيمة.

 

   ولشاعرتنا قصائد تنبض بالحبِّ والجمال كأنَّما كلماتها الأمواه النابعة من غدرانها وحروفها ناطقة من شفافية وجدانها.

 

   نتمنى لشاعرتنا الواعدة منهل الكسيري النجاح في مشوارها الإبداعي الذي يمنح قارئه حين يتجلى في قسماته لهيباً من ترافة المعنى وعذوبة السحر وأناقة الأسلوب.

 

(1)    الفلسفة الغربية المعاصرة , مجموعة من الأكاديميين العرب : 1096

(2)    الوعي الجمالي , د. هيلا شهيد : 185

(3)    سورة الواقعة : 22- 23

(4)    النرجسية في أدب نزار قباني ، خريستو نجم : 288