اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

وفاءاً للشهيد عابد يوسف مرادو// كمال يلدو

 

الموقع الفرعي للكاتب

وفاءاً للشهيد عابد يوسف مرادو

 

كمال يلدو

 

من يستطيع أن يحصي جرائم صدام حسين ونظام البعث بحق الشعب العراقي.... من؟ إن كان في الارهاب او الحروب او التشريد والترهيب، ولا أظن أن بيتاً عراقياً قد سَلمَ منه. أما من ما زال يحن اليه، فلا يمكن أن اقول إلا أن الذليل لا يمكن له الحياة إلا ذليلاً. لقد كان ممكناُ لوطننا ان يكون افضل، وأن نوفر شبابنا وشاباتنا للبناء بدلاً من المقابر او الغربة، نعم سنتمكن من ذلك حينما يفرض الشعب ارادته على الحكام ويقوم نظام مدني عادل وبدستور يحترم الانسان باعتباره اغلى شئ في الحياة، حينما يكون هناك قانون يصون حرية التفكير والانتماء والمعتقد وحرية الاحزاب، حينما يكون دور رجل الدين في مؤسسته فقط بينما يتفرغ السياسي للوطن والشعب، وحينما يكرّم المخلص والمبدع، ويحاسب المقصر والسارق، يومها يكون العراق قد بدء فجره الجديد.

***

ولد الشهيد عابد يوسف مرادو عام ١٩٥٣ في مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى وفي (محلة قاشا)، متزوج من السيدة لمياء جرجيس لاسو، ولهم ثلاثة أولاد وبنت واحدة (ريفون، رونالدة، رفيار وريفير) ولهم (٥) أحفاد لحد الآن. استشهد في ألقوش  فجر يوم ٧ شباط ١٩٨٩، بينما كان عائدا من بغداد.

درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس ألقوش، ثم نال شهادة الدبلوم من معهد إعداد المعلمين في الموصل. مارس التعليم في مدارس الشرقاط وصديرا العليا وصديرا السفلى ثم تعرض للاعتقال، وبعد الافراج عنه عاد للتدريس مجددا في مدارس نصرة ودينارتا في عقرة وعلي شان وناويك. لقد زاوج مع مهنة التعليم مهنة الاعمال الكهربائية وافتتح محلاً له، ويقال عنه بأنه لم يتوانَ عن تقديم الخدمة لابناء بلدته حتى وإن قصدوه في منتصف الليل، وأغلب الاحيان لا يتقاضى أجرهُ، فقد كان حريصاً على خدمتهم.

كانت مدينته ألقوش (ومازالت لليوم) قلعة للوطنيين وللأفكار الثورية، ولم يكن غريباً أن يتأثر بها الشهيد عابد، فأنخرط في العمل السياسي منذ العام ١٩٧٢، وكان أمينا على افكاره ورفاقه، وحاول أن يعكس صورة طيبة لكل ابناء بلدته في الاخلاص والتفاني وخدمة الآخرين. هذه الخصال منحته محبة الناس وعداء المنظمة الحزبية القذرة في ألقوش ايضا، فلم يسلم من التهديد أو حتى محاولات الاغتيال، وتعرّضت عائلته للترهيب او في تفتيش بيتهم مرارا وتكراراً، كما اُجبر على الحضور لمركز الشرطة اسبوعيا لتثبيت وجوده. أما قضية استشهاده فقد اراد لها نظام القتلة البعثيين أن تكون غامضة (مبهمة) كعادته في معظم جرائمه، لكي لا يلومه أحد اولاً وثانياً حتى تبقي عوائل الضحايا في دائرة الشك القاتل طوال عمرهم، وهذا ليس افتراء على اجرام البعث بل حقيقة قاطعة دفعت ثمنها غاليا آلاف العوائل العراقية، إن كان من جراء ابنائهم المعارضين لحكم البعث أو حتى ألناس المستقلين!

ولعل زيارة الماضي والوقوف امام الحقائق يحتاج الى دليل أمين، وخير من يمكن ان يدلي بشهادته هي زوجته المفجوعة، السيدة (لمياء جرجيس لاسو) التي تبدأ كلامها: لستُ مبالغة حينما أقول إن الزمن توقف عندي منذ ذلك الصباح، فلا فرحة الزواج ولا فرحة ولادة الابناء ولا اي شئ بقي معي إلا تلك اللحظات التي مازلتُ لليوم اعيشها وأشعر بثقلها على صدري لدرجة الاختناق. لقد حاولنا (أنا والراحل) التأقلم مع الأوضاع الجديدة  ـ عقد الثمانينات ـ وأشتداد هجمة البعث الارهابية على الشيوعيين وأي خصم يمكن أن يظهر للوجود، ولم أكن أعلم فيما لو كان لزوجي الراحل اي نشاط سياسي آنذاك، لكن اوضاع بلدتنا ألقوش والعراق عامة كانت ساحة مفتوحة لما تتفتق عنه عقلية الحاكم المريضة، والتي ينفذها عملائه علينا، فلم نسلم من الاهانة والتهديد والتفتيش المستمر، لدرجة أن تدفع المجرم (أبو علاء) ضابط أمن ألقوش الى تهديد زوجي بالقول: (سنخرب بيتك على رأسك) أما لماذا... فأتمنى ان التقي هذا النذل وأساله وجها لوجه ...لماذا؟ هل لجرم اقترفه زوجي، ام لسرقة، ام لعمل سئ قام به؟ كلا وألف كلا، فقط لانه لم يكن بعثياً خانعا او نذلا يبايع الحاكم الذي يذيق الشعب صنوف الارهاب.

 ثم تُكمل السيدة "لمياء" حديثها: أذكر إن زوجي الراحل "عابد" كان قد ذهب الى بغداد أثناء فترة العطلة الربيعية اواخر كانون الأول ١٩٨٩ لقضاء بعض الاشغال وبنفس الوقت  لزيارة شقيقه الذي كانت زوجته (ناهدة) مريضة في تلك الفترة. وشخصيا لم اكن اتوقع أن تمتد الزيارة لايام حتى اتصلت بشقيقه (هرمز) واستفسرت عن اسباب التأخير، فقال لي: دعيه عندي لبعض الايام، فإني اعيش الوحشة في البيت نتيجة مرض زوجتي، وهكذا كان الأمر. مرت بعض الايام، وصرت أتوقع قدومه في أي صباح ممكن، فكنتُ استيقظ حوالي الساعة الثالثة فجرا، موعد وصول باص (المنشأة) من بغداد الى القوش، وبعد دقائق، كان ضجيج الطرقات يخفت، فأقول في سّري، انه لم يأت اليوم!

 وفي ذات صباح، افقت في تلك الساعة، وطرق لسمعي ضجيج خفيف امام باب الدار، وانتظرتُ ان يكون هو، فيقوم بفتح الباب، لكن الباب لم يُفتح، فقلت في سّري، إن هذا ليس (عابد)، وبقيتُ في تلك الساعة اتنقل ما بين اليقظة والنوم، حتى الساعة السادسة صباحا حينما طرق بابنا بقلق (إبن شقيق زوجي) وقال: تعالي شاهدي عمي عابد! فهرعتُ كالمجنونة، لا أدري كيف تمكنت قدماي من حمل جسدي كل تلك الخطوات، وإذا بي أمام منظر مريع يبعد عن بيتنا امتاراً معدودة، و(عابد) ملقياً على ألأرض مضرجاً بالدماء، وقد فارق الحياة.

إن هذا المشهد هو مثل كابوس قاتل أعيشه منذ العام ١٩٨٩ ولليوم، ولا يغرب عن بالي، ولا أدري إن كان شعوراً بالحزن لأني لم انتظره امام باب دارنا في ذلك الصباح، ام ان سلطان النوم والتعب الذي غلب عليّ ليلتها، ام انه نتيجة لليل الانظمة الدموية التي تسترخص ارواح الناس من اجل اشباع عطش الجلاد. أقولها (تكمل السيدة لمياء): سمعتُ اطلاقات نارية في ذلك الصباح، وخلتها آتية من بعيد، وقبلها سمعتُ ببعض الضوضاء اما باب دارنا (اصوات لثلاثة أو اربعة اشخاص)، ولكون الباب لم تُطرق أو تُفتح، فتصورتُ ان (عابد) لم يأت في هذا الصباح، لكني اكتشفتُ لاحقا، بأن الضوضاء كانت ناتجة عن تركه لشنطة السفر اما الباب، ويبدو إن المجرمين الذين انتظروه، أرادوا سحبه بعيداً عن الدار قليلا، فأجهزوا عليه على بعد (٥٠٠) متر من بيتنا، في حادثة أريد لها أن تبقى غامضة في دور الفاعل، لكن إن كان الامر قد انطلى على البعض، فإني على يقين مطلق، بأن الذي قتل زوجي (عابد يوسف مرادو) هو نظام حزب البعث وصدام المجرم عبر مرتزقته الموجودين آنذاك في القوش.

نعم، لقد تركت تلك الحادثة ندوبا وجروحاً حتى وإن اندملت بعد السنين، فأنها تعود في مناسبات كثيرة. ولم يكتفوا بذلك، بل استمر إرهابهم لنا، حيث استدعوني للأمن العامة في الموصل وسألني الضابط إن كنتُ أشك بأحد الاعداء الذي يمكن أن يكون قد قتل زوجي، فقلت لهم بصريح العبارة: إن زوجي لم يكن له أعداء، انكم انتم الاعداء، وأنتم من قتله. فماذا كان الثمن بعد هذه الجريمة: فقد وضعوا العائلة في قائمة الممنوعين من السفر، فأية سفالة هذه؟

على الصعيد الاجتماعي كان زوجي انساناً طيباً معي ومع الابناء، مُحب وخدوم وذو صبر طويل، وأكثر ما كان يضايقه ويغيضه الاخبار (غير السارة) عن رفاقه، وبالحقيقة كان يهتم بتلك الامور كثيراً، وهذا تعبير عن مدى مبدئيته وصدقه ووفائه حتى وإن كانت احياناً على حساب العائلة. وطالما كان الحديث (تكمل السيدة لمياء) لما بعد رحيله، فأني بالحقيقة عانيتُ، لكن الذي خفف تلك المعاناة كان الموقف المشرف للاهل والاقرباء وأبناء القوش الذين كنتُ اتلمس التعاطف والمحبة منهم، أمس واليوم، فشكراً لكل من ساندنا وتضامن معنا.

أما ابن الشهيد السيد (ريفون مرادو) فتعود به الذاكرة لتلك الايام ويقول: حينما قتلوا والدي كان عمري حوالي (١١) عاماً، وكنتُ من الطلبة المتفوقين بمدرستي، لكن بعد الحادثة لم أعد أهتم كثيرا بالدراسة، فتراجع مستواي كثيرا، وكنتُ أشعر بحزن كبير على ما آل اليه حال والدتي والعائلة، مع إنها لم تدعنا نشعر بأي نقص او حاجة في حياتنا، فقد عوضتنا بتضحيتها وصبرها، علما كان اصغر اخوتي يبلغ (٩ شهور) من العمر ساعة رحيل والدي. كانت المفاجأة كبيرة عليّ حينما قدمت طلباً للحصول على جواز السفر عام ١٩٩٨ بعد أن دفعت البدل النقدي للخدمة الالزامية، وإذا بهم يقولون لي: (عليكم منع سفر!) ، ولم يدم الامر طويلاً بعدها، فغادرت العراق بحثاً عن فرصة افضل للحياة، فيما غادرت والدتي والعائلة عام ٢٠٠٦، ومع اني اعيش في الولايات المتحدة وهم في السويد، فأننا متواصلون دائما.

اما الاستاذ موفق حكيم فيتذكر الحادثة بالقول: نعم، كان صباحا مؤلماً على ألقوش، وهو صادف عشية ذكرى انقلابهم الاسود في ٨ شباط ٦٣، فاستيقظت المدينة على شهيد آخر. لم يكن بيتهم بعيداً عن موقف سيارات المنشأة القادمة من بغداد، فقد كان يقع جنب كنيسة ومدرسة مار كوركيس ويسمى الزقاق محليا (الولتا د مر ميخا) فيما وجدوه مقتولا ومضرجاً بالدماء ليس بعيدا، بالقرب من دير الراهبات الدومنيكان وفي الزقاق الذي يسمى محليا (الولتا د بي أبشاره). لقد اشتركت كل القوش في تشييع ابنها الراحل المربي عابد مرادو، بصمت وألم وحزن كبيرين.

 

مع ان الكتابة عن الشهيد (عابد مرادو) اقترنت بمناسبة الاحتفال "بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة" لهذا العام، إلا ان ذلك لم يمنعني من نشرها، لابل ان الحقيقة التي اعرفها هي ان معظم إن لم أقل كل عوائلنا تستحضر اسماء وأرواح احبابهم في المناسبات الجميلة، في الاعياد والافراح والاعراس، في تقليد انساني فريد، وكأن لسان حالهم يقول للفقيد: انت معنا، في كل الاحيان. ولابأس اذن أن تكون روح الشهيد "عابد" وكل رفيقاته ورفاقه الذي قضوا من اجل قضيته الانسانية في (وطن حر وشعب سعيد) ان يكونوا ضيوفاً اعزاء ومكرمين بيننا، اليوم وكل يوم.

(شكري الجزيل للأعزاء عامر تومي وراني فلاح القس يونان والرفاق في منظمة القوش لما قدموه من مساعدة لاخراج الموضوع)

**الذكر الطيب للشهيد الراحل عابد يوسف مرادو

** المواساة لزوجته لمياء وأبنائه وكل أهله ومحبيه

**العار يلاحق المجرمين حتى يقدموا للقضاء وينالوا جزائهم

 

كمال يلدو

كانون الأول ٢٠١٥

 

 

 

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.