اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

• عطية زايد البهادلي"ابو شهدي" بطل من الداكير* (1)

رزاق عبود

 

عطية زايد البهادلي"ابو شهدي" بطل من الداكير* (1)

 

"في البصرة ماكو جبهة"! هذا ما كان يردده الناس. ويقصدون بالجبهة التحالف المشؤوم بين حزب البعث، الذي تظاهر بالتقدمية، والحزب الشيوعي العراقي اقوى، واوسع، واقدم الاحزاب العراقية في اواسط سبعينات القرن الماضي. "وكأنه هناك جبهة في بقية مدن العراق"، يرد الاخرين بسخرية، ومرارة! لكن البصرة لها خصوصيتها. فهي ثاني مدينة بعد بغداد، وفيها ميناء العراق الوحيد، وقواعده البحرية العسكرية، وفيها معظم احتياطي العراق من النفط. فيها شركة نفط البصرة، وملايين النخيل. مجاورة لايران، والكويت، والسعودية، ومياه الخليج العربي. مدينة فيها تجمعات عمالية كبيرة، وجمهرة مثقفة واسعة، وتاريخ نضالي طويل، وتراث من الغلبة اليسارية والديمقراطية في كل مفاصل الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، و الفنية، والادبية، والرياضية، بل وحتى الدينية. خزين هائل من العداء لجرائم حزب البعث. كان التهادن غير ممكن، التساهل غير محتمل، النسيان شئ صعب. سفينة البعث غارقة لا محالة في بحر الشيوعية الهائج في مدينة هندال، وابو زيتون، وعبدالزهرة مزبان. جامعة البصرة، ومن اين ما اتى طلابها يصطبغ اغلبهم باللون الاحمر بعد فترة وجيزة. لهذا كانت الجبهة مجرد هدنة مؤقتة استغلها صدام ليضمن نجاح تأميم النفط، ودعم المعسكر الاشتراكي، وتحذير الجيران، والتفرغ للاكراد، وبناء اجهزة قمع قوية، ومركزة الدولة بشكل بوليسي رهيب، وتحييد، وتحجيم الحزب الشيوعي. المنافس الاكبر، والاخطر. رغم الانشقاق ورغم جرائم ناظم كزار. كانت الاعتقالات، والاغتيالات، والتغييب، والفصل، والطرد من الوظيفة، والتهديدات، والاغراءات، والمضايقات، ومداهمة البيوت، والاختطاف سمة الحياة السياسية في البصرة. حتى يوم توقيع الجبهة، وفي اثناء المسيرة المشتركة، للاحتفال ب"اعياد تموز"!17 تموز 1973 لم يمر بدون مواجهات، واعتقالات، وصدامات، وانزال لافتات الحزب الشيوعي بالقوة.

 

في 1977 بدات حملة مكشوفة للتسقيط السياسي، وزرع الخونة في صفوف الحزب، وتحييد المترددين، وتهديد الوف الاصدقاء، والمؤيدين، بعد الذعر الذي اصابهم من توسع جماهيرية الحزب، وامتداد تاثيره حتى الى دول الجوار، رغم كل اجراءاتهم التعسفية، والقمعية، ورغم كل اغراءات خططهم الانفجارية، والارتفاع الملحوظ للمستوى المعيشي، والنمو السريع للطبقة الوسطى. حاولوا زرع الشكوك بين القيادة، والقاعدة، بين الحزب، وجماهيره. حملة تأليب، وترغيب، وترهيب فظيعة. توسعت، واتخذت طابع مكشوف من الاستدعاءات، والتجاوزات، والاعتداءات، والاختطافات، والمضايقات في اماكن العمل، او الدراسة، او السكن. خفافيش الليل تتجول في عز النهار. سيارات الامن المكروهة تنشر الرعب في كل مكان. دائرة الامن تتضخم، وتتسع، وتتمدد سراديبها تحت الارض. مدينة كاملة من غرف الاعتقال، والتعذيب، والتغييب تحت واجهة مديرية الامن الصغيرة. مدينة تحت احتلال الحرس القومي الجديد!

 

في ليلة ظلماء رن جرس بيتنا. كنت متوجسا، ومتهيئا لك طارئ. كان الوضع "مكهرب" فكل ضربة جرس، او دقة باب، تعني زوار الفجر، الذين صاروا ياتون في أي وقت. خرجت امي لترى الطارق. وانزويت انا في الحديقة في مكان يسمح لي بالتنصت، والتصرف. سألها الطارق عن ابو فلان، فلم تعرف من هو ابو فلان! "يمه خاف انت غلطان"؟! طمأنها بصوت خافت، انه ياتي فعلا لاول مرة، وانها لم تره من قبل، لكنه متاكد من البيت، ومضطر للزيارة، واقسم انه ليس من الامن! عادت امي الى الباب الخلفي لتصدم بي، وانا اراقب من وراء زرع الحديقة: "يمه هاذه واحد ملثم يسأل عن ابو فلان، تعرفه منو هاذه؟!" طمأنتها بعد ان ميزت صوته، ان لاتخاف فهذا صديق، وربما بحاجة لمكان يتخفي به. احضريه الى الحديقة الخلفية. سلم علي، بارتباك، واعتذر لمجيئه الى البيت، رغم التعليمات الحزبية المشددة، ورغم ان الوقت متاخر ليلا. اوضح، قبل ان اسأله، انه عرف مكان بيتنا بالصدفة. راني، وانا ادخله مرة، وكان في زيارة لصديق في محلتنا. "لايهم الان، انت، ولا  كلاب الامن"! قلت مازحا. "لكن لماذا قصدتني، فليس لي بك صلة حزبية مباشرة. واغلب الصلات صارت فردية، واكيد لديك صلة ما"؟! اجاب: صحيح يارفيق! سحبته من جوار حائط بيتنا، وكان مغطى بسياج ضخم من الخضرة. وطلبت منه ان لا يستعمل كلمة رفيق، وان يخفف صوته لان الصوت في الليل يسمع جيدا. وان البيت المقابل، والمجاور وكلاء امن، واكيد لديهم مهمة مراقبة بيتنا. وقد يتنصتا الان. اعتذر مرة ثانية، وواصل حديثه: صحيح، انا لدي مسؤول، ولدي  صلة. لكنهم استدعوني الى الامن، ولما سالته عن رأيه قال: "اذهب، واصمد، ولا توقع على أي تعهد"! اخشى ان يكون مسؤولي قد سقط سياسيا، ويتصرف حسب امرة الامن. من غير المعقول ان تكون هذه توجيهات الحزب. قلت لا لم يسقط ، ولكن هذا توجيه الحزب فعلا! فهل تريد ان تلتزم به، ام تفضل توجيهي؟! سال باستغراب، وامتعاض، وهل لديك توجيه مغاير؟ قلت نعم رأيي، ان لا تذهب، ولا تسلم نفسك! ولا تنام في بيتكم فيضطرون للمجئ الى مقرعملك، وهناك ناقشهم بصوت عال، وافضحهم، هددهم بانك ابن عشائر، وشرطة الامن اغلبهم من الارياف، وهذه الامور قد تؤثر فيهم، وهددهم بالثار...الخ حاربهم بسلاحهم، ولا تذهب معهم،  وان حاولوا اعتقالك عنوة، اهرب الى منطقة عشائركم، حتى تتوقف الحملة، كما يعتقد الحزب، وان كنت اعتقد انها لن تتوقف، لانها لم تبدأ اليوم، بل ازدادت، واتخذت اشكالا اكثر حدة، وبصورة مفضوحة. هنا سألني بتحد، وعنفوان الشباب: ولماذا لا اسلم نفسي، واصمد هل تشك بقدرتي على الصمود؟! قلت له ياصديقي انت جئتني، وخرقت الضبط الحزبي، والتسلسل الحزبي، وانت تلبس بيجاما، ودشداشة، ومستعد للاستسلام لسجنهم، او اعتقالهم، او توقيفهم سميه ما شئت. وهذه مؤشرات ليست جيدة. اضاف بسرعة، وبصيغة تحدي: ومعي هذا ايضا. رفع بوجهي كتاب "تحت اعواد المشانق" للمناضل الشيوعي الجيكي، وصموده في سجون النازية. نظرت اليه، بحيرة، وعطف معا، وحاولت اختيار كلماتي فانا اعرف حساسيته، وحماسته، واندفاعه، الذي يصل حد التهوراحيانا، بسبب قلة الخبرة، وصغر العمر، وعدم دراسة الامور، ولا فهم الواقع. "انت لست شتاينبك يا عطية، واذا حاولت الاستعانة به، فهذا يعني ان هناك خوار في داخلك، وتحاول ان تجد من يدعمك، في صمودك. الامور تختلف، وامكانيات الناس على الصمود متباينة. وانا لا اضمن حتى نفسي رغم ثقتك العالية بي. بحيث اخترتني للاستفسار. ربما اموت تحت التعذيب، وربما اسقط براچدي واحد. احيانا يتقلص العالم الى دائرة صغيرة ضيقة جدا ينعدم فيها التفكير، والاصرار، ولن ينفعك، وقتها شتاينبك. قد يلقوك عاريا تماما على ارضية السرداب، ولا تجد ما تستر به عورتك، فكيف بكتاب تستجدي منه الصمود. الصمود موجود هنا في قلبك، وهنا في راسك". امسك يدي بقوة، مستفزا، وقال بحدة: "اذا سقطت انت، يطبك مرض، اما انا، فلن ينتزعوا مني كلمة"! اجبته بعد ان بلعت اهانته: "هذا شئ جيد، ان لا تعترف بالرموز، فمن صمد في 63 19ذهب بنفسه هذه المرة. واتمنى ان تصمد، ولا تنهار، ولكني لا انصحك بالتسليم، واختبار نفسك، فلسنا دراويش. لديك طريق افضل لتثبت لهم انك لا تستسلم بسهولة. الموافقة على الاستدعاء، والذهاب بارادتك، وقدميك، هي اولى خطوات الاستسلام. وهم يعرفون ذلك جيدا، فلهم خبرائهم، ومختصيهم في علم النفس الانسانية، وهناك من يتحداهم، لكن لا داعي لهذه الفروسية الان، فهؤلاء بلا اخلاق، وهم مصممون على سحقنا هذه المرة. عد الان الى مكان اختفائك، وفكر جيدا بما قلته".

 

في اليوم الثاني كانت البصرة القديمة تتحدث عن شاب صغير شيوعي هرب من عمله في المبايعات الحكومية، لان الامن جاؤا لاعتقاله، وكان يهتف بحياة الحزب، ويهدد الذين جاؤوا لاعتقاله. ابتسمت مع نفسي للخبر، فلقد صدق توقعي، وصدق هو كلامي، وعمل بتوصيتي. بعد فترة التقيته صدفة في الشارع، وطلبت منه ان يعبر الحدود الى الكويت، لان اقاربه يعملون "سواق" على خط الكويت، واكيد لديهم صلة بالمهربين. بعد اسبوع  من حديثنا، اعترض طريقي فجاة في نفس المكان، وانا احاول التملص من متابعة رجال الامن، الذين توقفوا على بعد ليراقبوا، وربما فكروا، انهم سيضربون عصفورين بحجر واحد. سالته مستغربا: لماذا عدت؟ اجاب رفضوا استلامي هناك. لم يكن معي ترحيل! اجبته بشكل عصبي، منزعجا من تصرفه: لو أستلموك لكانوا اغبياء، او من رجال المخابرات. من انت حتى يفتحوا احضانهم لك، واغلبهم هناك، بلا اقامات، وقد التجأ اليهم الكثير من الرفاق مؤقتا؟! قاطعني بفظاظة: انا لا اتحمل البقاء بعيدا عن الحزب، واخشى ان اتهم بالجبن، والتخاذل! اجبته بعصبية: انا اخبرتك، انا طلبت منك، وهذا يسمى تراجع منظم، للحفاظ على الكادر، حتى تتضح سياسة الحزب، ويقرر طريقة تصرفنا، وتحركنا. يبدو ان الصدمة كبيرة،  والضربة عامة، والهجمة منظمة، وقيادة الحزب في ارتباك واضح. ونحن قد نحتاجك في وقت اخر، او في مكان اخر. فلا تفرط بامكانية تواجدك بعيدا عن الاعتقال في الكويت، او غيرها فهذا مجرد اجراء احترازي ومؤقت، وليس هروبا، او تخاذلا.

 

كان ذلك في خريف عام 1978بعدها لم اره، ولم اصادفه مرة ثانية. انا تركت العراق في "مهمة" دراسية، واقنعوني ايضا انه امر حزبي، وتراجع منظم، للحفاظ على الكادر، وسنستدعيك عند توفر الظروف المناسبة. وها قد مر اكثر من ثلاثين عاما، ولم يستدعني احد. تحول التراجع المنظم الى غربة، ثم الى "توطن" كما يصفه الشاعر سعدي يوسف.بسبب عمق الضربة، وفاشية الاساليب التي استعملت ضد منظمات الحزب. لكنني ظللت اسال عنه، واتابع اخباره الشحيحة. كنت معجبا بشجاعته، وعنفوانه، واشعر بمسؤولية خاصة اتجاهه. حتى صعقني احد الانصار، وهو يستمع الى القصة التي اعيد ها دائما على مسامع الاخرين. سالني هل تقصد ابو شهدي؟ قلت لا اعرف ما اسمه الحركي، لكن الذي اعرفه انه سافر الى الكويت مرة اخرى ثم عاد الى الوطن، والتحق بالانصار. قال هو ذاك اذن لقد سمى نفسه ابو شهدي تيمنا بالشيوعي المصري الشهيد شهدي عطية. لقد كان شجاعا حد التهور كما وصفته، وهذا نابع عن ايمان، وصلابة، ومبدأية عالية، وتربية عائلية، واستخفاف بالموت. قاتل، وحمى رفاقه، واستشهد ببطولة. بكيت وقتها طويلا. شعرت بالفخر لانه كان احد رفاقي. وبالحزن الشديد لخسارته المبكرة، وهو بعمر الزهور، مثل العشرات غيره. الان افكر كم من الشباب، والكوادر الحزبية، والعلمية، والثقافية سحقتهم طاحونة الفاشية الصدامية، والاخطاء السياسية غير المدروسة، وكيف اخذنا الحماس النضالي جميعا، واستسلمنا للرومانسية الثورية دون تمحيص، ودراسة. انحني، اليوم، احتراما لكل من سبقنا، في رفض المغامرات، التي راح ضحيتها المئات من خيرة ابناء، وبنات الحزب والشعب. احد الحكماء اوصى: "يجب ان تتخذ قرارك عندما يكون قلبك حارا، ورأسك باردا، وليس العكس". لكن من اين كنا سناتي، وقتها، ببرودة الاعصاب، ونار الغدر، والخيانة تسحق اجساد الرفاق، وتغتصب الرفيقات؟! كلنا كنا نتسابق الى الشهادة، الى الموت في سبيل المبادئ. ونسينا، تحت وقع الحماس، ان مهمتنا هي المحافظة على الحياة. والا كيف يمكن ان ترسل مثلا سعدي يوسف، او كوكب حمزة، ليقاتلا، ويستشهدا، ومن يعوضهما؟! كم اتمنى الان، بعد ان برد الرأس، ان من كان بيده القرار، وقتها، ان يقول للاخرين ما قلته لعطية يوم كان يريد ان يذهب بنفسه الى الموت.

 

*الداكير هي كلمة محورة عن الدوكيارد الانكليزية بمعنى المسفن. مكان تصليح، وصيانة السفن. وهي جزيرة صغيرة في نهر شط العرب ترتبط بمنطقة العشار قرب مديرية الكمارك  بجسر الداكير. كان عطية يسكن مع اهله هناك.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.