اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• لماذا تركتُ القصيدة وحيدة؟

قصة : هشام بن الشاوي

لماذا تركتُ القصيدة وحيدة؟

 

كنوع من الاعتذار، سألتني بصوتها الرخيم :"لماذا تركت القصيدة وحيدة، أستاذ صلاح؟". أشرت إليها بيدي أن تجلس، محاولا إخفاء ضيقي؛ فلا أحب أن يقتحم أي أحد عزلتي، حتى لو كانت  امرأة في مثل جمالها وأنوثتها. بدا عليها الارتباك، فخمنت أنها  تخشى أن يداهم جلستنا "صديقي الوغد". سألتها :

-        ألست أنت تلك الصحافية، التي اتهمتني بالغرور والعجرفة في مدونتها؟

أطرقت برأسها. لم تنبس ببنت شفة، التفت يمنة ويسرة، وبارتباك أكثر تلعثمت :
- أنا شاعرة أيضا. شاعرة مبتدئة، وأحفظ كل  قصائدك أستاذي، وكنت أحلم بلقائك منذ زمن...!
لم أهتم لإطرائها،  بدا لي الأمر،  وكأنها تتحدث عن شخص لا أعرفه، حتى لو اتهمته بأنه "متعجرف لا يصافح أحدًا !!".

***


   بيسراي، أتناول الجريدة التي يكتب فيها "صديقي الملعون"، ويحرر صفحاتها الثقافية. ورغم ما كتبته من كلام جارح عني، ألفيتني  أشفق على هذه الفتاة العشرينية الغضة، التي بدل أن يعاملها الناقد المشهور بحنو أبوي، ويتغاضى عن عثرات البدايات، ينسف تجربتها الشعرية نسفًا، وبلا رحمة، لأنها رفضت أن تنام معه، فشتمته - قبيل مغادرتها مكتبه بالصحيفة، وهي تسحب ديوانها الشعري من بين يديه  - واصفة إياه بالعجوز المتصابي.

ومن ذلك الركن القصي، شاحب الإضاءة، جاءني ضحكه الصاخب مع فتاة الحان، وانتبهت  إلى أن مجالستي تتململ فوق مقعدها، ولأنني أجيد قراءة لغة العيون؛ العيون التي خصصت كل قصائدي للتغزل بها.. عيون بكل الألوان، ومن كل البلدان، فكان أغلب  المتابعين للساحة الأدبية يتعجبون لأن شاعرًا  رومانسيًّا يصادق ناقدًا وكاتبًا فضائحيًّا. لكن لا أحد يختار أصدقاء طفولته، مثلما لا يختار اسمه ولا وطنه ولا دينه. لمحت في عينيها سؤالا استنكاريا: "لماذا تجالس شخصًا سيء السمعة، كذلك البائس؟".

وجدتني أغرق في ارتباكي أمام طفلتي.. وجدتني أحس بتلك الأبوة التي حرمت منها تجاهها، وأهمس لنفسي : "إن جاء هذا الوغد، وحاول الإساءة إليها، فلن أدعه - هذه المرة-  يتمادى في حماقاته أكثر.. لكن، يبدو أنه لن يعيرها أي اهتمام".

***


تطاوس كعادته. ردد بسخرية : "لقد سرقته مني بنت الكلبة"، وغرق في ضحك هستيري هازئًا من   فتاتي ليل تشاجرتا  من أجل كهل خليجي، لا تعرفان أنه شاعر، لأن لا أحد يعرف ذلك  سوى رواد هذه المقهى/الحانة من الكتّاب والنقاد، وبعض حوارييه من الكتّاب الشباب، الذين يجاملونه حد التملق في المواقع الإلكترونية.

لاح لي أصدقاء الشاعرة الشابة ينقلون  أبصارهم بين طاولتي وطاولة "صديقي الوغد"، كما يحلو لي تسميته،  وقبل أن ينتقل إلى طاولتها، همس في أذني : "هل تراهنني؟ نكاية في ذلك المتشاعر، ستبيت الليلة في حضني،  ودون أن أدفع درهما واحدا".
بصقت على الأرض، حين رأيت الشاعر الخليجي  يغادر المكان، متأبطا ذراع سارقة الزبائن المخمليين في زهو. انتبهت شاعرتي الشابة إلى  رد فعلي، وارتسم على ملامحها الاستهجان، بيد أنني لم أستطع إخفاء غثياني، لأن عهارته لا تسيء إلى أصدقائنا في الخليج فقط، وإنما إلى كل المبدعين، حتى لو كانوا يتندرون بشيطنات "صديقي المشبوه"، الذي يتباهى بأن أغلب المبدعات يخشين قلمه، ولا يقاومن وسامته وشبابه الأزلي، ويفتخر بأنه ضاجع كل كاتبات وشواعر الوطن، وبأن  متعته الكبرى أن يمرغ المتزوجات في وحل الخيانة الزوجية.

لم يبال  "صديقي الوغد " بمن انتقدوه في مدوناتهم،  لأنه أفرد كتابا  لتجربة شاعرة خليجية، متواضعة الموهبة.  اتجه ناحية طاولات بعض الكتّاب الشباب،  وبحماس  ذكر يأبى أن يعتلي نساء قطيعه ذكر غريب هتف : "تعتقدون أنني كتبته من أجل مكافأة خيالية، لكنكم لا تعرفون أنني أعدت المجد لوطنكم الغالي، بعد أن استباح الغوغاء عرضه. هل تعرفون أنها قضت معي شهر عسل هنا، وبدون زواج... في كبريات المدن السياحية؟".

 تركهم مشدوهين، وأقبل نحوي باسمًا : "أفحمتهم !!".

***

 

رأيته إلى جانب فتاة الحان، وهو يضع قدميه على كرسي قبالته. فكرت أنه  يواسيها- همسًا- بأنها الرابحة، بينما زميلتها اللصة هي الخاسرة، وكانت يده تمارس طقوسها السرية، دون أن ينتبه أحد لما يفعل. كان يبدو، وكأنه يحتضن ذراعها ببراءة، كالآخرين،  بينما كانت أنامل يمناه  تدغدغ ما تحت إبطها، وانتبهت إلى أنها ترفع ذراعها  الأيمن قليلا، وكان يدخن سيجارته الأمريكية  في زهو، ورأيتها تضغط على يده دون أن تتكلم، ثم ترفع ذراعها بما يكفي لكي تلامس أنامله فاكهة صدرها، وانتبهت الشاعرة الشابة لشرودي، فالتفت لتصطدم بالأصابع، التي رفعت  أكثر من شاعرة إلى علياء المجد الأدبي، تلك الأصابع التي أطلقت قذائف قصفت مملكتها الشعرية الواعدة.. تداعب - بوقاحة نادرة-  حلمة المرأة، التي لاذت بالصمت، بينما ملامحها المحتقنة فضحت ما تكابده، وهي تعض على شفتيها، وعندما همت شاعرتي الشابة بالمغادرة، انتبهتُ إلى يدها الممدودة، التي بقيت معلقة في الهواء، فسارعتْ بالاعتذار، وهي على أهبة البكاء : " عفوًا، أستاذ صلاح، لم أقصد.. والله". لذت بالصمت، لأنني لم أجد  كلامًا يناسب هذا الموقف الموجع، وصديقي وفتاته يغادران طاولتهما، ويغمزني بعينه، وهو ينتظرها حتى  تغير ثيابها.

***

 

عند البوابة، مرت  بمحاذاته الشاعرة الشابة، هتف، وهو يلتهم مفاتنها بنظرات وقحة :  " جسمك قصيدة لم تكتب بعد، قصيدة سريالية  لن يفك طلاسمها غيري". صرخ في وجهه أحد أصدقائها الشباب : " أنت شخص غير طبيعي. أتعجب كيف صرت من أساطين المشهد الأدبي، أيها الخسيس!"، ولكي يحرجه أمام  صديقاته المبدعات الشابات هتف: " بفضل هذا"،  وهو يشير بكثير من الزهر بيده نحو حجره..

 وشيّعهم بضحكه الفاجر، مباركًا لعناتهم وشتائمهم.

***

غرقت في ضحك طفولي، رغم  استهجاني لمثل هذه الكتابات القذرة، وهاتفته فور انتهائي من قراءة تلك القصة الرجيمة : "عليك اللعنة"،  ضحك حتى البكاء، وحدثني عن   المكالمات الهاتفية، التي تتهاطل عليه منذ الصباح،  وكل من اتصل به يضحك، وهو يذكره  بوصفه الحار والساخر.. للسيدة التي كانت تترجاه  أن يعيد نفس الطقوس؛ أن يخلع تبانها بأصابع متبتلة،  ويقبل في ضراعة  أعتابها الشريفة، وهي منبطحة على بطنها، لم يذكر اسمها، لكن كل الكتّاب والنقاد عرفوا أنها زوجة رجل متنفذ في الدولة، لا أحد يحبه... لأن زوجها  كان متورطا في تعذيب سجناء رأي.

***


   وجدتني وحيدًا أغوص في  عتمة ركني المعتم في الحان، والليل يلفظ أنفاسه الأخيرة.. أفرج عن يدي، التي حكم عليها  بألا تغادر جيب  معطفي الشتوي، الذي  أرتديه صيفًا وشتاءً.. لأنه وحده، الذي يخفي عاهتي المستديمة. ألفيتني مع كأسي أحن إلى  جارتي المنقبة، التي  لم أراها هذه الليلة، وهي تتلصص علي كل  فجر، عند مغادرة زوجها إلى المسجد. رجاءً،  لا تسيئوا بي الظن، فلست شيطانًا مثل صديقي، الذي فضل أن يعيش أعزب مدى الحياة، بعد قصة حب عاصف، وأن ينتقم من حبيبته ومن  زوجها، الذي لا يطيقه أحد في هذا البلد، وحين انتشرت تلك  القصة/ الفضيحة كالنار في الهشيم طلقها. فقد وصف الشيطان بحرارة كل التفاصيل، مستغلا خبرته الفراشية، مما يجعل قارئ القصة يحس، وكأنه يشاهد  مقطع فيديو  ساخن، فضلا عن تعمده التغزل بعلامة الوحم، والتي لم يرها سوى زوجها، وسيستغرب  كيف عرف ذلك الكاتب المجنون بوجودها، ويحدد مكان تواجدها  في خارطة ظهرها. قرر أن يفضحها، وهو الذي قضى سنوات يبكي حبها، يتوسل إليها بكل الوسائل، لكي تبيت في حضنه ليلة واحدة.

***

 

بعد  أن  تلاشت  نشوة  الفرح بالانتصار على  قاتلته، طرق بابي فجرًا. أخبرني أنها رفضت أن تترك له  ملابسها الداخلية، كتذكار كالأخريات، ربما.. خشية أن يرسلها إلى زوجها. فاتجه نحو الصوان، ورمى في وجهها عشرات الملابس الداخلية المعطرة، وعلى كل قطعة اسم صاحبتها،  فغادرت الحجرة، وهي  تلعنه : " أنت حقير.. أنت غير طبيعي. من يدري، ربما صورتني، وأنا معك؟ سأجعل زوجي يدمرك." ، ثم استطرد، وهو على شفير النشيج :  "كل من هاتفوني وقهقهوا  حتى دمعت أعينهم، لا يعرفون أنها حبي الوحيد. لماذا أنا هكذا؟ لماذا صرت شريرًّا؟ من الذي جعلني أصير نذلا إلى هذه الدرجة، وكنت مشروع روائي رومانسي باذخ؟".

 لم أنبس بأية كلمة، اكتفيت بالإصغاء، ثم رأيت جسده ينتفض فوق المقعد، ويغرق في بكاء كالأطفال، استوى واقفًا،  اتجه إلى المطبخ، وعاد  حاملا   كأس نبيذ، وجلس قبالتي، واضعًا قدميه على سطح المكتب، وكنت أقرأ  ديوان الشاعرة الشابة، التي انتقدها بضراوة، وحين أشدت بكتابتها، هزّ رأسه بالإيجاب : " إن كتابتها متميزة؛ أفضل من كتابات العجائز المتصابيات المتشاعرات.  كم أحتقر نفسي، بعد نشر ما  أكتب عنهن. أحس بأنني حيوان وضيع، حين تطلب  مني إحداهن أن نلتقي في بيتي، مرة أخرى، للتعبير عن امتنانها، كما ينبغي  بناقد كبير مثلي.. طبعًا على الفراش. لكنك تعرف أنني لا أحب أن أسْرَق مرتين،  يكفي أن حبي الأول والأخير سرق مني  مرة واحدة. ليس من المعقول أن أصمت دائمًا. هل تعرف بأن جاراتي يرمقنني في احتقار، وربما فسرن عدم زواجي بأنني عنين أو خنثى...؟".


ولأنه شيطان، لم أنتبه إلى أنه  تعمد أن يجلس قبالة شباكها، وأنا الذي كنت أكتفي بمتابعة حركاتها - بابتهاج طفولي - من خلال صورتها المنعكسة على  زجاج الصورة الموضوعة قبالتي أو شاشة الحاسوب. تظاهرت بالغباء، ورأيته  يتأفف من الحر، ويتعمد فتح أزار قميصه ويعض شفته السفلى، وهو يلمح  طيف امرأة  من خلف  ستارة، وإضاءة خافتة تنبعث من حجرة أخرى. لكن، سرعان ما انطفأ الضوء، وانطفأت معه شعلة أمل يترنح في أعماقي. فهتف ضاحكًا :

- التقيت زوجها كئيب السحنة أمام الباب. ألقى علي  تحية الإسلام، ولم أرد عليه.. ناقد كبير في حجمي يرد على الغوغاء. 

-...........

- أمازالت تتصل بك؟

- .............

 -   وما نهاية هذا الحب المجنون؟
   - حب؟.. إنها مجرد امرأة، لعلها معجبة بشعري، ثم لا تنسَ أنها صديقة زوجتي، عفوًا،  أقصد طليقتي. ربما، كانت مكلفة بمراقبتي.. أنت تعرف أن أمينة تحبني بشكل لا يطاق، وأنا أيضًا، حتى بعد زواجها، ما زلت أحبها، (ابتسم ابتسامة طفولية)، لقد طلبت مني قصيدة حتى أرى وجهها. اعتذرت لها بأنني لم أعد أكتب الشعر منذ سنوات، ولا أريد كتابته. يكفي أنني لا أنام ليلا. صرت أخاف من النوم، فذلك السيف  يلاحقني مثل كابوس كريه، كلما أغمضت عيني.
- لم تحول كل شيء إلى ميلودراما؟ ليتني أجد من يبتر  كل أصابعي،  وحتى عضوي التناسلي.. ويريحني من هذا الغثيان. يا صديقي، أنت تستعذب تمثيل دور الضحية.  يكفي أن حملة التضامن العربي الواسعة جعلت  ذلك البلد المتخلف يدفع تأمينا خرافيا، فضلا عن راتب شهري، لا يحلم به أي وزير  هنا،  ومدى الحياة.
- وما جدوى كل هذا، وأنت تعرف أنني طلقت زوجتي، لأنني لم أتحمل نظرات الرثاء  في عينيها؟. كان فراقنا حضاريًّا، بدون  أن نتشاجر أو  أن يسيء أي واحد منا للآخر. طلبت منها أن تنساني..  بقيت تتصل بي هاتفيًّا  سنة، ولا أرد على مكالمتها الهاتفية. تعرف أنه لم يكن - يومها- هواتف محمولة ولا حواسيب.  حين  بدأت تتهاطل علي تلك الرسائل القصيرة  على هاتفي الجوّال، اعتقدت أنها أمينة، وكنت أتمنى أن تكون هي.. !!  حين اتصلت بصاحبة الهاتف، بعدما لم أعد قادرًا على مقاومة فضولي، ولا على احترام  رغبتها بألا  أرد على رسائلها.. اكتشفت أن من يرد علي رجل، فاعتذرت له...  

- لعله كان الملتحي..

- ثم صارت تتصل بي مخفية رقمها، وحتى بعد أربعة أشهر من التواصل، رفضت أن تعطيني رقم هاتفها.
- لا تنسَ أنها سيدة متزوجة، ثم لمَ  تكتب قصيدة؟.. من أجل رؤيتها، بدون نقاب !.

-        لعله إحساسي بالوحدة والوحشة فقط. أنت تعرف أنني صرت أمقت النساء. لم  أستطع أن أنسى نظرات الشفقة، الممزوجة بالغثيان في عيونهن  عند رؤيتهن يدي اليمنى.

-        لا أصدق أنها صديقة زوجتك، ففارق السن كبير...
- وهل نسيت أن أمينة تصغرني بحوالي عشرين ربيعًا؟
 
- في هذه الحالة تستطيع أن تتعرف إلى ملامحها بدون قصيدة. اخرج صباحًا، استيقظ مبكرًا. قف عند الباب،  وانتظر أطفالها،  وهم يغادرون  البيت في اتجاه مدارسهم. طبعًا، زوجها كئيب السحنة  لا يضع نقابًا (أغرقا في الضحك)، وتستطيع أن تعرف إن كانوا  يشبهونه أم لا، ومن لا يشبهه فهو صورة طبق الأصل من شبحك، عفوًا... من فاتنتك المجنونة.


لذت بالصمت، وارتسمت أمام عيني صورة البنت، التي لا تشبه أخويها.. بشعرها الذهبي وملامحها الملائكية، وغرقت في  بحيرة من الفرح الحزين، والتمعت  عيناي لما غشاهما من دمع..



***


كفكفت دموعي، عندما تجاوزت بوابة الحانة. كنت في أمس الحاجة إلى البكاء، كأنه ذلك الإحساس، الذي كان ينتابني قبيل كتابة أية قصيدة. فكرت في أن أكتب قصيدة لأتخلص من هذا الشجن. بيد أنني لا أجيد الكتابة بيدي اليسرى، إنني أغرق في الدموع،  حين أتناول أي شيء.. فأنظر إلى ثيابي، التي ألطخها كالأطفال بالطعام المتساقط. المهم أن أكتب تلك القصيدة في ذهني، وبعدها سأحاول رقنها على الحاسوب بإصبع واحدة، فهناك أكثر من صديق يتباهى بأنه يكتب بإصبع واحدة. سأكتب هذا الأمل الذبيح. مهلا !  كيف أطاوع مشاعر امرأة تتعلق بي دون أن تراني؟..

 

إنها ترى شباكًأ مفتوحًا طوال الليل لرجل كهل خلف إضاءة خافتة. رجل لا ينشغل بالتلصص على أحد، يترك شباكه مفتوحًا.. حتى إذا داهمه الموت رآه جيرانه. لعلها تعاني من حرمان جنسي، كأغلب زوجات مستخدمي ذلك المعمل، كما يدعي "صديقي الوغد".  للأسف، الإعلام يتحدث عن ذلك المعدن كأحد ركائز الاقتصاد الوطني، وكمصدر رئيس للعملة الصعبة. لكن، لا أحد يتحدث عن سلبياته...

 

ذات فجر، جاءني "صديقي الوغد" ضاحكًا، وأخبرني أنه قرر أن ينتقل للسكن بجوار موظفي (...)، وحدثني  بفرح طفولي عن المرأة، التي رآها تحت جنح الظلام، تحاول تسلق سور التجمع السكني، ولم تشأ أن تدخل من المدخل الرئيس،  حتى لا تثير الانتباه إلى قضائها ليلتها خارج بيتها، أثناء  تواجد زوجها في العمل، وعادت قبيل مجيئه.. ساعدها في  اعتلاء السور، وبالغ في مديح  طراوة مؤخرتها، التي أمعن في مداعبتها : " لم أغادر إلا عندما أخذت منها رقم هاتفها الجوال، وطبعًا، تأكدت منه  في الحين. أنت تعرفني.. (قهقه) كانت تحاول التهرب مني بلباقة، فهددتها بأنني  سأفضحها أمام جيرانها".

 

لم أحاول نفي ما سمعت، بيد أن أخلاق أبنائهم تؤكد أنهم أبناء زنا.. كلما شئت أن أنام نهارًا.

 

***

 

 وحيدًا، أذوب في سكون الشارع الخالي، أفكر بصوت مسموع :  لم سأكتب قصيدة جديدة، وأنا غير قادر على تقمص  دور الحاوي، الذي يخرج أفعى اللذة من جحرها؟ أية امرأة تستطيع أن تتحمل معاشرة رجل بذراع واحدة؟ ما طعم الجنس بدون عشرة أنامل  تعزف على بيانو الجسد؟حتمًا، سيكون آليًّا، ورخيصًا، كأنك تضاجع عاهرة. أعرف أن ما أقوله وقاحة، وربما اتهمت بأنني  شبيه "صديقي المشبوه".


أكفكف دموعي بيسراي، ولم أفطن إلى أن  معطفي الشتوي في مثل هذا الجو الحار مثير للشبهات. بوغتت بسيارة الشرطة تتوقف أمامي، قفز منها  في رشاقة شاب طلب مني أن أخرج يدي اليمنى من جيبي. نظرت إليه شزرًا : "هل هناك قانون يمنع المواطنين من وضع  أيديهم في جيوبهم؟".


لأول مرة،  بدوت عدوانيًّا، فكرت في أن أصرخ في وجوههم، وهم يسألونني : "ماذا تفعل في وقت كهذا؟". لذت بالصمت برهة، وجدتني حريصًا على سمعتي الأدبية، أو بمعنى أصح : مجدي القديم وصورتي الطيبة.

رمقت الشرطي في تأفف، وهو يتهجى حروف اسمي، بصوت مسموع..  وسألني بابتهاج  متلعثم: " هل أنت من  يعلنون في التلفزيون عن حوار معه  سيذاع في آخر هذا الشهر؟". رفعت رأسي بالإيجاب، وهتف الشرطي بأسارير متهللة :   " أستاذ صلاح. أنا فلان الفلاني. هل قرأت مجموعتي القصصية؟ أنا الآن بصدد كتابة رواية.."، ببرود غمغمت : "جيد"،  ولم أعد أسمع ثرثرته، فقد رأيته يشهر سيفًا  لامعًا في وجهي، وهو يبتسم في خبث، فتراجعت إلى الخلف مذعورًا، وهو يمد  إلي بطاقة هويتي، وسألته : "هل اليوم.. يوم الجمعة؟". تفاقمت دهشته، فدسّ البطاقة في جيب معطفي في صمت، واستقل السيارة، التي راحت تنهب الطريق...

 

ألفيتني ألعن ذلك الكابوس الكريه، الذي انقض علي، في هذه اللحظة، وأنا يقظ. كابوس حوّل  حياتي  إلى مجرد "فلاش- باك"، فاختصِرَتْ في البيت والحانة.

رأيتني  أمد - بل مازلت أمدها حتى الآن- يدي اليمنى، ذات جمعة في ساحة عمومية.. ومازلت حتى هذه اللحظة، أرى أصابع يمناي التي لم أرها يومها- لأنني كنت معصوب العينين- تتطاير في الهواء.. مازال حدث البتر يتكرر، مع كل كابوس، فأستعيد ألمًا فظيعًا  ينتشر في كل أصقاع جسدي، مع دمي الهارب مني، كإدانة عاجزة.

 

لم تستنكر الصحف المحلية بتر أصابع شاعر عربي، لأنه هجا زعيم ذلك البلد، حيث كنت أعمل مدرسًّا. كانت قصيدة هجاء لاذع، موغلة  في رمزيتها، لكن بعض النقاد العرب من زبانية ذلك النظام الشمولي فسروها. لا أنكر أن هناك من قاموا باغتيال الوشاة، عند عودتهم إلى بلدهم وتأسيسهم تنظيمًا سريًّا متطرفًا ممولا من طرف طاغية ذلك البلد المضيف. لا يهمني ذلك، ولا أعتبره قصاصًا عادلا. فلا أحد  يستطيع أن يتحمل كابوسًا  يوميًّا رهيبًا، فيعاين بعينين مفتوحتين سيناريو  بتر أصابعه، ويستيقظ  مذعورًا.

وأنا أقترب من بيتي، ألقي نظرة أخيرة على يدي اليمنى، كريهة المنظر.. كأنما أبحث عن بقايا دم طازج، ثم أدسها في جيب معطفي الشتوي، وجيراني يسرقون مني بهجة السكون بصخبهم الصباحي، فأواصل طريقي مطرق الرأس، متجاهلا "سلاماتهم"  وأيديهم التي تتعالى هنا وهناك...

أزمور، 17 يونيو 2010

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.