اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• حزن الواقع المرير وخيارات اليسار العراقي

د. حسان عاكف

حزن الواقع المرير وخيارات اليسار العراقي

 

يمكن القول أن حلقات "حزن الثقافة المرير"، الدراسة التي نشرتها "المدى"  للأستاذ ياسين طه حافظ تضمنت جملة من الأفكار أو الموضوعات الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ الموضوعة الأولى تتعلق بانحسار فعل الثقافة  التنويري ودورها في نشر الوعي والإثارة وانسحابها من منطقة النفوذ والفعل  المباشر، والموضوعة الثانية تتمثل في انحسار الفعل العملي للمواطنين، للجماهير في الواقع الراهن، والموضوعة الثالثة انحسار الفعل السياسي الثوري بالمفهوم الراديكالي للثورة كما تطرحه الورقة، ويرتبط بهذه الموضوعة حسب الورقة شعور المثقفين والسياسيين بأنه لا جدوى من التفكير بالثورة، أيضا بالمفهوم الراديكالي للثورة أو لعملية التغيير الثوري، موضوعة أخرى تتعلق بالدور الفاعل للقوى الخارجية في اندلاع الثورات وإخمادها، بتقديري الورقة أعطت هذه القوى أهمية كبيرة نسبيا، اكبر من حجمها ودورها. والموضوعة أو الفكرة الأخيرة هي ظاهرة العولمة الرأسمالية والحركة الاحتجاجية العالمية المعارضة لهذه العولمة.

من خلال تناوله لهذه الموضوعات يتوصل الأستاذ ياسين طه حافظ الى استنتاج مهم وصحيح حين يصف المرحلة التي نعيشها باعتبارها "مرحلة غبشية"، أي مرحلة مشوشة مربكة تتسم بالتراجع والالتباس أحيانا سواء بالنسبة للمثقفين او للسياسيين أو بالنسبة للأطر والتنظيمات الثقافية والسياسية وعموم الحركات والأنشطة المجتمعية.

 أيضا تضمنت الورقة حديثا ليس بالقليل لما سمته "بالراديكال او الماركسيين أو الشيوعيين والحزب الشيوعي العراقي". وربطت بشكل عضوي وواقعي بين الماركسيين او الراديكال واليسار عموما وما يواجهونه اليوم من انحسار لدورهم السياسي وبين الثقافة وما تواجهها من حرج وصعوبات.

رغم أن عنوان الدراسة موضوع البحث هو "حزن الثقافة المرير" إلا أنها ذهبت ابعد من ذلك وتحدثت عن "حزن الواقع العراقي المرير" سواء بالنسبة للمشهد الثقافي أو للمشهد السياسي او للمشهد الاجتماعي، وهذه المشاهد جميعها تبعث اليوم على الحزن والوجع وشيء من الاكتئاب، هذا الوجع لاحت بداياته منذ ربع قرن أو ثلاثة عقود من الزمن.

ولو أجرينا مقارنة بين أوضاع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين مع ما نعيشه اليوم، سنجد ان المفارقة التاريخية تتمثل في أن بداية القرن العشرين كانت مرحلة صعود ونهوض للفكر التنويري النهضوي، الفكر العلماني المدني وكان هذا الفكر على الدوام خلال مرحلة النصف الأول من القرن العشرين يتقدم ويزحف من خلال تحقيقه لانتصارات ونجاحات ثقافية وسياسية واجتماعية تتعلق بالحريات المدنية العامة والخاصة وببناء الدولة وبحقوق المرأة وحق التعليم للجنسين وغيرها من الظواهر الجديدة التي عاشها العراقيون في بداية القرن الماضي، في حين نرى انه منذ نهاية سبعينيات او بداية ثمانينيات ذلك القرن وحتى الوقت الحاضر تغيرت الصورة وأخذت قيم الحداثة والتقدم والفكر المدني تخلي مكانها تدريجيا للمفاهيم والقيم التقليدية؛ الدينية والعشائرية والقبلية المحافظة، قيم المجتمع الأهلي.

لا أريد أن أخوض في الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع، فقط أقول أن هذه الظاهرة تكاد تكون ظاهرة عالمية غير مقتصرة على منطقتنا أو بلداننا. وفي ما يتعلق في بلداننا يمكن الإشارة إلى عاملين مهمين ساعدا على إنضاج هذه الظاهرة وتطورها ومن ثم إذا صح التعبير هيمنتها على المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي، الأول يتمثل في فشل المشروع القومي العربي الذي وعد الملايين بمشروع الوحدة والتحرير، والثاني يرتبط بإخفاق المشروع الماركسي اليساري ووعده ببناء الاشتراكية، أخفقنا نحن الشيوعيون في العراق حتى الآن في بناء الوطن الحر والشعب السعيد. الواقع الذي نشأ بغياب المشروعين القومي واليساري ترك المجال مفتوحا أمام الفكر المحافظ الديني والقبلي والعشائري وقيم المجتمع الأهلي كي تتقدم وتنتشر لملء الفراغ.

اتفق مع ما ورد في الورقة ومع ما أكده الأستاذ ياسين طه حافظ في بداية حديثه انه ينبغي مراجعة المسلمات من قبل القوى والأحزاب السياسية العاملة في الساحة العراقية. ويستشف من الورقة ومن بعض المداخلات التي طرحت وكأن اغلب هذه الأحزاب ان لم يكن جميعها لم تتخذ خطوات تذكر على هذا السبيل، وما تزال متشبثة بطروحاتها وأفكارها ونظرياتها القديمة إذا صح التعبير، ولم تقم هذه الأحزاب بأي مراجعة جدية نقدية لمواقفها وسياستها ولمرجعياتها الفكرية والايدولوجية وأساليب عملها السابقة. أنا اختلف إلى حد ما مع هذه الطروحات والتصورات.

إذا أردنا التحدث بشكل عام استطيع القول أن اغلب القوى السياسية العراقية حاولت وتحاول، وبدرجات متفاوتة، إجراء تغييرات في طروحاتها و افكارها وبنيتها وفي ممارساتها العملية، بالرغم من انه ربما لم تقم جميعها بعملية تقييم حقيقية موضوعية وتنشر وثائق بهذا الشأن، ولكن في الممارسة العملية استطيع القول إنها راجعت ممارساتها السابقة والبعض منها راجع أو دقق حتى مراجعه الفكرية والايدولوجية.

أشير الى ملمح يؤكد ما أقوله، وهو أن المتابع للقوى السياسية الموجودة في الساحة اليوم، خصوصا منذ نهاية عقد الثمانينيات وحتى اللحظة، تجاوزت الاتهامات الجاهزة لبعضها البعض بالتخوين والعمالة... الخ. بتقديري اغلب هذه القوى إسلامية كانت ام ماركسية ام قومية (عربية أو كردية)، تجاوزت هذه الممارسة الخاطئة والمؤذية التي كلفت شعبنا الكثير في المراحل السابقة، وايضا بالارتباط مع هذا استطيع القول رغم التناحر والاتهامات القاسية الحالية المتبادلة فان عموم هذه القوى أيضا متوجهة وبدرجات مختلفة الى نبذ اللجوء الى العنف او السلاح او التلويح به لحل صراعاتها وخلافاتها كما كان يحصل في السابق، وهي ملزمة سواء بقناعة أو نصف قناعة بأن تبقى على الأرضية السياسية السلمية في صراعها وتناحرها، وتعلن التزامها بالدستور والتطور السياسي السلمي، وهذا مظهر او ملمح جديد اذا أردنا مقارنته بما كان عليه الأمر في الستينات أو السبعينات.

كان أي خلاف بين القوى السياسية نرى مباشرة حالة من النفير الإعلامي والسياسي والاتهامات الجاهزة، ومن يملك السلطة والقوة كان لا يتردد في استخدام أي وسيلة من وسائل العنف للبطش بمعارضيه. وحتى لا يساء فهمي لا أدّعي أن مرحلة اللجوء الى العنف طويت تماما. يمكن في مرحلة او منعطف سياسي معين  أن يفكر البعض بالعنف، اذا شعر بأن هذا الأسلوب يخدم نواياه، الا أن السائد الآن، هو ان هذه الصفحة أصبحت أكثر انحسارا، ولا أقول تم تجاوزها نهائيا. أعود الى مراجعة المسلمات وسأتحدث عن الأحزاب الإسلامية بعد التغيير وتصدرها للمشهد السياسي، اغلب هذه القوى الدينية شعرت بأن الواقع الجديد يفرض عليها القيام بمراجعة الكثير من المسلمات في برامجها السياسية، مصطلحات مثل الديمقراطية والانتخابات كانت من المحرمات بالنسبة لأغلب هذه الأحزاب حتى نهاية عقد التسعينات، الآن الأمور تغيرت ليس فقط في البرامج او الأدبيات وإنما في الممارسة العملية، حتى مشروع الدولة الدينية لا أقول انه جرى التخلي عنه ولكن لا يطرح الآن في الجدل والنقاش والبرامج السياسية و الانتخابية الراهنة لهذه الأحزاب، هو مشروع مؤجل.

 الحزب الشيوعي العراقي لا يتحدث بمناسبة او دونها عن مشروعه الاشتراكي وبناء الاشتراكية. نعم الاشتراكية ما زالت هي الهدف المستقبلي الذي يسعى الحزب الشيوعي العراقي لبنائه في العراق، ولكن من يطلع على وثائق الحزب في الوقت الحاضر يجد ان الإشارة الى الاشتراكية لا ترد كثيرا خصوصا عندما يجري الحديث عن "المرحلة الغبشية" الحالية كما تسميها الورقة. أيضا توجد متغيرات كثيرة في الفكر القومي العربي باتجاه التجديد والعصرنة، باتجاه الاقتراب من معطيات الواقع الحالي، ربما في العراق لا نتلمس هذا بشكل واضح لكون الفكر القومي العربي جرى اختزاله بفكر البعث السابق، لكن نتلمسه في إطار الأحزاب القومية العربية في المنطقة.

 وضعت دراسة الأستاذ ياسين طه حافظ  اليسار العراقي ممثلا بالماركسيين والشيوعيين أمام ثلاثة خيارات؛ إما تغيير الخامة كما تقول الورقة  او  الإقدام على مغامرة، وربما يقصد القيام بانقلاب والاستيلاء على السلطة، وهذا امر أصبح من الماضي بالنسبة لنا ولآخرين، والخيار الثالث البقاء توفيقيا، معتبرا طروحاتنا الحالية توفيقية.

أحب أن اطمئن الأستاذ ياسين بأن الخيارات الثلاثة التي يطرحها في وصفته لنا ليست في مشروع الحزب الشيوعي ويصعب أن تكون من خياراته، اللهم إلا اذا كان يقصد بمفهوم تغيير الخامة التجديد والتحديث، تجديد الفكر والممارسة، والاستجابة لروح العصر ومستجداته، وإذا كان الأمر كذلك أطمئنه مرة أخرى ومعه الأخوة الحضور وأشير الى أن الحزب الشيوعي ومنذ وقت مبكر، منذ بداية التسعينيات أدرك أهمية إجراء هذه التغييرات في بنيته الفكرية والإيديولوجية والتنظيمية والسياسية.

بالطبع  لعبت الانهيارات التي شهدها الاتحاد السوفيتي ودول ما كان يسمى بالاشتراكية الفعلية سابقا دورا معجلا في إجراء هذه التغييرات. فالحزب توجه منذ مؤتمره الخامس عام 1993 بشكل خاص، مؤتمر الديمقراطية والتجديد إلى تناول  الكثير من القضايا التي كان يتعامل معها باعتبارها مسلمات وحقائق راسخة، باعتبارها قضايا يجب أن تخضع الى النقاش والجدل والتدقيق، ينبغي أن نحتفظ بما لا يزال حيويا ونغادر ما غادره التاريخ. أما الى أي مدى نجحنا فهذا موضوع آخر، ما زال الكثير من الأمور مرتبطاً بالظروف.

اسمحوا لي بأن اقرأ لكم بعض الفقرات من وثيقة فكرية بعنوان "دروس من بعض التجارب الاشتراكية"، صدرت عن مؤتمر الحزب الثامن عام 2007 .

أشارت الوثيقة الى اسباب انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية والتي هي كثيرة وفي مقدمتها غياب الديمقراطية السياسية والقفز على المراحل والمركزية المفرطة والاقتصاد الإداري الاوامري، والتقليل من شأن الحوافز المادية إلى جانب الضغوط الخارجية. وعن العوامل الثقافية والروحية أشارت الوثيقة بهذا الشأن الى "إهمال وتجاهل دور العوامل غير الاقتصادية في حركة التطور في المجتمع وعلى هامشه والتي اصطلح ماركس على تسميتها بالعوامل الروحية، والروحية بالمفهوم العام، نعتبرها ثانوية في كل الظروف أمام الصراع الطبقي، العوامل الروحية التي هي عوامل معقدة في شكل تجليها وفي شكل ممارستها لدورها في الحياة العامة، وتشكل ظاهرة الدين او الوعي الديني المعلن او المقنع او التدين الشعبي جزءا من هذه العوامل، فضلا عن عوامل أخرى عديدة غير واضحة المعالم، ولا تعلن دائما عن وجودها بشكل محدد، منها ما يرتبط في التقاليد الراسخة في الوعي والمشاعر والأمزجة والسلوك ومنها ما يتمثل بالتراث وأشكال الانتماء العائلية والقبلية والقومية".

نعم ما كان يجري من صراع في هذه الميادين لم ينل اهتمام الماركسيين بالتحليل والتقييم ولم ينل اهتمام الأحزاب الشيوعية  لتضعه كعامل مهم الى جانب الصراع الطبقي الذي ما زلنا نؤمن انه محرك أساسي ومهم، ولكن ليس الوحيد، الورقة ايضا أشارت الى انه لم يعد من الواقعية والعلمية في شيء غض النظر عن الشروخ التي أصابت البناء النظري لهذا المشروع اثر انهيار تجارب البناء الاشتراكي، أيضا واضح جدا عندما نتحدث عن شروخ في البناء النظري للمشروع الاشتراكي فهذا ينبغي علينا أن نتوجه لإعادة وجهة نظر حقيقية وجدية لهذا المشروع،، بدأنا نطرح أن هناك عملياً ثلاث نقاط جوهرية، مترابطة جدلياً، لتعريف الاشتراكية وهي: الديمقراطية، والمساواتية (العدالة الاجتماعية)، وتشريك الجزء الأكبر من الاقتصاد (تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج).

نحن نقول "لا اشتراكية بدون ديمقراطية"، وبهذا الشأن أشارت وثيقتنا الفكرية إلى انه ينبغي تأكيد الوحدة الجدلية بين الاشتراكية والديمقراطية، وذكرت بتأكيدات لينين أن من يريد السير الى الاشتراكية بطريق آخر خارج الديمقراطية السياسية يصل حتما إلى استنتاجات خرقاء، ورجعية سواء بمعناها الاقتصادي أم بمعناها السياسي، وبينت التجربة ان الاشتراكية مستحيلة من دون أوسع قدر من الديمقراطية وحيوية الفكر والتمسك بالروح النقدية ونبذ العفوية.

ان عملية الانتقال الى الاشتراكية تتضمن سلسلة من المحطات والتطورات التراكمية وتغطي حقبة تاريخية طويلة نسبيا، ففي شأن الخيار الاشتراكي نرى أن الاشتراكية عملية حياتية تنموية مستقبلية متجددة مع تجدد الحاجات البشرية وسبل توفيرها فهي ليست لحظة ثورية بل عملية بناء متدرج ومتواصل قائم على تفعيل طاقات وإبداع المنتجين الأحرار وعامة الجماهير ويتطلب الأمر مرحلة طويلة من البناء الديمقراطي.

وهناك قضايا أخرى عديدة تناولناها لا يتسع المجال هنا للحديث عنها.ومن بين القضايا التي تركناها مفتوحة للنقاش والاغناء، اسم الحزب وهويته أو مرجعيته الفكرية.

ـــــــــــــــــــــــــــ

جريدة "المدى" الثلاثاء 10/1/2012

* عضو المكتب السياسي للحزب

الشيوعي العراقي

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.