مبدعون وابطال الحرية

حليمة پولا.. كلمات قليلة وفاء لأنسانة كبيرة

 

من أوراق الصحفي المعروف الأستاذ المرحوم جميل روفائيل:

حليمة پولا.. كلمات قليلة وفاء لأنسانة كبيرة

 

مقالة للصحفي المعروف الأستاذ المرحوم جميل روفائيل عن المناضلة حليمة بولا سبق وان ارسلها لي من يوغوسلافيا ارجو نشرها في ذكرى رحيل المناصلة المذكورة والتي تصادف هذه الايام

مع تحياتي

اخوكملطيف بولا

 

ان حياة حليمة پـولا ملحمة نضالية وكفاح مرير, بكاها بصدق وبدموع حارة ليس لطيف پولا اخوها وصديقها ورفيقها فقط بل جيرانها في نواب الضباط في بغـداد وفي العـمارات السكنية في زيونة وفي القوش واهلها واقاربائها, بل وحتى صخور الجبل كما يقول الشاعـر لطيف پـولا في قصيدته (( حليمة )) :

فيا حليمة َ انني احمل ُ          الدموع َ في ذهابي وإيابي

من مُهـَج ٍ ضنيت لفقدك ِ       وبلـَّغـت ُ الجبل َ  والروابي

ومكثت ُحينا حيث جلسنا       سوية  على  السفح ِ الخلاب ِ

كأني  بالصخور ِ  تسألني      والحــمــام ُ  يــنـدبُ  جوابي

 

اجل هكذا عـاشت حليمة لأهلها لأطفالها لزوجها لشعـبها ولوطنها. كانت شمعـة أضاءت لغـيرها واحترقت, خـُلقت اشتراكية وعـاشت اشتراكية, وودعـت العـالم وهي تفكر بغـيرها قبل ان تفكر بنفسها. ما اعـظم الانسان ان يحيا ويموت اشتراكيا فكرا وسلوكا. ومثلما كان منشأ حليمة ريفيا بقي حبها عـامرا بقلبها للناس البسطاء وطبقة العـمال والفلاحين, وكان محلها للخياطة والتعليم في شارع فلسطين ومن ثم في منطقة نواب الضباط  وشقتها في الزيـونة مزارات لصديقاتها الطيبات من الطبقات الشعـبية واللائي كـُن َّ تحت وطاة النظام الفاشي يعـانين من كابوس الاضطهاد والملاحقة. فهذه ثاكلة فقدت سبعـة افراد من عـائلتها وتلك ارملة واخرى اولادها في غياهب السجون ومنهن من وقعـن فريسة الاوباش ينهش بهن الفقر, واخرى مطلقة بسبب المشاكل التي افرزها النظام, وتلك زوجها او ابنها مفقود في الحرب او اسير ولم يعـد. كان قلب حليمة كبيرا ليضم كل هؤلاء النسوة في بيتها او في محلها لتشد من ازرهن وتزرع في قلوبهن الامل. وكنَّ بدورهن يجدن في كلام حليمة وابتساماتها المتفائلة دائما البلسم الشافي لعـلتهن رغم ان جروح حليمة كانت اكثر واعمق, زوجها في السجن محكوم مؤبد, وهي تقوم بتربية اولادها وتتحمل مسؤوليتهم, وبيتها مراقب ليل نهار تغير عليها ازلام النظام بين فترة واخرى او تُستدعى للمخابرات. لكنها صبرت وتحملت الى ان نفذ الصبر حكمه فسلمها لمرض خبيث ليطوي حياة حليمة المليئة بالكفاح والنضال والصمود والعذاب .

الف تحية لروح حليمة المناضلة البطلة فهي بحق شهيدة للوطن  والشعب.

كيف ومتى تعرفت على حليمة پولا؟

  تعـرفتُ على (المرحومة) حليمـة للمرة الأولى، عام 1957 وأنا طالـب، حيث  كنت ضيفـا في بيت أبـن عـمي (المرحوم) أوراها رفـو مرقس في بغـداد، كنـا  جالسـين ودخلـت شـابة بشـوشـة مملوءة حيـوية ونشـاطا، ورحب بها الموجـودون (أهلا أهلا حليمة) وسلمت على الموجودين، وحين وصلت عـندي وهي  تصافحني (وكنت أصغـر الموجوديـن عمرا) نظرت الـى (الـمرحـومة) مارية  (زوجة المرحوم أوراهـا) فـقـالت (المرحومة) ماريـة: عـزيزنـا جميل أبـن أخونـا روفائيـل. وجلسـت حليـمة بجانب ماريـة، وزادت الجـو مـرحا وضحكا وأمـورا  مثمـرة، وكان الحديث متشـعـبا، سـؤال عـن أشـخاص، نشاطات المناضلين  الشيوعـيين وأحـوال  من  هم  منهـم  في  السـجون  . . وكنت  معـجبا  بأسـلوبها

الرائع في الكـلام والأمور الوطنيـة التي تـتناولـها (لـم أكـن منتـميا الـى الحزب الشيوعي ولكنـني كنت متعـاطفا معـه  بشـكل  كامـل)  . .

       وبعـد  أكثـر من سـاعـتين من أروع الأحاديث، أخرجت من حقـيـبتها رزمـة مـن الأوراق وسـلمتها الـى ماريـة . .  وودعـتـنا بأبتسـامات عـذبـة. . وذهـبت . . وصـادف أن حضـرت مرات عـدة أخـرى الـى بيـت أبن عمـي أوراها، خلال عـام 1957 والنصف الأول من 1958  . . وبأجـواء رائعـة  مـماثلـة ورزم آخـر منشـورات الحزب الشـيوعـي  . .

      والمـرة الأخيـرة التي رأيت فيـها (المرحومة) حليـمة كانت، إما في  النصف الثـاني من 1958 أو في 1959 لا أتذكـر  جيـدا،  حيـث  كانت  في  سـيارة  مع  عـدد من أقاربـها (أعـتقـد أن شـقـيقـيها: فاضـل ولطيف كانـا معـها)  في  طريقـها  الـى  ألقـوش، وتوقـفـت بعـض الوقـت في تللسـقـف للسـلام على عـمي  (المرحـوم)  ألطون  نعـمو،  الـذي  كان  مناضلا  شـيوعـيا  جليـلا وتعـرفـه  من  بغـداد، وكان ألطـون أحـد  أبـرز  شـخصـيات  تللسـقف  طيـبة  وخلقـا  وشـهرة،  وكان مختـارا لتللسـقف بعـدما أنتـخبـه أهـالي القـرية بـما يشـبه الأجمـاع  . . وسـلمت عـليـها وعـلى من معـها  . .  وكانت بالروعـة نفسها التي عـرفتها في  بغـداد  مرحـا  ونشـاطا  . .

  ومرت سـنوات، وبالتحديد في 1973 إذ تعـرفت في بغـداد على فاضـل  شقـيق  حليمة، بعـد تأسـيس الجمعـية  الثقـافية للناطقيـن بالسـريانية، حيث توطـدت  صداقـتـنا ولقـاءاتـنا المتـواصلة وأنسـجامنـا في أفكارنـا، من خلال عملنا معـا لأكثـر من سـبع  سـنوات في هيـئة  تحـرير مجلـة  الجمعـية  ( قـالا سـريـايـا  ـ

 الصـوت  السـرياني) .وقـد  ألتقـيت  الأخ  فاضـل  لآخـر مـرة فـي بلغـراد  عـام 1992 عـندما حـل مـع عـائلتـه ضـيفا كريـما عـزيـزا عـندي لأيـام عـدة وهـو في طريقـه الـى ديـار الغـربـة الولايات المتحـدة، الديـار التـي لـم يخطـر في بالـه أن يرحـل أليـها يوما، فـقـد كان في أشـد الألـم والمرارة على فـراق العـراق  حيث وطنـه وتاريـخ آبائـه وأجـداده ونضـاله وأقاربـه وأصـدقاؤه وآمـالـه. أمـا  لطيـف شـقيق حليمـة، فقـد تعـرفت عليـه أيضا في بغـداد خلال عـملي الصحفي،  فوجـدته إنسانا كامـل المواهـب نقـي الخصـال، إضـافـة الـى الأخـلاق الحميـدة  وطيـبة المعـشر، فـهو شـاعـر وأديـب وصحـفي ومحلـل سـياسي وأجتـماعـي وفنـان قـديـر, وهـذه صـفات، حقـا، قـلّـما تـتجمـع في إنسـان واحـد. ولطيـف  پـولا هـو أحـد هـذه القـلة النـادرة . .

 أما حليـمة, فـستبقى خالدة في سجلات حزبـها الخالد، لأنـها فـي الصـف الأول بيـن مناضليـه . .وسـتبقـى زهـرة بهيـة زكيـة فـي ذهـن كـل مـن عـرفـها. وهـي  جديـرة بكـل ذلـك، لأنـها كانت أكثـر مـن أنسـانـة فـي التضحيـة مـن أجـل حريـة  وطنـها وسـعـادة شـعـبها, وفـي الجـلال والكرامـة والصـمود والشـموخ وتـرك  الأثـر الطيـب فـي كـل مكـان حلـت بـه. فهنيـئا  للعـائلة  التـي  أنجبـتها, للأسـرة  التـي سـعـدت بـها  ولكـل  قريـب  لـها  بلقـب  إنـه  مـن  ـائلة  حليمـة  پـولا . 

وهنـيـئا لـي شـخصـيا مـن  ذكـرى . . لأنـني عـرفت الأنسـانة الأنسـانـة حليـمة  ..

جميـــل  روفـائيــل

في ذكرى رحيل المناضلة حليمة پولا