مبدعون وابطال الحرية

وفاءاً للشهيدة "فريال" بنت العلوم// كمال يلدو

 

الموقع الفرعي للكاتب

وفاءاً للشهيدة "فريال" بنت العلوم

كمال يلدو

 

حدث في أحد أيام تموز ٢٠٠٣ حينما نشر موقع الحزب الشيوعي العراقي قائمة بأسماء (١٦٧) شهيدا كان النظام البعثي الدموي قد اعدمهم، بعد أن حصل عليها من ملفات الامن العامة. وفي قرأة تلك الاسماء، تختنق الذكريات وتتيه بوصلة العقل وتتشبث الذات البشرية با لأمنية المستحيلة...أتمنى أن لا يكون اسمه او اسمها معهم، لكن عبثاً كان الترجي!

وحينما قرأت اسم الشهيدة (فريال عباس السامرائي) وكان تسلسلها في القائمة رقم ١٤، عادت بي الايام والذكريات، فكان اول رد فعل هو أن اكتب شيئاً، فكم كنت بحاجة لاخراج شيئا من روحي...صراخ...بكاء...تأمل ...صمت ....لا اعرف .

كتبت تلك الاسطر، وكانت هذه أول محاولاتي الوجدانية، حيث كنت قبلها اكتب خطباً ومقالات سياسية، وبعد أن اتممتها خاطبتُ احد اصدقائي الشعراء بغية مساعدتي في بعض التصليحات التعبيرية او اللغوية فأجابني: كمال هاي مشاعرك، ولتخللي واحد يغيرها او يلعب بيها!

وهذا ما فعلت، أرسلتها للكثير من المواقع، ولم اعرف تصليحها او اعادة صياغة اي من جملها، ولغاية اليوم، اردتُ أن اضعها بين يدكم كما هي، كما كتبتها وكما شعرت بها. اما حينما نشرتها فكان هناك شعور غيبي يسيطر عليّ، مرده الكيفية التي اوصل هذه الكلمات الى عائلة "فريال" ومن بقى منهم، وهل هم في العراق ام خارجه ؟هواجس وأفكار كثيرة، لكني كتبتها وأرسلتها....وحسننا فعلتُ! فقد علمتُ بعد سنين بأن احدى شقيقاتها (د.نضال) كانت قد قرأتها، وهناك الكثير من عوائل الشهداء او من معارف الشهيدة قد قرأوها. فرحتُ كثيرا، ومازالت فرحتي لليوم كبيرة، وأترجمها في كتاباتي عن الشهداء بأمل ان أصل الى عوائلهم  وأحبابهم وأقول لهم: بأنهم أعزاء عندنا مثلما هم أعزاء عندكم، وثانيا: من أجل ان تبقى هذه الاسماء وقصص شهادتهم عالقة في فضاء الوطن، مرئية ومحسوسة ، كالمطرقة على رؤوس المجرمين اصحاب الضمائر الميتة، بأمل أن يدور الزمن ويقدموا للمحاكمة حتى ينالوا قصاصهم العادل، وبأمل أن يصحوا بعض اؤلئك المأجورين والمحسوبين على جنس البشر ويخرجون للعلن معلنين عن اماكن دفن اجساد هؤلاء الشهداء....عن اماكن دفن احبابنا!

اليوم وبعد ١٣ عاما من نشرها الاول، لم تعد موجودة في شبكة الانترنيت، فآثرت إعادة نشرها، احتفالا بذكرى (يوم الشهيد الشيوعي) واعتزازاً بذكراهم العطرة ، التي لا تُنسى.

***

 حين دَقَ الحارس المسمار في يد المسيح المسجى على الصليب، ايُّ صوت جاء من المسمار، وأية حشرجة خرجت من فم المسيح؟ ....وأيُّ صدى تردد لما إقتحمت الرصاصات جسد جيفارا الملقى على الأريكة، وهل سمع صوتها؟ ...أم أحس بها تشقُ جسده النحيل؟

 

كعادتنا، كلما تلاقينا او تحادثنا، كانت الكلية (العلوم) وذكرياتها المساحة التي تجمعنا، مع هموم الوطن وإجترار الذكريات حتى صارت لنا صلوات لايمكن تجاوزها لئلا تغضب الآلهة وتصيبنا بلعنتها.

 

عدتُ يومها للبيت وأنتهيتُ لألبوم الصور، واحداً من إثنين عمرهما أكثر من (٢٥) عاماً، البعض القليل مما تبقى من العراق ومني، فيه دمي وذكرياتي، فيه انفاسي المنسية...لا ....فيه قيود ثقيلة ومؤلمة. فما الفائدة من حفظ الصور إن لم تكن لذكرى حلوة؟ ...أما إذا كانت مصدر همّ وألم وأسى، فماذا تكون حين ذاك؟ ....ليس أكثر من جلاد حين الطلب.

 

قلبتُ الصور، وقلبتُ أشخاصها، تذكرتُ كيف اصطففنا أمام الكاميرا، نضحك ونمسك الضحكة حتى نسمع صوت العدسة. هذا يعمل حركة وذاك رفع يده وهذه تضحك وهذا يوميء بيده.

شباب متدفق في الصف الأول من الكلية، هذه أول تجربة لنا، صفوف وبناية تجمع الطلاب والطالبات. آمال كبيرة وأسرارا أكبر. حب هنا وإعجاب هناك...وهذه شهوة مكبوتة تنتظر خروجها للشمس، هذه كانت تحبني وهذه معجبة وهذا يحب تلك وتلك تحب هذا.....والكل حب وأمل.

الكل يضحك أو يبتسم على أقل تقدير في هذه الصور...وأثناء تفرسي لها حاولت أن أفهم هذا اللغز، لماذا الابتسام؟ أهي رغبة في مواجهة الحياة أم حالة نفسية نفرضها على الصورة أم رسالة لعالمغامض وغير مرئي....عالم ما وراء الكون.

هذه الصور ...والشخوص ...والأماكن....بعد هذه السنينصامتة  لا حراك، ألوان ومواد كيميائية مرتبة بشكل معين وخطوط ومنحنيات تنجبُ أجساماً بشرية.

وحتى هذه الضحكات لم يعد لها صدى يُسمع، أحسها مسامير تدق في لحمي وبألم فائق...

لا....لا....هي إذن آهات أو اصوات استغاثة

هذا في اوربا

وهذه في العراق

هذا في أمريكا

وتلك تزوجت

هذا لا أعرف

وهذا مات

 

وفريال عباس ...أين فريال عباس؟

 

هذه الفتاة الرقيقة، متوسطة الجمال. ذات جسم صغير ونحيل، وكانت امها كثيرا ما تشكي انها لا تأكل كثيراً، لكن الذي يسمعها وهي تناقش أو تصر على رأيها، لا يتصور إن فتاة بهذه النحافة صلبة متماسكة وواثقة الى هذا الحد.

من عائلة فقيرة....فقيرة ....إخوة وأخوات وأبوين مليئان بالعطف...يوم دخلت الجامعة فرح الكل بها، فغداً أو بعد غد، ستتزوج شخصاً ذو جاه....غداً أو بعد غد.

كانت فريال شفافة ورقيقة، صوت دافئ وخافت، كنتُ اواجه صعوبة في سماع صوتها وكنتُ اقرب اذني منها حتى أسمعها....لا ...ربما كانت تصطنع ذلك حتى اقرب وجهي من وجهها لكي تشعر بحرارة وجهي.

لا ...لا...لاأدري....ربما.

فريال ....كم مرة تقاسمنا السنين والآمال....فريال حدثتني عن حب دلها على الطريق لكنه ترك قلبها....فريال كانت أحلاماً كبيرة.

دخلت كلية العلوم عام ١٩٧٦، درسنا السنة الأولى سوية، وفي العام التالي التحقت بفرع الكيمياء وتركتنا في فرع البايولوجي. لكن كنا دائما نأخذ (الفورد) من بغداد الجديدة لباب المعظم ثم للأعظمية. مسيرة دائمة وأحيانا كنا نختار قياس الطرق راجلين من الاعظمية حتى بغداد الجديدة.

ساعتان ... وأحياناً أكثر من الآمال والامنيات في بناء الوطن الواحد....يومها كانوا يعدون القضبان والبوابات لبناء عراقهم!

كان المفروض أن تتخرج عام ١٩٨٠....غادرتُ العراق ربيع ١٩٧٩أثناء العطلة الربيعية والتي كانت تدوم (١٥) يوماً....وها قد مددتها لتصل (٢٤) عاماً!!

فريال عباس السامرائي...قرأتُ اسمها في صحيفة (طرق الشعب) العراقية عام ١٩٨٠ مع مجموعة من زملاء كلية العلوم، وكانت المناسبة: القاء القبض عليهم بتهمة الشيوعية، وتكرر اسم فريال مع قوائم المعتقلين والمعتقلات لسنين وسنين.

فريال عباس السامرائي...ظهر اسمها مرة اخرى....وهذه المرة في قوائم شهداء الحزب الشيوعي العراقي حيث كانت قد استشهدت رمياً بالرصاص في ٢٣/١٢/١٩٨٢.

فريال، هذه الاحلام الجميلةوالعائلة التي تنتظر تخرجها، هذا الجسد النحيل صاحبة الصوت الواثق. الطالبة في كلية العلوم....يعرفها أبناء وبنات الطرف...فتاة هادئة يعرفها أصحاب (الفوردات) ويعرفها جيدا رجل الأمن الذي يقف في باب الكلية. فريال لا أدري إن كنتُ قد ودعتها يوم قررتُ أن انفذ  بجلدي من القصاب.

 

كيف اقتحمت الرصاصات هذا الجسد...وأيُّ صدى كان لها؟ ....هل سمعت الرصاصات أم أحسّت بها تمزقها؟ ....وكيف للرصاص أن يؤذي فتاة مثل فريال؟ ...أما كان يمكن للرصاص أن يخطئها أو يتخطاها؟

ماذا كانت تلبس في آخر ساعاتها...وبأي شئ كانت تحلم وما هي آخر صورة في عينيها؟....ماذا قالت امها وأخواتها وأبناء الطرف وسائقوا (الفوردات)؟

قبل أيام كنتُ قد أعددتُ لمشروع رسالة أبعث بها الى صحيفة "طريق الشعب" في بغداد أسأل فيها عن النخيل والشجر والماء الذي تركته ورائي قبل ربع قرن،

 

واليوم ستحمل رسالتي اسماً أقل!

 

كمال يلدو

تموز ٢٠٠٣