اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

• قِصة إستشهاد عادل القوال ومناضل عبد العال

كفاح جمعة كنجي

مقالات اخرى للكاتب

قِصة إستشهاد عادل القوال ومناضل عبد العال

 

في لالش معبد الايزيديين الاول صيف عام 1977،كان شاب مليء بالحيوية  من باعذرة قد إلتحمت اكتافه بشدة بالغة  وتماسكت يَداه بحرارة صادقة مع أصدقائه وهم يدبكون دَبكة شيخاني(ديلاني) المشهوره، ولِشدة وسُرعة حركات الدبكة تِلك، خاطبَ أحد المتفرجين من الشيوخ بعد ان وضع كفه على  كتف الراقص وبلغته الكوردية ذات اللكنة الأيزيدية: إنك كمنْ ينطلق الى جزيرة الحرية !! ذلك الشاب المنطلق الى جزيرة الحرية كان (عادل حجي قوال). توطدت علاقتنا لاحقاً في مدينة الموصل حيث كان يواصل دراسته في جامعتها/ كلية العلوم.

لاحقته أجهزة القمع كثيراً. ويروي  رفيقه و صديقه وابن عمته الدكتور (جمال عبدالله): في احدى استدعاءات أجهزة الأمن طَلبوا من (عادل) إبلاغهم عن أي منشور او جريدة للحزب الشيوعي، وبعد لقائي به شرح لي ماجرى  معه في التحقيق ، فقلت له والعمل ؟ وما كان  من (عادل) إلا  أن أخرج من جيبه جريدة (طريق الشعب) ذات الحجم الصغير، قائلاً: خذ اقرأ هذا آخر منشور!!!.  

عام 1982 التحق (عادل) بمفارز الأنصار وتسمى من ذلك الوقت بـ(أمين). إذ قرب مدينته (باعذرة) من الجبل سهل له أمر الالتحاق. ومنذ ذلك الوقت كان (أمين) أميناً لنفسه ولرفاقه وللقيم والأفكار التي آمن بها، إذ سريعاً ما لفت انتباه رفاقه الذين وضعوه آمراً لفصيل في السرية الثانية التابعة للفوج الأول (بادينان)، ليُعرف لاحقاً في منطقة عمل السرية أنه أحد الكوادر العسكرية للأنصار، الأمر الذي عرض أهله وأصدقائه في المدينة إلى المتابعة والسؤال والمضايقات الكثيرة.

صيف 1985 أجبرهُ المرض مابين حزيران وتموز على المكوث لِاسابيع في قاعدة (مراني) مقر الفوج الاول.  وبعد شفائه عاد للمفرزة من جديد.  بعد عودة (أمين) انقسمت السرية إلى مجموعتين وهي تحضّر لعمل كبير للإيقاع بإحدى مفارز الاستخبارات التي كانت تصول وتجول على القرى المتهمة بالتعاون معنا. وكان ذلك العمل يتطلب استطلاعات موسعة ودقيقة ومن مكانين مختلفين. كانت المجموعة الأولى بقيادة (أمين) مهمتها بين (باعذرة) وقرية (إيسيان) والثانية كانت تنطلق من (كلي خنس) الكائن على مشارف مناطق تواجد القرى العربية. كدأبه حين يكلف بعمل يستغرقه تماماً، الأمر الذي جعل زياراته تتكرر على قرية (مله جبرا) القريبة من ناحية (باعذرة) وكان له هناك أصدقاء يمدونه بالمعلومات. موقع هذه القرية على تلة ترابية غير عالية لكنها ملساء تماماً من الأشجار والأحراش، يجعلها تشرف مباشرة على ناحية (باعذرة) ومن جهة أخرى تشرف على مدخل (كلي ديركي)، هذا الممر الضيق والوعر والذي تجتازه مفارز الأنصار في كل مرة تريد الوصول إلى القرى والبلدات التابعة لقضاء الشيخان والتي منها ناحية (باعذرة).

كان (مناضل عبد العال) الرسام ابن الناصرية الذي اختار لنفسه اسم أخيه الأصغر (مؤيد) تيمناً وتذكاراً دائماً له بعائلته، ضمن مجموعة أمين. ارتأى (أمين) في عصرية ذلك اليوم 15/ 8/ 1985 أن يزور مرة أخرى قرية (مله جبرا)، للاستزادة من المعلومات حول مهمته، ولعله كان مرتبطاً بموعد ما هناك. وعلى عادته أطال المراقبة عبر الناظور العسكري من مدخل (كلي ديركي) لقرية (مله جبرا) ولمدخل ناحية (باعذرة) ورأى أن مفرزة الاستخبارات قد دخلت القرية وتوزعت على أطرافها. تريث وهو يواصل المراقبة حتى خروج المفرزة من القرية، أو هكذا بدا له، لأنه شاهد سيارات المفرزة وقد نزلت ومعها عناصرها وتوجهت إلى ناحية (باعذرة). لكنه لم يعرف بعد أن المفرزة الاستخبارية لم تخرج كلها من القرية، بل أرسلوا قسماً من عناصرهم للتمويه مع السيارات، لتوِّهِم من يراقب وهي متأكدة من أن هناك من يراقب. كانت اللعبة مكشوفة بيننا وبينهم.. نعرف أساليبهم ويعرفون أساليبنا، لهذا نحاول ويحاولون في كل مرة صنع المفاجأت، لكن تبقى القوى والأمكانيات لم تكن متكافئة بيننا. هنا اطمأن (أمين) أن القرية أصبحت مؤمنة لدخوله.. ولا أحد يعرف لماذا قرر تقسيم مجموعته إلى مجموعتين واحدة أرسلها إلى خلف كلي ديركي إلى قرية (بالاته) واصطحب معه اثنين فقط، هما (مؤيد) و(أبو علي) وهو (حسين علي) خريج دار المعلمين من سكنة (بحزاني) والذي غُيّبَ لاحقاً في عمليات الأنفال.

وقبل الوصول الى القرية التقت المجموعة بمجاميع  من شباب القرية كانوا هاربين من مفرزة الاستخبارات وهؤلاء أخبروا (أمين) أن مفرزة الاستخبارت لم تزل في القرية، لكنها نقطة ضعف (أمين) المعروفة الاستهانة بالأخطار وعدم أخذ مخاوف على الأخص الفلاحين على محمل الجد، اعتاد على الدوام أن يستمع للمعلومات لكنه يشذب منها الكثير لنفسه مقتنعاً أن الفلاحين عادة ما يبالغون في معلوماتهم.. وهذه النقطة في تلك الأمسية كانت هي السبب لما حصل. لم يصدق أولئك الشباب وواصل طريقه إلى القرية. وأثناء تسلقه هو ورفيقاه تلك التلة الترابية الملساء والحادة الصعود نسبياً، فُتحت عليهم النيران وبكثافة شديدة ومن أماكن مختلفة. أصابت الرشقات الأولى (مؤيد) بجروح بالغة ولشدتها تسببت وفق روايات الفلاحين بخروج جزء من أحشائه خارج البطن، وكُسرت يد (أمين اليسرى) بإحدى الإطلاقات، أما (أبو علي) الذي كان يسير خلفهم، فنجا من الرشقة الأولى واحتمى خلف نتوء ترابي على التلة وظل هناك لحين هبوط الظلام وانتهاء الرمي. في كل الأحوال أن القتال الجبلي يمنح ميزة وقوة لمن يكون فوق.. لهذا كانت الغلبة والسيطرة لهم. ظل الثلاثة على الأرض لحين هبوط الظلام، إذ تمكن (أمين) من الزحف باتجاه مؤيد وسحبه إلى منطقة المزارع الصيفية الكائنة أسفل التل على ضفاف نهير صغير قادم من (كلي ديركي). كان جرح (مؤيد) بليغاً وحركته منعدمة تماماً الأمر الذي لم يساعد (أمين) المجروح هو الآخر من سحبه إلى أبعد من ذلك المحل، لكنه قرر مع هذا البقاء مع رفيقه وعدم تركه وحيداً. جلب له بعض الخضروات من المزارع وتقاسم معه آخر رغيف خبز لهما. أما (أبو علي) ففقد الاتصال معهم تماماً منذ خفوت الرمي واستطاع الجري بسرعة ووصل إلى سفح الجبل، معتقداً أن رفيقيه كذلك جريا ووصلا إلى السفح. لم يكن يعرف أنهما جرحا ولبثا أسفل التلة. الأمر الذي دفعه وبعد تكاثف الظلام أن يبحث عنهما في القرى الأخرى المجاورة (كابارا)، (خورزان)، (كرساف) علهما وصلا إلى هناك. ولما لم يجدهما في أي من تلك القرى، قرر العودة إلى مدخل الكلي، ولحين إنجلاء الصباح بحث عنهما في كل مكان باستثناء المكان الوحيد الذي لم يتوقع أنهما ما زالا فيه أسفل التلة وعلى مرمى من المفرزة الاستخباراية.

وفي الصباح وصلت مجاميع أخرى من مرتزقة مفارز الاستخبارات إلى القرية وكان عددهم يفوق المائة، وبدأوا بالنزول من التل متتبعين آثار الدماء التي نزفت من (مؤيد) و(أمين). كان (أمين) وهو بين سيقان وأحراش تلك المزارع يتابع بحثهم واقترابهم الحذر وهم يتتبعون مسرى الدماء. قرر عندها أن لا يترك رفيقه يقع بأيديهم.. أما النجاة معاً أو الموت معاً. لقد استعد للمواجهة بما تبقى لديه من قوة وبعض العتاد.. وكانت معركة الناظر إليها من بعد يظنها معركة بين جيشين، لا بين جيش وجريحين. اقتربوا كثيراً من مكمن (مؤيد) الفاقد بندقيته أصلاً، حين وصلتهم صرخة (أمين) كزئير الأسد (حسب روايات بعض المرتزقة الذين كانوا مشاركين للفلاحين): لن تصلوه ما دمت حياً..!! استطاع أن يصيب بعضاً منهم رغم عجزه عن استخدام البندقية بيد واحدة. لكنهم في النهاية تمكنوا منه. وكانت أروع ملحمة في الإخلاص والتفاني والوفاء والبطولة صار الفلاحون لاحقاً يتحدثون بها.. كيف أن (أمين) كان بإمكانه النجاة بنفسه، لكنه لم يفعلها ويترك رفيقه يؤسر وهو جريح.. لقد فارق الحياة قبل رفيقه.. ظلوا حذرين من الاقتراب منه حتى وهو جثة هامدة وقيل أن قائدهم أمر بإطلاق قذيفة (آر بي جي) عليه للتأكد تماماً من اختفاء مقاومته وكأنه أمام جدار خراساني يريد نسفه.. لقد تشعبت وتكاثرت روايات الفلاحين والتي كان مصدرها بعض المرتزقة المساهمين في العملية حول هذين النصيرين ممزوجة بمشاعر الفخر والإعجاب.. وهم يروون قصة امتزاج دم ابن الناصرية بدم ابن باعذرة. 

بعد التأكد من استشهاد (أمين) تكاثروا على (مؤيد) الجريح واقتادوه وقيل سحلوه بين الأحراش والصخور وأوصلوه إلى سياراتهم.. ومن هناك أخذوه إلى (مديرية أمن الموصل) لتتسرب أخباره لاحقاً، وبعد أن عالجوه، بدأوا بتعذيبه حد الموت.. وبعد أن قضوا عليه، أرسلوا بطلب أبيه من الناصرية المربي الفاضل (عبد العال عيسى) ليخبروه بمصير أبنه، المصير الذي أخفاه الأب إلى الأخير عن الأم وبقية أفراد العائلة، احتفظ بحسرته وغضبه لنفسه، رغم هذا لم يتركوه وشأنه، اعتقلوه لاحقاً وأذاقوه بما أذاقوا أبنه قبله من صنوف التعذيب، ثم أطلقوه وهو على شفير الموت، ليموت بعد مدة قصيرة من إطلاق سراحه.. مات المناضل (أبو مناضل) وأخذ سره.. سر مقتل أبنه معه إلى القبر.

بعد  ثماني سنوات في عام 1993، ونحن في الطريق الى (باعذرة)  بصحبة الدكتور (مؤيد عبد العال عيسى) أخو الشهيد (مناضل) والذي تسمى بأسمه الشهيد، الذي رغب ان يزور عائلة الشهيد (أمين) والتعرف عليهم. لقد دمعت عينا شقيق الشهيد حين أشرت الى المكان الذي حدثت فيه المعركة وتوقفنا هناك طويلاً بناءاًعلى طلبه. ولدى وصولنا إلى منزل الشهيد (عادل) عرّفتهما على بعض. عانق الشيخ الكبير (قوال حجي) الدكتور (مؤيد) وبكيا معاً بحرقة شديدة مع أم الشهيد (عادل). وفي زاوية الغرفة كانت هناك صورة مغطاة بقطعة قماش زاهية الالوان تخفي خلفها صورة البطل (عادل) أزاحها الأب وقال لمؤيد: ياأبني لا أستطيع ان أطيل النظر إليها ولذلك نغطيها .

(مناضل ) ابن الناصرية حمل بندقيته على كتفه  لسنين عديدة في جبال كوردستان بين قاطع سوران وقاطع بهدينان. كان يهوى ويعشق الرسم اقام معارض  فنية عديدة في قواعد الأنصار وتنقل بين مفارزالبيشمركة، عرفه الجميع بطيبة القلب وبعدم السكوت عن الخطأ.. كان شديد الحرص أن لا تحدث أخطاء في عملنا، كان كثير الانتقاد وطرح الأفكار رغم اصطدامه في بعض الأحيان بمن لم يفهمه.. ترك مدينته وأهله وأصدقائه واختار الدروب المليئة بالصعاب والجوع والعطش وبرفقة الموت المحدق في كل لحظة. كان متشرباً بالقيم والأخلاق التي زرعها والده المربي المعروف في الناصرية وهو المتنقل بين مدارس المدينة والأرياف، حاملاً حلمه بالحرية وأن يسود بلده قانون يساوي بين الجميع ويصون البلاد وأهلها من مغامرات الحكام والطغاة والجبابرة.. تكون فيه الحياة حرة كريمة لابن الناصرية مثلما تكون لابن كويسنجق... من نشاطات الشهيد (مؤيد) مساهمته الفنية الرائعة في إصدار جريدة كان اسمها (ستيرا سور – أي النجمة الحمراء) أصدر منها العدد الأول وكان عددها الثاني مخصصاً لواقعة استشهاده مع رفيقه (أمين) في ذلك الكمين الغادر.

وبعد اعوام على تلك الملحمة مررنا بقرى منطقة بروش نِسرى وربتكي وكانيكا وملبركي وجدنا اطفالا عديدين بعمر السنتين كانوا يحملون اسم عادل وامين تيمنا لعلاقة عادل الطيبة باولئك الاهالي الطيبين الذين عرفوه قبل وبعد ان غدى بيشمركة في المنطقة.

اكثر من ستة وعشرين عاما مضت على تلك الملحمة لكنها تزداد عاما بعد عام ألقاً وضياءاً في ذاكرة رفاقهم الاوفياء.

 

تشرين الثاني 2011

   

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.