اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• لماذا يفضلونها عنيفة؟

د. جابر حبيب جابر

مقالات اخرى للكاتب

لماذا يفضلونها عنيفة؟

05/06/2011

 

عندما يصرخ المتظاهرون في البلدان العربية: «سلمية.. سلمية»، فإنهم يعبرون عن وعي وإدراك جيدين بأن ما يحمي احتجاجاتهم ومظاهراتهم هو سلميتها. المتظاهرون العرب يتعاملون مع أنظمة جهزت أنفسها للتمرد العنيف، بنت أجهزة أمنها لإخماد عصيانات مسلحة وقمع معارضات سرية، أنظمة افترضت أنها في حالة حرب غير معلنة مع شعوبها، وجهزت نفسها بالتالي لخوض هذه الحرب. «سلمية.. سلمية»، هو شعار بمثابة إعلان هدنة من الشعب ينطوي على تعويل بأن هنالك قدرا من الحكمة مهما كان ضئيلا قد تبقى في قلوب الحاكمين، فتدفعهم سلمية الاحتجاج إلى التفكر مرتين قبل استخدام الرد الوحيد الذي يعرفونه: العنف.

 

في السابق كانت أي معارضة جدية وليس ديكورية في المنطقة لا تستطيع أن تجد فرصة للحياة إن لم تكن قد أعدت نفسها للمواجهة المسلحة. لم تكن هنالك قنوات فضائية لتنقل الاحتجاجات إلى العالم وبالتالي تفرض ضغطا أخلاقيا على المنظمات الدولية وبعض القادة لاتخاذ إجراءات معينة، ولم يكن هنالك إنترنت أو شبكات للتواصل الاجتماعي يمكنها أن تسمح لكلمة بعض الناشطين بالانتشار إلى عشرات الألوف من مواطنيهم حاملة موعد ومكان التظاهر بلا حاجة إلى عقد اجتماعات سرية. في العراق السابق، مر وقت على بغداد كان فيه تجمع ثلاثة أشخاص أو أكثر في مكان عام يمكن أن يوصف بأنه تجمع غير قانوني وقد يستدعي تدخلا من الأمن إن كان لديهم شك في واحد من هؤلاء الأشخاص. اليوم لا يستطيع أي نظام أن يمنع تواصل آلاف الأشخاص عبر الإنترنت، فالفضاء الافتراضي عوض عن الحاجة إلى التجمع، كما لا يستطيع النظام زج كل من يفتح حسابا على «فيس بوك» في السجن، لأنه في هذا العالم الافتراضي صار بإمكان الناس أن يختبئوا خلف أسماء مستعارة في الوقت الذي لا تستطيع فيه أجهزة الأمن على ضخامتها الانصراف إلى قراءة كل تعليق أو خبر يكتب على الإنترنت وتتبع صاحبه.

 

مع ذلك، يظل الاحتجاج في حاجة للانتقال إلى الفضاء الفيزيائي من أجل أن يصبح حقيقة. كانت الأنظمة قد أعدت أجهزة مخابراتها لمواجهة التمردات المحتملة قبل وقوعها، والكثير من هذه التمردات أو الانقلابات قتلت في مهدها بفعل اختراق بعض الخلايا المخططة لها. أما اليوم فإن الأنظمة في مواجهة شيء مختلف لا يحتاج الناس معه إلى تشكيل خلايا سرية وعقد اجتماعات قابلة للاختراق، بل هم يتوافدون فجأة على مكان المظاهرة ليعبروا عن الاحتجاج.

 

قوة هذا الاحتجاج في أنه لا يلعب وفق القوانين الأمنية المعتادة لدى الأنظمة، ولا يقدم نفسه كتمرد لخلايا سرية تبغي الاستحواذ على السلطة بالعنف، قوته تكمن في علنيته، في قدرته على جذب كاميرات التلفزيون وتغطية الصحافة، وبالتالي تشجيع من كان مترددا على كسر حاجز الخوف والخروج إلى الشارع. شعار «سلمية.. سلمية»، هو جزء من اللعبة الجديدة، حيث المحتجون يضعون الأنظمة أمام خيار تغيير سلوكها مع تغير قواعد اللعبة، بينما اللجوء إلى العنف لا يقدم لهذه الأنظمة سوى انتصار مزيف ومؤقت، لأنه مع سقوط مزيد من الضحايا يزداد السخط الشعبي وتتعرى الأنظمة أكثر أمام أولئك الذين ما زالوا خائفين أو مترددين، في الوقت الذي يجذب فيه هذا الشعار تعاطفا خارجيا أكبر.

 

لذلك فإن تلك الأنظمة لا تريدها سلمية، بل تفضلها عنيفة ودموية. هي تريد أن تخوض المباراة بقوانينها، وأن تنزل إلى الملعب بفريقها المجهز لتلك المباراة. العنف يرفع عن المتظاهرين الحصانة الأخلاقية التي تحميهم ويؤدي قبل كل شيء إلى إخلاء الشوارع من الناس وتركها لمن يحمل السلاح ويطلق الرصاص. العنف يحجب الكاميرات، ويشوش الصورة، ويقود الصراع إلى ساحة السرية حيث الملثمون ومجهولو الهوية الذين يرفعون البندقية بدلا من «اليافطة»، ويشدون أحزمة الرصاص بدلا من الإعلام. المواجهة مع تمرد عنيف هي ما تدربت عليه هذه الأنظمة طويلا، الصدام العسكري هو لصالحها لأنها أنشأت جيوشا من الأجهزة الأمنية والاستخبارات والقوات الخاصة لمثل هذه المناسبات.. من هنا المراهنة على «القاعدة»، وعلى المتعصبين الدينيين، وعلى كل أنواع العصابات التي تشرع العنف ولا تتردد عن اللجوء إليه، وهذه الجماعات إن لم تكن موجودة تتم صناعتها. إنها الوسيلة المثلى لتخريب الاحتجاج ولتفريق المحتجين ولتحقيق رغبة الأنظمة في ألا يكون الصراع سلميا.

 

لذلك ليس هنالك من مخرج سوى مقاومة رغبة الأنظمة في اللجوء إلى العنف، والإصرار على سلمية الاحتجاج حتى بمواجهة رصاص رجال الأمن والمرتزقة والميليشيات شبه الحكومية. النزول إلى لعبة الأنظمة وخوض المباراة وفق قوانينها قد يخلط الأوراق ويجعل التغيير أكثر صعوبة، كما أن طبيعته ستكون مغايرة تماما لتغيير يأتي عن طريق الاحتجاج السلمي. الاحتكام للميليشيات، وعسكرة الاحتجاج سيهمش صوت المجتمع المدني الذي قاد الاحتجاجات في معظم البلدان التي شهدتها، وسيدفع إلى الواجهة بحملة السلاح من المقاتلين وزعمائهم من أمراء القتال، وستحل التوازنات العسكرية وتكتيكاتها، محل التحركات المدنية والمظاهرات. في ليبيا تم إيقاف تفوق قوات النظام عبر تدخل «الناتو»، لكن هذا التدخل لن يكون ممكنا في كل مكان، وهو وإن أوقف نجاح القذافي وقواته في استعادة السيطرة على البلاد، فإنه لم يحل الإشكالية الناتجة عن مواجهة عسكرية بين أبناء البلد الواحد تأخذ تدريجيا في تعميق الشروخ الاجتماعية، وقد تنتهي إلى حرب أهلية طويلة، أو تقسيم.

 

بالطبع ليس الأمر دائما في يد المتظاهرين، والخيار السلمي قد يكون مكلفا جدا، لا سيما عندما تغيب الكاميرات والتغطية الصحافية، لكن حيثما كان هذا الخيار قائما، ولو بشروط صعبة، فإنه يظل أفضل من العنف، وقوته تكمن في علنيته التي ستسهم دائما في كسر حاجز الخوف والحفاظ على الطابع الشعبي والجماهيري للاحتجاج. نحن نتعامل مع أنظمة ظل رموزها لسنوات طويلة ينامون ومسدساتهم إلى جانب وساداتهم، ليس أيسر عليهم من الضغط على الزناد، فتلك هي ردة الفعل الوحيدة التي يجيدونها في مواجهة خطر يتهددهم. لذلك لا بد دائما من مفاجأتهم عبر خطر من نوع آخر لم يعدوا العدة له ولم يدربوا أجهزتهم على مواجهته. التغيير الذي تصنعه ثورة سلمية أقدر على إنتاج واقع أفضل في المستقبل، لأن المجتمع يدخل المرحلة الجديدة بانقسام أقل وبجروح غير غائرة.

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.