مبدعون وابطال الحرية

سلاماً لذكرى الشهيد النصير الشيوعي أمين عبي// كمال يلدو

 

عرض صفحة الكاتب

سلاماً لذكرى الشهيد  النصير الشيوعي أمين عبي

كمال يلدو

 

لم يبق من جيل المناضل أمين عبي الكثير ممن يتذكروه وينشروا مآثره، وقد كنت محظوظاً أن احظى بمن سردوا لي الاحاديث الكثيرة عنه. ومع ان خمسة وخمسون عاما انقضت منذ ان ارتقى مجد الشهادة، لكن تبقى ذكراه امانة في أعناقنا من اجل ايصالها للجيل الجديد المتعطش لمعرفة ما مر به الحزب الشيوعي العراقي، وكيف صنع كوادره وأبطاله، وما هي ملاحمهم البطولية التي استرخصوا لها ارواحهم وحياتهم،وكيف تعاملت الانظمة الرجعية المتوالية مع هذه النخبة المثقفة من ابناء الشعب. وكما قال نابليون بونابرت مرة: إنه المبدأ ، وليس الموت هو الذي يصنع الشهداء والابطال!

 

** يفرد القائد الانصاري الراحل توما توماس ـ ابو جوزيف ـ في مدونته جانبا عن الشهيد ويقول:" هو أمين عبدلله من عشيرة المزوري والملقب (أمين عبي)، والذي كان معروفاً بشجاعته، وعلى أثر بعض الخلافات العشائرية اودع سجن الموصل في اواسط الخمسينات، وهناك اهتدى للافكار الشيوعية، وترشح للحزب بعد خروجه من السجن. عمل في لجنة ريف دهوك، وتقدم الى عضوية لجنة القضاء. التحق ومعه مجموعة من رفاق دهوك بالحركة الانصارية الشيوعية اوائل ١٩٦٣، وكان معاون آمر القاعدة العسكري. خاض عدة معارك وكان فيها مثالاً للمقاتل الشجاع، وقد تولى مسؤولية احدى المفارز في المنطقة. استشهد في عملية احتلال مركز شرطة تللسقف في شباط ١٩٦٦، ودفن في مقبرة بيرموس. استقرت عائلته في القوش بعد ان تم حرق قريتهم. كان قد اقترن بالسيدة خديجة وله منها ولدان غازي و نازي ."

 

**يتحدث الاستاذ موفق حكيم عن أمين ويقول: لم تكن (بيرموس) البلدة التي ينحدر منها الراحل بعيدة عن بلدتنا القوش، وكنّا قد سمعنا عن بطولاته كثيرا، ولعل بعض الصور مازالت عالقة بالذاكرة. فقد ترعرع في وسط فَرضت عليه ان يكون قويا وشجاعاً، نظراً لواقع المنطقة والاستقطابات الجارية وموقف رجال الشرطة بدعم هذا الطرف على حساب ذاك، وكان  هو ووالده وبعض افراد عائلته قد التحقوا ب (عبد العزيز حجي ملو) لاجل المحافظة على وضعهم، حيث كانت تشهد المنطقة مناوشات (كر وفر) مع الآخرين، ويبدو انه وفي احدى تلك الجولات قد القي القبض عليه وحكم لعدة سنوات حيث أودع سجن الموصل.

في السجن تعرف على الشيوعيين المسجونين هناك، وأول ما علموه كانت القراءة والكتابة، بعدها كان لبعض القادة دورا كبيرا في تغيير مفاهيمه وتحويله الى انسان جديد ومنهم: (عبد الرحمن القصاب،عدنان جلميران وآخرين)،  وقد توطدت علاقته بالحزب عن طريق  الشماس (آبرم عمّا)، وقد كسب الكثير من ابناء بلدته لصفوف الحزب، لابل انه اصبح كادرا سياسيا آنذاك . وعشية انقلاب ٨ شباط الدموي عام ١٩٦٣ التحق بالحركة الانصارية هو ومجموعة رفاقه من دهوك، التي انطلقت للدفاع عن القرى والبلدات في مناطق سهل نينوى ودهوك مع الراحل (توما توماس ـ ابو جوزيف)، وقد شارك في قتال (القوات السورية) التي هبت لدعم انقلابيي٨ شباط البعثي في المنطقة، ويروى عنه بأنه كان يتنقل بخفة  وسرعة من موقع الى آخر حتى كان البعض يشبهّون  سرعته بأنها شبيهة ب (افلام الكاوبوي) . ان اكبر ما يحسب لهذا الشهيد بأنه انتقل من انسان اعتيادي الى مناضل وطني يدافع عن مصالح الشعب العراقي عامة، وثانيا، فإن الفضل الكبير يعود له في تحويل  منطقته (بيرموس) الى اهم قاعدة دفاعية للانصار الشيوعيين منذ العام ١٩٦٥ ولحد انتهاء العمل الانصاري مع هجوم الانفال عام ١٩٨٨. واعتزازا بتلك البلدة وناسها والشهيد ، فإن منظمة (القوش) للحزب الشيوعى العراقي تصدر مجلة فكرية سياسية دورية تحمل الاسم ـ بيرموس ـ، فيما ضمت هذه القرية البطلة مقبرة لشهداء الحركة الانصارية ما بين لاعوام ١٩٨٠ ـ ١٩٨٨.

 لقد كان شخصية محبوبة ومحترمة وخاصة من اهالي القوش وأبنائها البررة .

**أما القائد الانصاري دنخا البازي ـ أبو باز ـ فإنه يروي فصلا آخرا من حياة هذا المناضل ولعله الفصل الاكثر حزنا، فهو عاش تلك اللحظات القاسية (قبل أكثر من خمسة عقود) والتي مازالت ماثلة أمامه لحد هذه اللحظة، ويقول: بعد انقلاب ٨ شباط الدموي، والهجمات الاجرامية التي قادها الحرس القومي والبعثيين والقوميين ضد انصار الحزب الشيوعي وثورة ١٤ تموز، لجأ الكثير منّا الى المناطق الجبلية الوعرة وبعض القرى البعيدة هرباً من الاعتقال وتفادياً للموت المحتم، وهذا الامر لم يكن سهلاً امام اختلال التوازن بين نظام يملك جيشاً وشرطةً وطائرات، ومجموعة هاربة لا تملك السلاح ولا المقرات ولا حتى اماكن للاختباء أو طعام. وقد استغرق الامر منّا وقتا غير قصير حتى استعدنا توازننا وخلقنا وضعا افضل لسلامتنا. وفي بداية عام ١٩٦٦ كنتُ بعملية اشراف حزبي على منظمتنا (السرية) في تللسقف، وبعد انتهاء الاجتماع نظرتُ من خلال الشباك وإذا بمركز شرطة تللسقف امامي، فلمعت بذهني فكرة! فأخذت احد افراد العائلة المضيّفة وذهبت واستكشفت المركز ورسمت خطة. بعد ايام عدت الى مقر الانصار وفاتحت الرفيق (ابو جوزيف) بالامر، وهو الهجوم على المركز والاستيلاء على الاسلحة (التي كنّا بأمس الحاجة لها) ونعمل على أخذ الشرطة معنا (اسرى) لبعض الوقت بغية تأمين عودتنا لمقراتنا سالمين. وفعلا راقت للراحل ابو جوزيف الفكرة فأعددنا فريقين، الاول يكون للحماية تحسبا لهجوم قوات السلطة والفريق الثاني شاركتُ انا (ابو باز) والرفيق كوريال (حامل مدفع البازوكا) والرفيق أمين عبي ورفيق آخر (للاسف لا يحضرني اسمه).

ثم يُكمل ابو باز حديثه بالقول:  كانت الخطة تقضي بأن يتوجه الرفيقان (امين والآخر معه) ويستقرا على الدرج من جانب المركز، وطلبت منهم وأمرتهم بأن لا يصعدا للسطح لان الخطة ستنكشف ويتعرضوا للرمي، اما انا وكوريال فنكون خلف السياج وتكون نقطة الصفر بأطلاق قذيفة بازوكا على المركز ثم الهجوم.

لحظات دقيقة وصعبة وثقيلة تمُّر، وإذا بالرفيق الآخر مع أمين يصرخ: أمين كَوشن! أي (امين قُتل)، فطلبت منه السكوت، وفي هذه اللحظة الصعبة كان على كوريال اطلاق القذيفة، إلا ان سياج المركز كان عالياً وكوريال ليس طويلا، فإضطررت للانحناء حتى يصعد كَوريال على ظهري ويرمي، وكنتُ اطلب منه: (يللّه كَوريّا الخاطر الله ارمي)، وفعلا ضرب القذيفة وأحتللنا المركز، فقصدتُ جثة البطل أمين ونظرت بحزن، فقد كانوا قد صعدوا للسطح، فقلتُ معاتبا الرفيق الآخر: الم اقل لكم لا تصعدوا السطح!

هكذا خسرنا انسانا مناضلا طيبا صلبا  للاسف !

 ثم ينهي ابو باز كلامه بالقول: الشهيد أمين وآلاف الشهداء ومئات الآلاف من المناضلين وملايين العراقيين ما كان لها ان تستشهد او تُعتقل او تُعذب او تختار النفي والهجرة لو عمل حكام البلد على نقل العراق الى مرحلة اكثر متطورة بقانون حرية الاحزاب، وتنظيم الانتخابات وتطبيق مبدأ التبادل السلمي للسطة، فمن كان سيفكر بحمل السلاح او محاربة الحكومة او اخيار الجبل والاهوار لمقاومة ارهاب الانظمة وعسفها، لكن ماذا كانت النتيجة، ضحايا وشهداء وحروب، وأنظمة وجدت مكانها الى مزابل التأريخ هي وقادتها المجرمين.

** آمل ان لا تشغلكم سنة الاستشهاد، فالرفيق (ابو جوزيف) كتب في ١٩٦٦، فيما الرفيق (أبو باز) يتذكر ١٩٦٤، ومهما يكن من امر، فقد خسر الحزب والعراق مناضلاً جسورا !

**شكرا لرفاق منظمة القوش على تزويدي بصورة الشهيد، وللاستاذ سليمان قتي على المعلومات التكميلية

*** المجد للشهيد النصير أمين عبي، والمواساة لاهلّهِ وأحبته وكل أهالي بيرموس

*** العار للانظمة القمعية وسياساتها الفاشلة

كمال يلدو

شباط ـ ٢٠١٩