اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

• "المنسيون".. بقايَا ذكرى وبقايَا جُرح..

صباح كنجي

 "المنسيون".. بقايَا ذكرى وبقايَا جُرح..

 

 

قبل اشهر اتصل بيّ عبر الهاتف من محطة بين العراق والمهجر شاب في طريقه للهجرة موضحاً وهو في غاية الحرج.. انه شقيق الشهيدين أبو ماريا

وكاروان.. واستنجد بشيء من الخجل بيّ ومن خلالي برفاق شقيقيْه وأصدقائهم طلباً المساعدة الممكنة كي يواصل مشواره ويصل إلى البلد الذي ينوي التوجه إليهِ...

 

تذكرتُ شقيقهُ الكبير بير جوقي (أبو ماريا) الذي كان من بين شغيلة إدارة وحراسة مقر محلية الموصل للحزب الشيوعي العراقي أثناء العمل العلني في منتصف السبعينات.. وتذكرتُ أيضا خصاله واندفاعه وانضباطه واستعداده اللا متناهي لتقديم ما يمكن أن يقدمه كل من يطلب منه المساعدة.. إذ كانَ يتمتعُ ويتباهى بمساعدة الناس كل الناس، في المقدمة منهم رفاقه..

 

أبو ماريا كان دائم الابتسامة.. لم أجدهُ يوماً عصبياً أو يتخاصمُ مع من حوله.. كان صديقاً مُحَبباً للكل، والكل يودهُ ويعتز به...

 

مع استفحال الهجمة الإرهابية البعثية على الشيوعيين عام1978 وسَدِّ وإغلاق مقراتهم وزوال فترة العمل العلني انقطعت أخبار أبو ماريا.. ليفاجئنا ذات يوم بوصوله إلى محطة للأنصار ويعلن التحاقه... حدثني عن تسفيره للخطوط الأمامية في الجيش مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.. وتمكنه من إقناع الطبيب بحالة مرضية أفتعلها كي يُرسل إلى الخطوط الخلفية، ومنها توجه في إجازة مؤقتة للراحة لمدة أسبوع بقي فيها يومين مع زوجته ووالدته وأشقائه قبل أن يتوجه إلينا في سهل الموصل ليرافق مجموعة الأنصار نحو مقرهم الشهير في مراني بين شعاب جبل كارة الأشم..

 

بين الأنصار في مراني والمفارز الجوالة كان أبو ماريا نموذجاً للشيوعي الملتزم.. والنصير المنضبط.. المتفاني.. المتفائل.. الضحوك.. كالماء الرقراق ينزلق بين الصخور وينتقل من وهد لآخر.. هكذا كان أبو ماريا ينتقل بين مجاميع الأنصار يضحكُ ويُضحكهم في أقسى الأوضاع وأصعبها.. وفي كل يوم كانت المودة بينه وبين الآخرين تزدادُ وتتعمقُ.. هكذا ألفناهُ وأحببناهُ بلا حدود.. وأحببنا شقيقه الوديع كاروان الذي التحقَ هو الآخر بعد اشهر من مجيء أبو ماريا إلى الجبل، قبل أن يقدم النظام الدكتاتوري على ترحيل وتسفير العوائل وإبعادهم إلى كردستان شتاء عام 1986.. بينهم داي هوري والدة أبو ماريا وكاروان.. تلك الأم المثالية التي أنجبت وربت أبنائها وأرضعتهم طيبة وإخلاص وأغدقت عليهم حباً وحناناً يفيضُ من عَرق كدحها بعد وفاة والدهم... عَدَتْ الأيام .. تسارعَ الزمن... لم يمضي إلاّ وقت قصير لا يتعدى الأشهر على التئام شملهم في الغرفة الصغيرة في قرية ميزي، حينما توجهت مفرزة نحو سهل الموصل في قوامها أبو ماريا.. لتستقر بعد عناء المسير لسويعات للراحة عند منتصف الطريق بين بير موس وكلي كورتك.. اسْتغلها البعض منهم لتناول شيء من الطعام الذي حملوه في حقائبهم الصوفية..

 

وعند استعدادهمْ للحركة فاجأتهم الطائرات السمتية وهي تطلق نيران رشاشاتها وصواريخها لتردي دفعة واحدة مع أبو ماريا ثمانية من رفاقه المتأهبين للانطلاق عصريوم23/5/1985... كانت كارثة لا  بل مجزرة حقيقية..

 

لم نتمكن من إخفاء الخبر عن داي هوري.. وحينما تقرر مفاتحتها بفقدان ابنها البكر تماسكت داي هوري .. لجأت للسكينة.. لذلك النوع  العميق من الحزن.. دفنت مشاعرها.... لا بكاء ولا نواح.. هدوء وسكينة وامتناع عن الطعام والحزن الصامت...

 

في هذا الجو الصامت بعد أقل من ستة أشهر... اغتيل ابنها الآخر النصير كاروان على بعد أمتار منها مساء ليلة سوداء وهو ذاهب ليجلب خميرة لبن من بيت جيرانهم بتاريخ18/11/1985.. استقبلته رصاصات الغدر ليموت من جراء نزيف حاد في ساعده لم ينفع معه تدخل الدكتور جهاد الذي وصل إلى مكان الحادث بعد ساعتين فقط.. ساعتان كانت كافية كي تستنزف مع دمه روحه... كان أقسى ما في الأمر حالة داي هوري وهي في حزنها المتداخل بين بكرها أبو ماريا وشقيقه الآخر كاروان..

 

هاهي هي تفقد ابنيها الواحد تلوى الآخر..  تفقد الاثنين تباعاً في زمن مختزل  وفترة مختزلة يتكثف فيها الحزن والصمت.. انه حزن داي هوري.. ومعها مام أحمد الذي فقد ابنيه جاسم وجميل هو الآخر في ذات الفترة.. أبو ميفان الشهيد جاسم اغتيل وهو في طريقه إلى البيت في قرية سواري بالقرب من وادي آفوكي، وأبو هلال الشهيد جميل في حادثة الطيران مع أبو ماريا..

 

مام احمد هو الآخر تظاهر بالتماسك والكبرياء.. لم "يذرف" دمعة على فلذات كبده، على الأقل أمامنا.. وهو ما فعلتهُ أم الشهيد سلام (حميد دخيل) هي الأخرى في لحظة تلقيها لنبأ استشهاد سلام .. 

 

هذه المفارقة... تدعوني لأستذكر تفاصيل تلك الأيام.. أعود بذاكرتي إلى أجوائها.. حينما اصطحبنا مساءً داي هوري إلى مسكن من غرفة واحدة شيدناه لام عمشة وأطفالها قبل أيام.. لم تنم داي هوري ليلتها.. تماماً كما فعل مام احمد وأم سلام... لم تبكي داي هوري أمامنا... كانت تبكي في أعماقها.. جوارحها تتقطع من الألم...  أنها تنزف ما هو أعمق من الحزن.. أحسستُ ذلك من خلال شعاع عينها... ورجفة شفتيها وحركة يدها... قالت مودعة لنا في اليوم الثاني:

 

ـ لم يبقى لي شيء هنا.. وصعدت إلى الجرار الزراعي المتوجه إلى قرى الدشت... كنت حينها موقناً أنها تركت شيئاً من فؤادها وقلبها المنشطر بين نقطتين ليمتد بين كلي كورتك حيث استشهد أبو ماريا ورفاقه ودربونة زقاق في قرية ميزة التي كمن في زاوية منها القتلة الأوغاد لكروان...

 

بين هذا الزمن وتلك الأيام .. ثمة محطة أخرى من أيام الانتفاضة في ربيع عام1991، حينما وصلنا القوش والشيخان كأول مجموعة أنصارية تقود الانتفاضة، بعد أن مَرَرنا بزاخو ودهوك ومجمع شاريا..

 

جاءنا فرمان شقيقهم الثالث مع صديقه خيري مراد شقيق كسر ليحرسوا المقر الذي افتتحناه في مركز قضاء الشيخان... هاهو فرمان يستنجدُ بيّ ومن خلالي بأصدقاء أشقائه  طلباً المساعدة...

 

كان الأقسى في هذه المهمة.. حينما قالَ لي البعض.. للأسف أنا لا أتذكر أبو ماريا أو كروان أو لا أعرفهم....

 

لكنهم ابدوا في ذات الوقت استعدادهم للمساهمة وتقديم المساعدة المطلوبة... وقبل أن اشكر من لبى ندائي.. أقول:

 

ليتني كنتُ قادراً على النسيان.. فذاكرتي تأبى أن تطاوعني.. مع أبو ماريا وشقيقه كاروان وأبو هلال وشقيقه جاسم وسلام الذين غادروا في فترة متقاربة ثمة.. سلسلة طويلة من الأسماء تترافق معها ذكريات تبدأ من أشقاء ولدتهم أمي فقدوا معها بعد حين من تلك الأيام وأولاد عم وأقرباء وأصدقاء كانوا لا يقلون منزلة عن الأشقاء.. أصدقاء ورفاق أنصار جمعتنا مواقف صعبة وإحداث حلوة ومرة..

 

كانوا بشراً ينزون حياة وتفاؤلاً وصدقاً لا يمكن نسيانهم..

 

من يستطيع أن ينسى عادل حجي قوال (أمين) أو ودود شاكر (أبو رستم).. فاضل استيفو( سنحاريب)..  دلير .. مهمد مشكو.. درمان خدر.. ياسين.. نبيل .. دلبرين.. شيخة رسول.. موناليزا أمين.. سندس.. لينا.. عاصف.. مناضل ..سربست ..أبو سمرة ..أبو علي.. علي خليل... أبو فؤاد.. حجي خورمة.. ..أبو نصير ..سليم.. منيف.. سلمان.. سعد.. خيري.. منير.. كفاح.. أبو سحر ..أبو كريم.. دكتور عادل.. أبو ظفر... أبو آذار.. بير كوران.. رزكار.. توفيق الحريري.. أبو سلام .. أبو فارس.. ميديا.. والعشرات والمئات من الأسماء التي ما زالت تنزُ بها ذاكرتنا كل يوم..

 

صباح كنجي

منتصف ايار2011 

ـــــــــــــــــــــــــ 

 

ا ـ أبو ماريا- بير جوقي علي من مجمع مهت، التحق عام 1982 استشهد يوم 32/5/1985 في كلي كورتك بقصف للطيران أدى لاستشهاد تسعة أنصار هم  سلمان- رعد بولص ميخو، وطلال ياقو توماس- سعد، وباسم حنا هرمز- طلال  من القوش، و رياض عبد الرزاق ـ  نبيل، ونضال حمزاوي- احمد، وجميل صالح سواري- أبو هلال من قرية سواري، و عيدو كورو الهويري- دلير ، وفرج حجي عثمان – جكرخون من الشيخان..

 

2ـ كاروان- خديدا علي شقيق أبو ماريا استشهد في قرية ميزي على يد عميل  في 18/11/1985 

 

3ـ جاسم احمد صالح سواري - أبو ميفان فلاح من عائلة شيوعية مكافحة من قرية سواري وهو شقيق الشهيد أبو هلال، استشهد في كمين غادر للمرتزقة والاستخبارات في الطريق بين آفوكي وسواري بتاريخ 24/ 5/ 1983 بعد أن ساهم بفعالية وبطولة في إنقاذ جرحى وشهداء مفرزة من الحزب الديمقراطي الكردستاني مع كاتب السطور والنصير جيا في منطقة بريفكا، قبل يوم واحد فقط كان يقودها مرزا كورو وخالد بالطة، في حادثة إنزال وقصف طائرات الهيلكوبتر الدامية التي ذهب ضحيتها أكثر من (35) شهيداً وجريحاً من البيشمركة .

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.