اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• هل تفارق المنطقة ماضيها؟

د. جابر حبيب جابر

مقالات اخرى للكاتب

هل تفارق المنطقة ماضيها؟

15/05/2011

 

ما يحصل اليوم في منطقتنا أكبر من مجرد تحول سياسي في بعض البلدان. بمرور الزمن سنرى أن هذا التحول هو بالقدر ذاته تحول مفاهيمي وفكري، ليس بالضرورة نحو عالم أفضل وأكثر سلاما كما يتصور المتفائلون جدا، بل نحو عالم أكثر تعقيدا وتعددية في الآراء والمنطلقات، وحيث تكون الصراعات أكثر انكشافا من ذي قبل وصوت الناس أكثر حضورا. طوال نحو نصف قرن كانت الأنظمة تحرص قبل كل شيء على كبت وكتمان الصراعات الداخلية، فكل شيء كان يمكن أن يمثل مشكلة يُدفع إلى خانة «الأمن القومي» ليتم فرض حظر على طرحه وتداوله ومناقشته، كما يتم فرض حظر يمنع العالم من الاطلاع عليه. كان الهاجس الأساسي هو إخفاء الأحشاء الداخلية للمجتمع وما يعتمل بها من تفاعلات ومخاضات، بحيث يتحول كل بلد إلى صندوق مغلق، ونجحت الأنظمة في أن تخلق انطباعا بأنه ما دام ليس هنالك شيء نسمع به، فإن كل شيء يجري على ما يرام.

 

هذا الأمر سهل على بعض الأنظمة التتفرغ للخطاب الخارجي وعرض العضلات في السياسة الخارجية، بحيث باتت السياسة الخارجية هي مصدر الشرعية بالنسبة للبعض، وهو أمر لا نجد له نظيرا في أي مكان آخر بالعالم. خطورة ذلك تتمثل في أن الأنظمة كانت أول من يصدق الكذبة التي صنعتها، ويصل بعض قادتها إلى قناعة بأنه لا شيء مهما يحدث في الداخل، وأن فن الحكم هو مخاطبة الخارج فقط، ووصل الأمر إلى حد رأينا معه شخصا مثل القذافي يحول ليبيا، البلد الكبير ذا التركيبة الاجتماعية المعقدة والتاريخ، إلى شيء لا وجود له من دون صلته بالزعيم، ومعظمنا كان يعرف القذافي أكثر من معرفته بليبيا. نسمع القذافي يلقي خطاباته فيتحدث عن كل شيء، عن فلسطين والعراق والخليج ولبنان والسودان وأفريقيا، لكن الغائب الأكبر في ما يقوله كان ليبيا. وحتى مصر بكل تاريخها وتأثيرها، ورغم الفارق بين الزعامتين والنسبة الأكبر من الانفتاح على العالم، كادت هي الأخرى تختزل إلى «وسيط في عملية السلام»، وكأن مصر ليس فيها شيء آخر يستحق الاهتمام. كانت تلك هي صفقة المنطقة الكبرى: كل شيء يحدث في الداخل يبقى في الداخل، وما كان ذلك سيغدو مشكلة لو كان سينحصر في محاربة الإرهاب والجريمة، لكنه كان يتجه إلى منع أي إمكانية لانكشاف الأحشاء على بعضها بعضا.

 

لذلك لجأت جميع الأنظمة التي تعرضت للاحتجاجات الشعبية، سواء كانت قريبة من الغرب أو بعيدة عنه، إلى الحديث عن مؤامرة خارجية، ومثل هذا الحديث يعني أن الأنظمة اقتنعت تماما بموت الداخل، فالداخل ليس سوى تابع ثانوي لا يمكن له أن يعكر صفو زعامات تعتقد أن مهمتها الوحيدة هي مخاطبة الخارج.

 

لقد نشأ عن هذا الحال وضع بتنا فيه نحن العرب ورغم كل ما ندعيه من صلات قومية وتاريخية وثقافية نجهل ما يجري في البلدان العربية الأخرى، وربما نعرف أوروبا وأميركا أكثر مما نعرف تلك البلدان. حتى الإعلام والصحافة ظلا لزمن طويل يعملان وسط الكثير من المحظورات، وغالبا ما كان بعض الصحافيين والباحثين يبنون تدريجيا مجسات للرقابة الذاتية بحيث يلعبون لعبة الأنظمة، حيث السياسة لا تعني سوى العلاقات الخارجية أما الداخل فلا وجود له.

 

في العراق مثلا ومن خلال اطلاعي على طبيعة الأبحاث التي كان يكتبها الباحثون الشباب، شهدنا موتا تدريجيا للعلوم الاجتماعية، فعندما يكتب أحدهم رسالة دكتوراه تتحدث عن «فكر القائد» أو عن «عبقرية البعث»، ويتم تمريرها لخطورة رفض مثل هذه الأطروحات على حياة الأستاذ الجامعي، فإن ظاهرة احتلال العلوم الاجتماعية من الجهلة كانت بمثابة القتل التدريجي لفكرة دراسة المجتمع، إلى حد أننا كعراقيين لا نعرف باحثا اجتماعيا له قاعدة ثقافية واسعة غير علي الوردي، رغم أن آخر دراسات الرجل كانت تدور حول العراق العثماني وطبيعة المجتمع العراقي حتى الخمسينات. الطلبة الذين يريدون أن يكونوا أكثر جدية، كانوا يبحثون عن بحوث في مجالات لا علاقة لها بالوضع العراقي من أجل ألا يغامروا بإغضاب لجان السلامة الفكرية، فنشأت لدينا ثقافة الكتابة عن الآخر، فكان هنالك تضخم في بحوث بمستويات متدنية أو متوسطة حول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة (غالبا تتنبأ بانهيار قريب لأميركا) واليابان والصين وأميركا اللاتينية، إلا أن أحدا لم يكن يجرؤ على دراسة العراق ومجتمعه وتناقضاته.

 

ما إن انهار النظام، حتى طفت إلى السطح كل الظواهر التي كانت مكبوتة ومحظورة على العالم الخارجي، وراحت الأنظمة الخائفة ووسائل الإعلام المرتبطة بها تصور الأمر على أنه دليل على فشل الديمقراطية وعدم صلاحياتها لمجتمعاتنا. قلة حاولوا أن يفهموا ما يحصل ولماذا يحصل بلغة علمية، فإذا بنا ننتج أطنانا من الكتابات المسيسة التي لا تسعى إلى الفهم بقدر ما تسعى إلى التشويش. الرواية العربية السائدة عن عراق ما بعد 2003 هي نتاج لكتابتها بالعقلية التي ظلت سائدة في المنطقة، وأعني بها عقلية أن الداخل يجب ألا ينطق، وإذا نطق فإنه لا يتمتع بما يكفي من الرشد لقول ما يجب قوله. لكن وكأنها نبوءة متحققة سلفا، فإن هذا الداخل المحجوز لزمن طويل في ذلك الصندوق المغلق، لا بد أن يرتكب الكثير من الأخطاء حتى يتعلم.

 

اليوم بات التغيير سريعا، بل أسرع مما تحتمل عقولنا التي تعودت على الجمود. ستنفلت منه صراعات كثيرة بعضها يشبه ما رأيناه في العراق، وسيواصل بعضنا ارتكاب الخطأ نفسه عبر الإصرار على تطويع هذا الجديد الذي يحدث مع لغة القديم الذي ألفناه. الأمر يبدو في أحد أوجهه صراعا بين من يريد أن يفهم، ومن يخاف أن يفهم.

 

المنطقة تتغير، والصناديق السوداء تنفتح على الكثير من الأمراض الاجتماعية والصراعات المكبوتة والمخاطر الكبيرة. هل سنحل هذا المعضلات بالطريقة التي ظل البعض يرددها بخصوص العراق طوال السنوات الماضية، أي بطرح السؤال الساذج: أيهما أفضل الماضي أم الحاضر؟

 

الماضي قد انقضى، والحاضر في الكثير من خصائصه هو نتاج لذلك الماضي، وما سنواجهه من صراعات ومظاهر جديدة أعقد بكثير من مفاهيمنا القديمة، لا سيما تلك التي تريد إنكار الداخل وتفضل الحديث عن الخارج، أو في الأقل عن مؤامراته.

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.