اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• العراق: جدل الانسحاب الأميركي

د. جابر حبيب جابر

مقالات اخرى للكاتب

العراق: جدل الانسحاب الأميركي

22/05/2011

 

إذا كان على باحثي السياسة أن يعطوا مثالا حول كيف تؤدي الانقسامات الداخلية في بعض البلدان إلى إعاقة تبني سياسات فاعلة، حتى على مستوى القضايا الاستراتيجية، فإن العراق سيكون مثالا جيدا. طبيعي أن تختلف الآراء في بلد يسمي نظامه ديمقراطيا، وأن تكون هنالك تعددية في المواقف والاتجاهات، ولكن طبيعي أيضا أن يحصل الاختلاف تحت سقف المصلحة الوطنية على الأقل في أبعادها الاستراتيجية. ولكن أن يطال الاختلاف، وربما التناقض، كل شيء، بما فيه مصير البلد وتوجهاته الرئيسية وعلاقاته الخارجية، فإن ذلك يعني هشاشة كل شيء واستحالة إدارة كل الشؤون الأخرى بفاعلية. الجدل السياسي حول موضوع انسحاب القوات الأميركية من العراق يقدم مثالا جيدا حول عجز النخبة السياسية عن تقديم رؤية استراتيجية للموضوع، وعن استعدادها للتعامل حتى مع قضية حساسة مثل هذه بمنطق أولوية الحزبي على الوطني، والكسب قصير الأمد على المصلحة بعيدة المدى.

 

تنص الاتفاقية الأمنية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة على سحب كل القوات العسكرية الأميركية من العراق بنهاية العام الحالي، وهي اتفاقية غير قابلة للتعديل أو التمديد بموجب نص متضمن فيها. الإدارة الأميركية وعلى لسان مسؤولين كبار فيها عبروا عن رغبة بإبقاء جزء من قواتهم في العراق بعد نهاية العام الحالي، وأرسلوا رسائل بعضها مباشر إلى الحكومة العراقية بهذا المضمون.

 

الموقف الأميركي يرتبط بالرؤية الأميركية الاستراتيجية للمنطقة ككل أكثر من ارتباطه بالمعطيات المحلية العراقية، وهو لا ينفصل عن النظرة لعلاقة الوضع في العراق بقضايا رئيسية، مثل إيران الداخلة في صراع مع الأميركيين، وسوريا المقبلة على وضع حافل بالاحتمالات، ودول الخليج المنخرطة بدورها في حرب باردة مع إيران.

 

بالمقابل، يبني معظم السياسيين العراقيين مواقفهم بطريقة مناقضة تماما للطريقة الأميركية، أي أنها لا تنطلق من رؤية استراتيجية شاملة لعلاقة العراق بالعالم وبمحيطه، لا سيما في ظل أكبر اضطراب يشهده الشرق الأوسط منذ عقود.

 

بل نظرتهم تنطلق من المصلحة الذاتية، من موقع الأنا في علاقتها وصراعها مع الآخرين، ثم من الأنا إلى مصلحة المجموعة الحزبية التي بدورها لا تنفصل عن مصلحة الأنا.

 

ولذلك، باستثناء التيار الصدري الذي عبر عن موقف مبكر بالرفض لتمديد وجود القوات الأميركية تحت أي ذريعة، إلى حد التهديد بإعادة النشاط العسكري لجيش المهدي، فإن جميع الكتل الأخرى اختارت البقاء بالمنطقة الرمادية وزج الموضوع في صراعها السياسي الآني المتمركز حول معاظمة المكاسب المتعلقة بالسلطة والموارد. لا ينطلق هذا الموقف من رؤية للقضية بوصفها شديدة المحورية في تحديد وضع العراق تجاه الصراعات الإقليمية المتصاعدة، وفي تحديد مصير العلاقات العراقية - الأميركية وطبيعتها المستقبلية، بل ينطلق من كون هذه الأشياء ليست سوى توابع ثانوية للهدف الأصلي المتمثل بتقوية الكتلة السياسية وبحجم النقاط التي تسجلها أي من هذه الكتل في صراعها الداخلي.

 

لذلك كان الانتظار والتروي والضبابية في تحديد الموقف تنطلق من شعور بأن الاستعجال قد يسمح لطرف سياسي آخر بتحقيق مكاسب أكبر. المشكلة هنا أنه بسبب هذه المناكفة ستضيع على البلد فرصة بلورة موقف استراتيجي تفاوضي مع الأميركيين يسمح بتحقيق أعلى المكاسب وأقل الخسائر الممكنة للعراق - البلد وليس للكتلة السياسية. فمقولة البعض بأنه لن يحدد موقفا إلا بعد أن يسمع موقف رئيس الوزراء تنطوي على هدفين لا علاقة لهما بما يحتاجه البلد؛ الأول إذا قال رئيس الوزراء إن هناك حاجة لاستمرار بقاء القوات الأميركية، سيتم اتهامه بأنه فشل في إعداد العراق لمرحلة الانسحاب، وربما المزايدة عليه في المشاعر الوطنية، والسعي إلى تأليب التيار الصدري عليه، أما إذا قال إنه لا يريد التمديد، فسيتهم بأنه أدخل العراق في مصير مجهول مع أي تفجير يقوم به متطرف أو أجير، كما سيتم تأليب الأميركيين عليه والقول لهم إن المالكي هو عقبة أمام مصالحكم.

 

المالكي الذي عرف ما يحمله هذا «اللاموقف» من دوافع، حاول سحب البساط، عبر دعوة جميع زعماء الكتل السياسية للاجتماع والتباحث في الأمر واتخاذ قرار موحد من أجل التعامل مع الموضوع بلغة المصلحة الوطنية التي يفترض أن تجمع المتنافسين قبل أن تفرقهم صراعاتهم الحزبية والشخصية. لكن هذه الدعوة على صحتها وضرورتها تحمل بعض الإشكاليات، أولها أنه في الحالة الطبيعية لا بد أن يكون البرلمان هو الذي يناقش قضية مهمة مثل هذه، وليس كيانا غير منتخب وغير مخول شعبيا اسمه «زعماء الكتل السياسية». وهنا تكمن المعضلة الأكبر، فالبرلمان بالعراق لم يتعود مناقشة القرارات الكبرى فضلا عن اتخاذها، وهناك احتمال بأن تتحول جلسة برلمانية علنية حول الموضوع إلى مباراة في المزايدات الوطنية والشعارات بدلا من الفحص الموضوعي والقانوني للقضية.

 

لكن هنا ترد إشكالية أخرى، وهي إذا كانت المناقشة العلنية ستفضي إلى اتخاذ أعضاء البرلمان موقفا رافضا للتمديد، فمعنى ذلك أن المزاج الشعبي الذي سيحاول النواب أن يتناغموا معه هو أيضا رافض له. الأمر الذي لا بد أن يدفع الأميركيين إلى أن يسألوا أنفسهم: لماذا هناك اعتقاد بأن غالبية العراقيين إلى جانب رحيل القوات الأميركية؟ وكم كان سيصبح أفضل لهم لو كان الأمر هو العكس؟ فعندها يمكن حل الموضوع عبر استفتاء شعبي أو بتصويت برلماني. المسألة ببساطة أن الأميركيين لم يقدموا سببا جيدا لغالبية العراقيين، عدا تكرار الحديث عن المخاطر الإرهابية وعدم جاهزية الجيش، وهو ما سيدفع كل مراقب إلى السؤال إذا كانت تلك المخاطر الإرهابية وقضية عدم جاهزية الجيش لم يتم حلهما خلال السنوات الثماني السابقة، لماذا سيكون بالإمكان حلهما الآن؟ وسيقترن الأمر بسؤال مكتوم: هل هنالك رغبة فعلا في حل هذه القضايا؟

 

ما يحتاجه الأميركيون هو أن يقايضوا المواطن العراقي بدلا من مقايضة كتل سياسية هي بدورها غير آبهة بحياة المواطن العراقي، لا بد أن يقدموا للعراق مكاسب حقيقية بدلا من بيع المخاوف. أما العراقيون، فإنه بغياب برلمان قادر على التعامل مع هذه القضية، سيكون اتفاق رؤساء الكتل السياسية أفضل سبيل ممكنة لبلورة موقف عراقي استراتيجي قبل أن ينفد الوقت، وهذا الموقف سيحتاج أولا الاتفاق على إخراج الموضوع من حقل الصراع الحزبي والشخصي، وثانيا تضمين جميع الكتل السياسية، بما فيها التيار الصدري، في عملية اتخاذ هذا القرار، فبهذه الطريقة فقط يمكننا على الأقل أن نفرض عنوانا للنقاش هو: العراق وموضوع وجود القوات الأميركية، لأنه موضوع لا يمكن حله واحتواء تبعاته إذا لم يكن «العراق» هو عنوانه الأساسي.

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.