شاهدٌ على العطاء!// مارتن كورش تمرس

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

مارتن كورش تمرس

 

عرض صفحة الكاتب 

شاهدٌ على العطاء!

مارتن كورش تمرس

محامي وقاص

 

أم (أدور) من سَاكِنِي حّيِّ الأشوريين (فِي بُقْعَةِ دُورَا )"سفر دانيال1: 1" في العاصمة بغداد، كانت دوما تتسوق من السوق الشعبي الْمُحَاذِي للسِكَّة الحديدية. على الرغم من معرفة معظم الناس في بغداد بعد عام 2003 بأن ساعات اليوم ما عادت تخلو من إنفجار سيارة مفخخة أو تفجير شخص نفسه بحزامٍ ناسفٍ، التي جعلتهم أكثر حرصًا على حياتهم عند خروجهم من بيوتهم، إلا أنها لم تتمكن من وقف أقدام المتسوقين من التسوق والتبضع، في أيِّ حيٍّ من أحياء بغداد! لأنهم في السوق كانوا يلتقون ببعضهم البعض حتى يعرف الواحد منهم أخبار الآخر.

 

في صباح يوم مشمس من أيام فصل الشتاء من عام 2005 بينما هي مع العشرات من الناس الذين كانوا منشغلين بالتسوق، إنفجرت سيارة مفخخة بجانب السوق.. ما أن دوى صوت الإنفجار في أسماع أهل الحَيِّ حتى هرعوا مذعورين إلى محل الإنفجار وفي مقدمتهم زوج وإبن أم (أدور). أخذ كل واحد منهم يبحث عن قريبه بين الضحايا والمصابين الذين تناثروا على الأرض كما تناثرت الخضار والفواكه وقد إصطبغت بدمهم.. كم كان حزنهما كبيرًا وهما يعثران عليها وهي فاقدة الوعي، مرمية على الأرض ووجهها ملطخ بالدماء! حملاها على جناح السرعة إلى مستشفى (طوارئ الكندي) مع غيرهم من الذين حملوا جثامين معارفهم وجرحاهم في المركبات والحافلات التي تعمل بين حَيِّ (بُقْعَةِ دُورَا)  ومنطقة باب الشرقي أو علاوي الحلة، قد حول الإنفجار ركابها من أحياء إلى جرحى وموتى، وفي ذات الوقت غير خطوط سيرها! كشف عليها الطبيب المقيم ليقول لزوجها وإبنها:

-    أن المرأة مصابة بجسم غريب في عينيها!! عليكما نقلها فورًا إلى مستشفى خاص بجراحة العيون لأجل إجراء اللازم لعينيها.

تم نقل المصابة بسيارة الإسعاف إلى مستشفى (إبن الهيثم) التخصصي للعيون. ما أن كشف الطبيب المقيم عليها حتى أمر بإدخالها إلى غرفة العناية المركزة ليقوم الطبيب الأخصائي بمعاينة إصابتها، خرج بعد نصف ساعة ليقول لهما:

-    لقد تضررت العين اليمنى كليًا! لا أمل في رجوع البصر إليها، أما اليسرى فقد تضررت فيها القرنية لكن هذا لا يمنع من إجراء عملية زرع واحدة أخرى لها.

سأله زوجها:

-    ما هي نسبة نجاحها؟

-    إجراءها خيرٌ من تركها.. والْبَقِيَّة على الله.

صمت الطبيب لحظة ثم سأل الزوج للبحث عن متبرع فأجابه:

-    وهو كذلك.

-    أعطي للوقت أهمية.

-    كم بنظرك يا دكتور؟

-    ليس التأخير في مصلحتها، نحن في سباق مع الزمن ليس أمامكم أكثر من (48) ساعة!

خرج الأب والإبن للبحث عن متبرعٍ لكن من دون جدوى ليعودا في اليوم التالي خائبَين بينما الزوجة لم تزل راقدة في السرير، قال الطبيب لزوجها:

-    إمّا أن نجد مُتبرعًا أو تخرج المصابة من المستشفى؟!

رد عليه الزوج:

-    لتخرج الآن!

اذا بالإبن يتدخل ليقول لهما:

-    لطفا يا والدي تَرَيَّث! سأترككما دقيقة وأعود إليكما.

خرج وسار عدة خطوات داخل الممر الذي بالجوار ثم عاد مسرعًا وعلامات الفرح على وجهه، ليقول:

-    وجدت متبرعًا.

ردَّ عليه الطبيب:

-    أين هو؟

-    الواقف أمامكَ.

نظر الطبيب إلى الأب نظرة حبلى بخَيْبَة الأمل ليقول للإبن:

-    لا أصدق! ما يجري أمامي!

سمعته الأم التي كانت قد أفاقت من حُقنة المخدر قبل قليل، حاولت أن تنهض من سريرها لكنها لم تقو فقالت:

-    يا طبيب. أرجوكَ أرجوكَ لا توافق.

قال الإبن بينما الأب ساكنٌ لا يتحرك:

-    لطفا أيها الطبيب. إفحص عينيَّ وقرر أية منهما هي الأصلح لتكون عينًا لأمي!

إندهش الطبيب وصار ينظر إلى الأب الذي ظل صامتًا ساكتًا لا ينطق بكلمة! وقد طأطأ برأسه إلى الأسفل ليتحول إلى شاهد غير أمين على عطاء إبنه! قال الطبيب:

-    أنت شاب.. ليس صواب أن تفقد إِحْدَى عينيكَ.

كان يتكلم بينما أنظاره مصوبة إلى والده! الذي كأنه أضاع موضع لسانه، قالت الأم على مسامعهم:

-    لم أتصور أن تصل الأنانية بزوجي إلى هذا الحد حتى لا يتجرأ ويتبرع لزوجته التي شاركته حياته منذ 25 سنة وفوق هذا لا يمنع فلذة كبده عما يُقدم عليه.. يا الله خذني قبل أن يتبرع إبني بنظره.

دخلت في بكاء مرير. تقدم (أدور) من أمه وربتَ على كتفها الأيسر، ثم قال:

-    أيها الطبيب.. لست هنا لأكون بديلًا عن والدي! لقد قررت أن أكون المتبرع بعيني لمن حملتني، ولدتني، أرضعتني، حضنتني، أطعمتني، ألبستني، ربتني، كبَّرتني. و. و. لطفا.. هيا يا طبيب قم بعملك رجاء.. أنا سعيد لأني بواجبي هذا أرد جزءا يسيرًا من فضلٍ كبيرٍ قدمته أمي الحنون وما زَالَت.. كيف تقبل أخلاقك المهنية أن تقف حائلًا بيني وبين الواجب؟ ماذا سيكون رأيك لو كنت أنت في مكاني؟

على الفور قرر الطبيب إدخاله غرفة الفحوصات الطبية بينما الأم لا حول ولا قوة لها فيما يجري، فقالت:

-    يا إبني أتوسل إليكَ أن لا تفعل هذا! إعلم يا كبدي أن حياتي كلها لا تساوي نظرة من عينيك. فصوتكَ هو عيوني، وجودكَ هو نظري، ضحكتكَ هي سعادتي ووسامتكَ هي فرحتي.. هيا يا رجل إمنع إبنكَ.

بدأ الطبيب بإجراء الفحص على كِلْتَيْ عينيه، وجد اليسرى سليمة أما اليمنى فوجد فيها نسبة البصر أقل من 6/6! سأله عما أصابها، أجابه بصوت خافت:

-    لقد لطمني والدي عليها في صغري!!

-    اذا تبرع بها وأحتفظ بالسليمة؟

-    بل العكس هو الصحيح يا طبيب، يجب أن تكون الهدية جديدة. كيف أهدي أمي شيئًا معيبًا؟

 

تم إجراء العملية بنجاح باهر لتغادر الأم المستشفى من غير سعادة! وصلت بهم سيارة الأجرة التي أقلتهم، إلى دارهم. ما أن دخلوا البيت حتى أسرع الأبُ ودخل غرفة النوم ليغيب فيها بعيدًا عن أنظار زوجته وإبنه. أما الأم فقد فضلت أن يكون رقادها على أريكة في غرفة الإستقبال. أصبحت كلما تنظر إلى وجه ولدها تغرق في بكاء مرير! بعد أسبوع طلبتْ من إبنها أن ينادي على والده. جاء الأخير مطأطأ الرأس، من كثر خجله لم يقوَ أن يسألها عن حالة عينها أو عن صحتها. قالت له:

-    إذهب وأشتر نظارة قاتمة لإبننا لكي يخفي خلف زجاجتها عينه الكريمة.

قبل أن يستدير ويذهب، أوقفه إبنه وهو يضع يده اليسرى على كتف والده الأيمن، بينما أنظاره مصوبة نحو أمه ليقول لها سعيدًا:

-    يا ماما ليس لي أن أخفي نِيشانًا من نَيَاشِين الْمَحَبَّة.. أنت تستحقين عيني الأخرى لو إحتجتها!

قالت في نفسها:

-    آه يا ولدي لو كنتُ أقدر أن أُعيدها لك دون أن تعلم؟!

كأنه سمعها! ليجيبها:

-    يا أمي (الْهَدِيَّةُ حَجَرٌ كَرِيمٌ فِي عَيْنَيْ قَابِلِهَا، حَيْثُمَا تَتَوَجَّهُ تُفْلِحْ.)"سفر الأمثال17: 8 ".

 

شاب مؤمنٌ قَبَلَ بالتضحية، فتجاوز بشجاعة ما خلفه التبرع من فقدانٍ لعضو مهم في وجهه، مقتنعٌ بأنه قد أَدَّى واجباً تجاه أعز إنسان في حياته، كأنه ذلك الجندي العراقي الباسل الذي خرج من ساحة الوغى وقد فقد طرفيه السفليين وهو ينشدُ للوطن بكل فرح.. نظر إليها وقال في قلبه:

-    ( إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ.)"يوحنا3: 29".

 

المحامي والقاص

مارتن كورش تمرس لولو

ملاحظة: هذه القصة مُقتطفة من مجموعتي القصصية ( السيد  آتٍ)