اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• من يمسح عن حياتنا بغزة غبارها

 د. تحسين الاسطل

 من يمسح عن حياتنا بغزة غبارها

 

لم يكن يوم 19 آب عام 1995م  يوما عاديا في الحياة الصحفية الفلسطينية ، ففي ذلك التاريخ صدرت من غزة  صحيفة "الحياة الجديدة" بنسختها اليومية ، لتضيف للصحافة اليومية الفلسطينية رقما صعبا في المنافسة ومناقشة هموم الناس ، وفتح أفق جديد لحقوق الإنسان وحرية المواطن وحقه بالمعرفة وتعددية الراى والتعبير، والذي تزامن مع قدوم السلطة وإخلاء قوات الاحتلال المدن الفلسطينية بالقطاع.

ومع اشراقة "الحياة الجديدة " في ذلك التاريخ ولدت حياتي الصحفية كما عدد من الزملاء فلم يكن لنا أي تجربة صحفية قبلها ، وفيها بدأنا نطبق عمليا ما ندرسه في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية بغزة ، وفيها تشربنا مهنة المتاعب وعشقناها فلم نعمل بغيرها ، وفيها رأت النور الكثير من الأقلام التي أصبحت لامعة ولها تأثيرها وكلمتها من كل الاتجاهات والاختلافات السياسية ، وأصبح لـ"الحياة الجديدة" تأثير في الساحة السياسية ، لدرجة أن الصحيفة وسمت من قبل الاحتلال أكثر من مرة بشرف أنها تحريضية ومعادية للسامية، وتعمل ضد السلام.

منذ ذلك التاريخ اعتاد المواطن الغزي أن يطالع "الحياة الجديدة" كل صباح ، وأصبحت جزء منه ومصدر رئيس لمعلوماته ، حتى في أيام اغلاقات الاحتلال للمعابر ومنع دخول الصحيفة لغزة ، كانت الصحيفة تطبع في غزة ، لأنها بالأساس تصدر من غزة ، كما تعرف نفسها وكما يعرفها الجميع ، فبسواعد إعلامية فلسطينية لامعة، أمثال صاحب "حياتنا" حافظ ألبرغوثي و"انتباهة" حسن الكاشف ، و"الموقف السياسي" لنبيل عمرو أقلعت "الحياة الجديدة" من غزة ، وحلقت بجناحي الوطن تبشر بحياة جديدة بعد سنوات الاحتلال البغيض، فكم سكب هؤلاء الفرسان الحبر على الورق في الشتات وصنعوا صحافة بعيدا عن الوطن ، ليعودوا إلى الوطن وينظم إليهم نخبة من صحفيي الضفة الغربية وقطاع غزة شكلوا أسرة "الحياة الجديدة"، وأراقوا معا الحبر بعد الدم لصناعة صحافة فلسطينية على الأرض الفلسطينية.

بالأمس وبعد ستة عشر عاما من صدور جريدة "الحياة الجديدة" من غزة، اجتمع العاملون بها بمقرهم في مدينة غزة  ـــــ هذا المقر الذي كان لا ينام حتى تطبع الجريدة ، وبعد ساعات قليلة تبدأ دورة جديدة من العمل اليومي ليعج المكتب بالحياة الصحفية والإنسانية من جديد، فإلى جانب العمل الصحفي المعتاد ، كثيرا ما كانت "الحياة الجديدة" ملاذا للمظلومين والمسحوقين تحمل الألم وتعطيهم الأمل ــــ وكان هدف الاجتماع مناقشة همومهم، إلا  أن هم مقرهم فرض نفسه على الاجتماع، لحاله المزري، فقد اكتسى بغبار الإغلاق الذاتي لسنوات طويلة ، فالغبار يغطي كل شيء، وقطعت الكهرباء والمياه والهاتف والانترنت ، لعدم دفع الفواتير ، فرغم انتصاف النهار خلال الاجتماع ، إلا أن الظلام طغى على المكان، فغابت الرؤية بالمكان كما غابت رؤية الزملاء أسرة "الحياة الجديدة" لمستقبلهم، والطريق الذي يسيرون فيه.

صحيفتنا تطمح بالمنافسة ، والتربع على عرش الصحافة المطبوعة في فلسطين، ونيل رضي القراء ، بمناقشتها الموضوعية وملاحقها المتخصصة ، ونريد ان تحقق هذا النجاح وهي تطير بجناح واحد، ونجد من يبرر أن لا جدوى من إعادة فتح المكتب في ظل منع إدخال الصحيفة إلى غزة، فإذا كانت صحيفة رسمية فلسطينية لا ترى جدوى في إعادة فتح مقرها بغزة بسبب أن الصحيفة لا تصل لغزة ، فما البذخ الذي يدفع صحف عربية ودولية افتتاح مكاتب لها في غزة، غير اعتبار أنها من المناطق الساخنة باستمرار، ويروا من واجبهم القومي والديني والإنساني متابعتها ، وتزويد قراءها بحقهم بالمعرفة ، وهو عقد إعلامي طبيعي بين الصحيفة وقراءها.

وأقول لمن بيدهم أمر مقر "الحياة الجديدة" بغزة : ألا ترحموه من الغبار الذي يتكدس فيه، وظلامه الدائم بسبب انقطاع الكهرباء لعدم دفع الفاتورة، احتراما على الأقل لتاريخ المكان الذي أقلعت منه ، فأثناء الاجتماع ومنظر والغبار والتراب الذي يغطى كل مكان، تذكرت مقبرة الجنود البريطانيين في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة ، التي تحافظ المملكة المتحدة على إنارتها وتنظيفها باستمرار، وتعتني بها لأقصى درجة ، وتعين العاملين والحراس فيها منذ الجلاء البريطاني عن فلسطين، رغم أن المقبرة لا يوجد بها أو بالقرب منها أي أبريطاني إلا الجنود الراقدين في القبور، فكم تمنيت أن يعامل القائمون على صحيفتنا المقر الذي انطلقوا منه، وولدت فيه مهنتنا وتجربتنا الصحفية، كالمقبرة الإنجليزية، احتراما وتخليدا للذكريات واللحظات التي أمضت فيه أسرة "الحياة الجديدة "سنين عمرها.

انتهى الاجتماع ولم يجد المجتمعون أية إجابة لأي سؤال، ولم يتغير الحال عما كان عليه منذ أربعة سنوات ، رغم مناقشتها في عدة لقاءات لأنهم باختصار لم يجدوا صاحب قرار يجيب عن تساؤلاتهم ، وفي كل مرة اسمع من الزملاء عبارة "كنت متأكد أننا نجتمع دون جدوى ، ويقسموا أنهم أتوا للاجتماع لأنه فرصة للقاء الزملاء بعد طول انقطاع، وينتهي المشهد بالبكاء على إطلال مقرهم الذي ينتظر من يمسح غباره وينير مكاتبه، ويعيد حياتنا إلى "الحياة الجديدة".

 

والله من وراء القصد

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 *عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.