مبدعون وابطال الحرية

كمال يلدو: وفاءاً للشهيد صبري الياس حنا دكَالي (جندو)

 

الموقع الفرعي للكاتب

وفاءاً للشهيد صبري الياس حنا دكَالي (جندو)

 

كمال يلدو

 

كانوا شباباً وفي بداية ربيع حياتهم، يحدوهم الامل في بناء وطن جميل لهم ولاقرانهم، ووجدوا الافكار الاشتراكية واليسارية أفضل من يترجم تلك الطموحات والاحلام، فإنخرطوا في العمل الوطني، لكن حيتان الرجعية والتخلف والعمالة كانت لهم بالمرصاد، وبعد سنين رحل الشهداء ورحلت الانظمة، واحداً اخذ مكانه في ذاكرة الشعب والآخر ترك جروحا في جسد الوطن، مضت الانظمة الرجعية مصحوبة باللعنات، لكن الافكار الخيرّة مازالت تحث الطريق من اجل بناء (وطن حر وشعب سعيد).

***

ولد الشهيد صبري الياس حنا دكَالي (جندو) في مدينة القوش التابعة لمحافظة نينوي عام ١٩٤٩ وفي محلة (سينا). وقد ابدى نضجاً وطنيا وسياسيا منذ صباه، وللحق يقال، فإن القوش كانت على الدوام مدرسة للوطنيين والمناضلين، ولم يكن هو او المئات من ابناء بلدته استثناءاً بل بالعكس كانوا هم القاعدة، ولعل ابناء ذلك الجيل وما قبله ولليوم يفخرون بأن مدينتهم لها الصبغة اليسارية الحمراء ويلقبها البعض (موسكو الصغيرة) وهذا التشريف لم يأتي بالسهل، فقد قدموا للوطن وللشعب قوافلاً من الشهيدات والشهداء ناهيك عن المناضلين الذين امضوا عشرات السنين من حياتهم دفاعاً عن المثل الوطنية وعن مصالح الشعب العراقي في الحرية والحياة السعيدة. درس الابتدائية في مدينته، وعند اتمامه السن القانوني التحق بالخدمة العسكرية المكلفية، وقد تعرض اثناء الخدمة الى السجن لمدة شهرين، مما اثار حفيظته وخشيته من ان يصبح صيداً سهلاً بيد حكم البعث (الحاقد على الشيوعية وعلى ألقوش)، فقرر ترك الخدمة العسكرية والالتحاق بالفصائل المسلحة (الانصار) التي كانت تحت قيادة الراحل توما توماس (أبو جوزيف). يتذكر بعضاً من رفاقه الذين حملوا السلاح معه ، بأنه اشترك في عدة عمليات انصارية، وانه كان شجاعاً مقداماً ولا يهاب المعارك.

المشهد الاخير كان يوم ٢٧ تموز من عام ١٩٦٩، حيث طوقت قوات السلطة مدينة القوش بعد أن وصلت لها معلومات بوجود القائد (ابو جوزيف) فيها برفقة مجموعة من الانصار، حيث كان مطلوبا لذلك النظام، وصادف يومها أن يكون الشهيد في القوش ايضا، وبعدما علم بمغادرة الانصار المدينة، أراد اللحاق بهم لتوفير المزيد من الحماية، لكن قطعان المرتزقة كانت أسرع منه، فقد دخلت المدينة من الجنوب والغرب، ووقع في فخهم، فقاومهم مقاومة الابطال، لكن المعركة لم تكن متكافئة، فأستشهد في منطقة (بيادر القوش ـ غرب المدينة وعلى طريق بندوايا) وكان يحتمي  خلف صخرة كبيرة مازالت تحكي حجم تلك المواجهة من كثرة آثار الطلقات النارية التي مازالت واضحة لليوم رغم مرور كل تلك السنين.

وبعد أن هدأت المعركة، توجهت تلك القوة الى حيث كان ساقطاً ومضرجاً بالدماء، وهم بأمل ان يكون صيدهم القائد (ابو جوزيف) لكن خاب ظنهم هذه المرة ايضا، فقد تعرّف عليه بعض المهاجمين الذين قالوا: انه جندي من سريتهم.

لم يتوقف المشهد امام هذه النهاية المؤلمة، بل قام بعضا من (الجحوش ـ الفرسان) بسحبه ورميه بالقرب من (مزار مار قرداغ ـ كما يرويها الاستاذ موفق حكيم) فيما يقول السيد ناظم، ابن عم الشهيد بأنهم رموه (قرب المدرسة الثانوية) ومهما يكن الامر، فأن اهالي المدينة انتظروا حتى انسحاب الجيش من البلدة، قبل أن يقوموا في عصر ذلك اليوم بدفنه في مقبرة المدينة في موكباً شعبياً صامتاً ومهيباً، ولعل ذلك كانت رسالة ابناء القوش الى السلطات الغاشمة وحتى بعض (المترددين) من ان البلدة لن تتنازل عن ابنائها الميامين، وستقوم بواجبها تجاههم مهما كانت التضحيات والثمن.

يتذكر السادة (وديع وفاضل) اشقاء الشهيد صبري والموجودين في ألقوش حتى اليوم، يتذكرون ذلك اليوم بكل تفاصيله ويقولا: في مساء ذلك اليوم، وكعادة كل العوائل التي تخسر احد افرادها للموت، فأن اهالي القرية يقصدون بيت العائلة لتقديم التعازي والمواساة، فيدخل القائد الانصاري الراحل "توما توماس" الى البيت رغم كل المخاطر، ويقدم تعازي الانصار والحزب الى العائلة وخاصة والدتي المرحومة "وارينة يوسف صادق جنّو" ويعرب لها عن اسفه لفقدان مقاتلا شجاعاً وبطلا  هوالراحل "صبري دكَالي" فأجابته والدتي وعلى مرأى ومسمع كل من كان في دارنا تلك الليلة بكل فخر واعتزاز: "لا تهتمون وتتأثرون باستشهاده، لانه ابنكم وإبن الحزب، ولديّ آخرين اقدمهم قرباناً للحزب" ولعل هذا الموقف يجدتجسيده الصادق في موقف اشقاء وشقيقات الراحل الداعم والمؤازر لنضالات الحزب الشيوعي، حزب شقيقهم (صبري) الذي ضحى بحياته من اجل اهدافه النبيلة وقياداته المخلصة والامينة.

عمل والد الشهيد المرحوم "الياس حنا بتي دكَالي" طباخاً في منطقة عين زالة، ورحل عن الحياة وصبري كان صغيرا، اما حينما قضى الشهيد فقد ترك خلفه عائلة ثكلى مكونة من والدته وأشقائه (المرحوم حميد ووديع وفاضل، والشقيقات، المرحومة هيلو، وسلمى وصبيحة).

في عمر لم يتجاوز العشرين ربيعاً ولم يكن قد تزوج اصلاً، يكون محزننا ان تخسر العائلة او المدينة انسانا طيبا ونظيفا ومخلصا. لم يمت نتيجة سرقة او جريمة قتل او عملية سطو، لقد قضى لسبب اساسي ومهم: وهو موقف الانظمة الغاشمة والدكتاتورية من العملية السياسية برمتها، من حرية الاحزاب وحرية الانتماء ومن التبادل السلمي للسطة. وقد يقول قائل، بأن هذه ليست إلا احلاما وردية ستُطبق في مجاهل افريقيا قبل أن تُطبق في العراق، وبالحقيقة، لهم ولكل اصحاب الآراء الراجحة أقول: أولاً، ان اول وآخر من يتحمل دماء هذا الشهيد وعذابات أهله، هو نظام البعث البائد، وكل من يسير في نهجه المتخلف، وثانياً، إن فكرة بقاء الانظمة وعدم تغيرها ليست منقوشة على حجر او (منزّلة من السماء) هذه الانظمة يبنيها البشر، ويغيرها البشر، وقد آن الاوان (اليوم او غدا) ان يعيش العراق وشعبه في ظل نظام ديمقراطي مدني عصري، وتُطبق فيه القوانين التي تحمي الانسان وتعتبره اثمن شئ في الحياة، وليس لنا اي شئ اثمن من هذه الافكار.

**الشكر والامتنان لكل من ساعدني بإخراج هذا الريبورتاج خاصة الاعزاء عامر تومي وراني فلاح القس يونان من القوش.

 

**تحية لذكرى الشهيد البطل صبري الياس دكَالي (جندو)

**المجد والخلود لكل من ضحى وعمل من اجل تحقيق الاهداف التي ناضل من اجلها في (وطن حر وشعب سعيد)

**العار للانظمة الرجعية وعقيدتها  الدموية المتخلفة

 

كمال يلدو

تشرين الثاني ٢٠١٥

 

 

بيادر القوش غرب المدينة وعلى طريق بيندوايا