حوار ولقاء مهم وحصري لمجلة بابلون مع المطران يوسف توما
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 20 كانون1/ديسمبر 2024 22:01
- تاريخ آخر تحديث: الجمعة, 20 كانون1/ديسمبر 2024 22:02
- كتب بواسطة: Super User
- الزيارات: 386
حوار ولقاء مهم وحصري لمجلة بابلون
مع الإنسان والمثقف والباحث: المطران يوسف توما
في لقاء مميز وحصري اجراه الدكتور عامر ملوكا رئيس التحرير مع المطران يوسف توما، أحد أبرز الشخصيات الفكرية والدينية في المشهد الثقافي الكلداني والعراقي. المطران يوسف توما ليس فقط رمزًا دينيًا، بل هو أيضًا مثقف وباحث ذو بصمة واضحة في الحقل الفكري، حيث يمتزج في شخصيته العمق الروحي بالرؤية الثقافية المعاصرة.
في هذا الحوار موضوعات غنية ومتنوعة تتراوح بين قضايا الهوية الثقافية، ودور الدين في بناء الإنسان، والعلاقة بين الإيمان والعلم، بالإضافة إلى استعراض رؤاه حول التحديات التي تواجه المجتمعات اليوم، خصوصًا في ظل المتغيرات العالمية.
تابعوا هذا الحوار الفريد في مجلة بابلون، حيث سيكون فرصة لاكتشاف آراء المطران يوسف توما وأفكاره العميقة التي تسلط الضوء على قضايا تمس جوهر الإنسان والمجتمع.
من هو المطران يوسف توما؟
المطران يوسف توما وُلِد في مدينة الموصل في 21 حزيران عام 1949، في محلة المياسة. التحق بمدرسة التوماوية عام 1956، ثم انتقل مع عائلته إلى مدينة زاخو عام 1959 عقب أحداث الشواف. أكمل دراسته الابتدائية والأول المتوسط هناك، ثم التحق بمعهد يوحنا الحبيب في الموصل لدراسة الفلسفة واللاهوت حتى عام 1971.
في تشرين الأول عام 1971، خدم في الجيش العراقي بصفة جندي غير مسلح حتى تموز 1973. بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، عمل في إحدى الشركات التجارية في منطقة المسبح ببغداد حتى عام 1974. في وقت لاحق من العام نفسه، غادر إلى فرنسا لمواصلة دراسته. هناك، حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في اللاهوت العقائدي من جامعتي ستراسبورغ ونانتير، كما نال دبلومًا عاليًا في علم الأجناس البشرية.
عاد المطران يوسف توما إلى العراق في نهاية عام 1979، مصطحبًا سيارته البيجو 504 التي اشتراها من عمله الصيفي في حقول الأبقار كسائق جرار وعمله في المطاعم. استغرقت رحلة العودة من باريس إلى الموصل خمسة أيام.
رُسِم كاهنًا في كنيسة الساعة (أم الاعجوبة) في 26 آذار 1980، لكن بعد فترة وجيزة، استُدعي لخدمة الاحتياط أثناء الحرب العراقية الإيرانية، حيث خدم لمدة 36 شهرًا حتى آب 1983.
في عام 1984، انتقل إلى دير الآباء الدومنيكان في بغداد، حيث نشط في العمل الرعوي، وقام بإدارة الدورة اللاهوتية، إلى جانب تدريسه في المعهد الكهنوتي الكلداني (السمنير) حتى شارك في عام 1990 في تأسيس كلية بابل للفلسفة واللاهوت بحي الميكانيك ببغداد.
في عام 1994، تولّى إدارة مجلة "الفكر المسيحي" التي أسسها كهنة يسوع الملك عام 1964 واستمر في هذا الدور حتى عام 2014، حين أصبح مطرانًا لأبرشية كركوك والسليمانية.
من أبرز أعماله:
تأسيس دار للمسنين المصابين بألزهايمر وأطفال التوحد ومركز العلاج الطبيعي في السليمانية باسم "ميرسي ماري" Mercy Mary
إنشاء مركز لأطفال التوحد وآخر للثلاسيميا وتطوير المركز السرطاني وكلها أهداها للحكومة المحلية في كركوك، كما أسس مدرسة أم الرحمة الابتدائية الأهلية ومركزا راعويا في حي سيكانيان في كركوك.
أين يجد المطران يوسف توما نفسه بين هذه التعريفات: كإنسان، أو مثقف، أو رجل دين؟
"أنا ابن عائلة بسيطة، متحركة، متنقلة، لم تعرف الاستقرار. ولدَت وعاشت بين مدن وقرى تنبض بالتنوع: الموصل وزاخو، حيث امتزجت ثلاث لغات بثقافاتها: الآرامية الكلدانية المسيحية والعربية والكردية. في هذا التنوع كنت أبحث عن انتماء يتجاوز الهوية الضيقة؛ انتماء يمنحني شعورًا بالاحتواء لا يعترف بالحدود.
تعلمت منذ الصغر أن الإصغاء أهم من الكلام. قبل الخامسة والثلاثين كنت مثل وعاء فارغ، أتطلع إلى الامتلاء، أشعر بالجوع والعطش المعرفي. وعندما فتحَت لي فرنسا أبوابها، تلك الأرض التي تتنفس ثقافة وتاريخًا، شعرت أنني أقترب من منابع الحكمة. درستُ اللاهوت والعقيدة، وأتقنت الفرنسية، وعشت بين صفحات آلاف الكتب التي أضاءت لي طرقًا لم أكن أعلم أنها موجودة. فرنسا لم تكن فقط موطن الثورة والمنهجية العلمية، بل كانت مساحة لأُشبع فضولي وأصقل رؤيتي للعالم.
لكن رحلة البحث لم تنتهِ. مع مرور السنوات، وجدت نفسي أشبه بمنطاد محمّل بالأثقال، يودّ أن يتحرر ليعلو. شعرت بحاجتي إلى تفريغ ما حملتُ معي من أفكار ومعرفة، ليس استعراضًا، بل مشاركة. حين عدت إلى الموصل في سيارة البيجو 504، لم أحمل معي إلا ما هو أثمن من الذكريات: أكثر من نصف طن من الكتب. هذه الكتب لم تكن مجرد أوراق؛ كانت رفيقة الدرب التي تجعلني أشعر، كلما تعلمتُ، بأنني لا أزال في بداية الطريق. المعرفة عندي كالنار: كلما أضأت، تساءلتُ إن كان هناك المزيد، كما قال سقراط: "أعرف شيئًا واحدًا، وهو أنني لا أعرف شيئًا."
بين الشرق والغرب: تأملات في عالمين
"أنا أتنفس برئتين، شرقية وغربية، وأرى بعينين، وأسمع بأذنين. الشرق والغرب ليسا في صراع داخل روحي، بل في حوار دائم. الشرق علمني الحساسية، الشاعرية والبساطة، بينما الغرب منحني العقلانية، المنهجية، وقوة التراكم المعرفي.
في جامعة ستراسبورغ، على حدود ألمانيا، رأيت كيف استطاع الغرب أن يبني حضارته عبر الأجيال، معتمدًا على التراكم لا القطيعة. هناك، اكتشفتُ أن المنهجية ليست مجرد أداة، بل فلسفة حياة. في المقابل، وجدت أن الشرق يعاني من نزعة تمحو ما سبقها، نزعة تجسدها فكرة "الأنانية المتضخمة" التي تسعى لتحقيق الذات على حساب الآخر. أما نحن الشرقيين نميل إلى حب السلطة أكثر من الفعالية فيها، فالرغبة في التميّز غالبًا ما تقودنا إلى الفشل.
ولكن، رغم ذلك، يحتفظ الشرق بسحره الخاص. اللاهوت الشرقي، كما أفرام السرياني، شاعرية تلامس الروح، بينما اللاهوت الغربي عقلانية تميل إلى الفلسفة والمنطق الرياضي. أنا محظوظ لأنني لم أضطر للاختيار بينهما؛ بل وجدت فيهما تكاملاً يغني تجربتي.
لقد درست نظرية داروين، قرأت عن التطور والخلق، ونشرت كتبًا تجمع بينهما. لم أجد في الفكر الغربي ما يدعو للتعالي على المعتقدات الشرقية، كما أنني لم أجد في الروحانية الشرقية ما يجعلني أنكر منهجية الغرب. المصالحة بين الفكرين ليست رفاهية، بل ضرورة إنسانية.
الشرق توقف عندما اعتقد أنه امتلك الحقيقة المطلقة، وألقى المفتاح في البحر. أما الغرب، فواصل البحث. الإنجيل، كما أراه، لم يضع قيودًا بل منح أفقًا مفتوحًا للمستقبل؛ أفقًا لا يقودنا إلى التعصب أو السلفية، بل يحررنا لنقبل الآخر ونبني معه.
أنا رجل دين، مثقف، وإنسان يرى أن الحضارة لا تُبنى بجناح واحد. الشرق يحتاج الغرب، والغرب يحتاج الشرق. وكلما ازددتُ علمًا، أدركتُ أنني أبدأ من جديد؛ كالنار التي تزداد اشتعالاً كلما أُشعلت، لا لتلتهم، بل لتنير الطريق."
المثقف، كما يراه تشومسكي، هو ذاك الكائن الذي ينهض في وجه القهر، يتحدى الدعاية المضللة، ويكشف زيف الأنظمة التي تسعى إلى تطويع العقول. أما شيلر، فيرسم صورة أخرى للمثقف: شخص يحمل مشعل التوازن بين المعرفة والفضيلة، يوظف علمه لا لتحقيق مآرب شخصية، بل لتشييد الخير العام وبناء مجتمع أكثر إنسانية. وفي خضم هذه التعريفات التي تشبه نوافذ تفتح على عوالم مختلفة، يتجلى السؤال: ماذا يرى يوسف توما؟
كل هذه منظورات جميلة، لأنها تضيف أبعادًا للرؤية الإنسانية، وتذكرنا أن الزاوية التي نختارها للنظر إلى العالم تشكل حقيقة وجودنا. المنظور، كما اكتشفه الآشوريون والبابليون، ليس مجرد أداة فنية بل رؤية فلسفية للحياة. أين يقف الفنان وكيف ينظر؟ من أي زاوية يخط لوحته؟ لوحة المسيح المصلوب فوق العالم لسلفادور دالي هي إحدى أعظم الاكتشافات البصرية، فهي ليست فقط إبداعًا فنيًا، بل تأمل عميق في موقع الإنسان أمام الكون.
"قل لي أين تقف، أقول لك من أنت" – هذه العبارة تختزل فلسفة المنظور. من الأعلى تبدو الأشياء صغيرة، ومن الأسفل تبدو ضخمة. لكن الحقيقة، كما يقول يوسف توما، ليست شيئًا نملكه، بل مسار نسير فيه. هي رحلة لا تتوقف، كما علمنا المسيح حين قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة." الحقيقة ليست هدفًا ثابتًا، بل هي حركة مستمرة، كتوازن سائق الدراجة وسط ازدحام الحياة، أو بائع الكاهي الذي يحمل سلة ثقيلة فوق رأسه ويقود بين السيارات، محافظًا على توازنه رغم كل الفوضى من حوله.
الحياة تحتاج إلى هدف، إلى كيان يتحرك. "العقل السليم في الجسم السليم" – حكمة قديمة لكنها تختزل جوهر الوجود. في المجتمعات الشرقية، خاصة تلك التي عانت من الحرمان أو الاغتراب، نرى كثيرًا من الوقت يُهدر في حفلات فارغة وعبادة للذة، كما لو أن هذه المجتمعات تعيد إنتاج مأساة روما القديمة حيث كان أدونيس رمزًا لهذه العبادة العقيمة.
الحياة، كما يراها شيلر، هي خروج من الذات، انعتاق من قفص "الأنا". إذا كان هدف الإنسان محصورًا في ذاته فقط، فإنه يقع في براثن الكآبة والقلق، كما هو الحال في المجتمعات الغنية التي أنهكتها اللذة حتى أصبحت عالقة في طين الفراغ. المهاجر الذي يحصل على كل ما يلبي حاجات جسده قد يجد نفسه أيضًا في حالة ضياع إذا لم يكن له هدف يتجاوز ذاته، شيء أكبر يعيش من أجله.
الحياة إما أن تكون عملاً خلاقًا يترك أثرًا، أو تربية طفل يحمل ما عجزنا عن تحقيقه، ليكون امتدادًا لأحلامنا غير المكتملة. الفيلسوف شيلر كان يرى المثقف كضمير للمجتمع، وغاية الوجود تكمن في البحث عن هدف أسمى من "الأنا". عندما يدور الإنسان في فلك ذاته فقط، فإنه يتحول إلى عجلة تدور في الوحل دون أن تتقدم، فتضيع حياته دون أن يحقق المعنى.
ما هي صفات رجل الدين المسيحي الحقيقي كتلميذ المسيح وهل من المفروض أن يكون مثاليا؟
في البداية، لا أرتاح لاستخدام مصطلح "رجل الدين"، لأن المسيحية لا تميز بين رجل وامرأة في التلمذة. المسيحيون، رجالًا ونساءً، هم تلاميذ لشخص واحد، هو المسيح. المسيح الذي وصفته الكنيسة بـ"العابر"، فهو موسى الجديد الذي يعبر بنا بحر الموت. المسيحية ليست مجرد ديانة، بل هي إجابة على معضلة وجودية حاولت كل الحضارات معالجتها: الموت.
كما قاد موسى شعبه عبر البحر، يقودنا المسيح عبر محنة الموت إلى الحياة. لقد قال المسيح: "وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت يا أبتِ"! المعرفة هنا ليست مجرد إدراك، بل اتحاد بالذي خلق الكون، ذلك الخالق الذي صنع كل ما هو جميل ورائع. لكن لماذا؟ هل هناك معنى للشمس والقمر والكواكب؟ أليس الوجود نفسه سؤالًا كبيرًا؟
السؤال هو جوهر الإيمان المسيحي، لأنه يفتح أبوابًا نحو ما نرى وما لا نرى. في قانون الإيمان نقول: "خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى". وبينما يكتشف العلم عوالم المتناهي في الصغر كالنانو والفيمتو، يبقى هناك الكثير مما لا نعرف. كما قال أحد العلماء الفرنسيين: "أجوبتي ليست مهمة، أسئلتي هي الأهم".
العلم رحلة استكشاف، والمسيحي يعيش هذه الرحلة بإيمانٍ متواضع. حتى أعظم العلماء يعترفون بأن معرفتنا لا تزال محدودة؛ فكلما تقدمنا خطوة، تتكشف أمامنا آفاق أوسع من المجهول. هكذا كان انتقال البشرية من العصر الحجري إلى البرونزي، ومنه إلى الحديدي، وصولًا إلى الكهرباء والإنترنت.
رجل الدين المسيحي الحقيقي هو شخص متواضع، ليس بمعنى الخضوع السلبي، بل بالتواضع الذي يفتح باب القلب والعقل نحو التعلم المستمر. الرهبان والقديسون لم يكونوا فقط متعبدين، بل كانوا أيضًا مكتشفين وباحثين عن الحقيقة. وربما العلماء والباحثون اليوم هم "قديسو العصر الحديث"، لأنهم يحملون شعلة الاكتشاف والمعرفة.
تجربة جائحة كورونا أبرزت هذا التواضع العلمي؛ فقد اختُصر الزمن من عقود إلى أشهر لاكتشاف لقاحات، وقد يتحول هذا الزمن في المستقبل إلى أيام أو ساعات. العلم هو مسيرة مضنية، لكنه يذكرنا بما قال المسيح: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه". لا شيء يتحقق دون تعب!
الإنسان بطبيعته لا يشبع، لأن الله زرع فيه "خميرة". الخميرة، كما الملح، صغيرة في حجمها لكنها تضفي طعمًا ومعنى إلى الحياة. المسيح هو الخميرة التي تجعل حياة الإنسان ذات مغزى.
حتى العلماء، في أبحاثهم عن الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا، بدأوا يكتشفون الله في تفاصيل الكون. عالِم النبات يرى الأشجار كائنات ذكية قادرة على التواصل، وهو ما يذكرنا بالمزمور: "السماوات تتحدث بمجد الله، والأرض تخبر بعمل يديه". لماذا لا نتعلم لغة الأشجار التي خلقها الله؟
كارل فون فريتش حصل على جائزة نوبل عندما فك شفرة لغة النحل، وكونراد لورنس أيضًا حصل عليها عندما فكك غريزة الأمومة عند طيور الوز. الغريزة التي تذكرنا بأن الخليقة، بكل مكوناتها، ذكية ومبدعة. من الذي علم البط والنحل؟ يقولون انها الغريزة ولكن كان لا بد ان نفككها لنفهم شيئًا ما منها.
كمسيحي، أشعر بالخجل لأنني لم أتعلم بعد لغة هذا العالم كما يجب. المسيح فتح الأبواب للبحث والسؤال، للمعرفة والإيمان، لكنه دعا دائمًا إلى التواضع، لأن الحقيقة ليست ملكًا لنا، بل هي طريق نمضي فيه، صليب نحمله، وأفق نتطلع إليه بشغف.
نظرة العالم للأديان بين التحديات والقدرة على الصمود
شهدَت نظرة العالم للأديان تغيرات جذرية في ظل تحديات كبيرة تواجهها، ويبقى السؤال مطروحًا: هل المسيحية قادرة على الصمود؟
كلمة "تحدي" تمثل المفتاح لفهم هذا السؤال. أحد أبرز التحديات الداخلية يتمثل في الدعوة إلى الاهتمام بالصحة والمجتمع من خلال معالجة الجوع والحرمان، وهو ما يظهر جليًا في الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متى: "كنت جائعًا... كنت عطشانًا... غريبًا... محبوسًا". هذه الاحتياجات الجسدية، رغم تلبيتها في المجتمعات الغربية، تفتح الباب أمام تحدٍ أكبر يتجاوز المادي إلى الغيبي، حيث لا يمكن للعلم الفيزيائي تفسيره.
الاختلاف بين الأديان يكمن في مقارباتها لفهم الميتافيزيقي. بعضها يعود إلى الماضي، وبعضها يستند إلى المؤسس، بينما يرتكز البعض الآخر على الموروث والتقاليد. حياة بوذا سيدهارتا غواتاما، على سبيل المثال، تمثل نموذجًا أسطوريًا أشبه بحياة جلجامش، بما تحمله من صراع ضد الفناء وسعي للكمال والتحدي. الثقافة الرافدينية تأثرت بملحمة جلجامش، التي استمرت حوالي 2500 عامًا، وكانت بمثابة "إنجيل" لسكان وادي الرافدين، وعبّرت عن حب التحدي في مواجهة المصير.
مع الاندماج الثقافي والهجرات والغزو الحضاري، يبقى التحدّي الأكبر هو تحقيق التوازن في حياة الإنسان. فكل مجتمع يسعى إلى إيجاد هذا التوازن، لكن مع ترك "هامش" من الفراغ، وهو مفهوم يثري الحياة بالحكمة والصمت.
ذات مرة، عندما كنت مسؤولاً عن تحرير مجلة "الفكر المسيحي"، صمم أحد الفنانين غلافًا ملونًا ترك فيه معينًا فارغًا. وعندما سُئل عن السبب، كانت الإجابة: "لأن هذا الفراغ يدعو إلى التساؤل، وهو هامش يجب أن يبقى في حياتنا. لا تأكل حتى الشبع، ولا تتكلم دون أن تترك مجالاً للآخرين، واحتفظ بفراغ لتمارس هواياتك". هذا الفراغ هو حكمة، وهو الصمت الذي يفتح الباب للتأمل.
نعيش في عصر يوفر فيه محرك البحث "غوغل" كل المعلومات، لكنه لا يمنحنا التفسير. هنا يكمن التحدي الحقيقي: التفسير. القدرة على ربط الأحداث ومنحها معنى هو ما يميز الإنسان. كما فعل إرنست همنغواي في روايته "الشيخ والبحر"، التي حصل بها على جائزة نوبل. لم يكن هناك شاهد على صراعه مع سمكة القرش، لكنه جلب هيكلها العظمي كدليل على انتصاره، انتصار لا يتطلب إثباتًا بقدر ما يكشف عن تغلبه على نفسه.
التحدي الأكبر إذًا ليس مجرد سرد الوقائع، بل منحها معنى يلهم ويثري الروح.
مشاركة العلمانيين في اختيار البطريرك الكلداني: بين التقليد والتحول
طرح سؤال حول مشاركة العلمانيين في قرار اختيار البطريرك الكلداني، بل وحصولهم على مقاعد في السينودس كما هو الحال في الكنيسة القبطية، يبدو سابقًا لأوانه في سياق الكنيسة الكلدانية. هذه الكنيسة، التي عانت من عدم الاستقرار على مدى القرون الخمسة الماضية، تواجه اليوم تحديات وجودية بسبب موجات الهجرة المستمرة لأبنائها. في ظل هذه الظروف، تبقى كل الاقتراحات مطروحة للنقاش.
إذا ما قارنا ذلك بالكنيسة اللاتينية، التي تمثل الغالبية الساحقة (98%) من الكنيسة الكاثوليكية، نجدها قد قطعت أشواطًا كبيرة في تطوير هياكلها التنظيمية. البابا فرنسيس، في السنوات الثلاث الأخيرة، أدخل مفهوم "السينودالية"، الذي يعبّر عن مشاركة العلمانيين، بل القاعدة الشعبية، في اتخاذ القرارات. هذه الفكرة تمثل امتدادًا لرؤية المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي مضى على انعقاده 60 عامًا، ورغم ذلك، فإننا في الكنائس الشرقية لم نستوعب جوهره أو نطبقه بالشكل المطلوب.
السينودالية ليست مجرد شعار؛ إنها دعوة إلى السير معًا كجسد واحد. الكنيسة الكاثوليكية، بأكثر من مليار ونصف من المؤمنين، مدعوة لأن تسير جماعيًا، متجاوزة الأحادية ومنفتحة على المشاركة الحقيقية. الكنيسة الكلدانية، رغم ما تواجهه من صعوبات، هي جزء من هذه المسيرة، لكنها تحتاج أولاً إلى مواجهة تساؤلات جوهرية عن الهوية والانتماء ودور العلمانيين في صياغة مستقبلها.
في سياق الهجرة، يحتفظ الكلدانيون في الشتات بهويتهم كجماعة مسيحية شرقية، لكن هذه الهوية تتعرض لإعادة تشكيل مستمرة بفعل التفاعل مع المجتمعات الجديدة. شخصيًا، لم أختبر الاستقرار في حياتي، إذ كانت تجربتي سلسلة من التنقلات، وهذا التنقل يعكس جوهر المسيحية نفسها، التي تأسست على "رحلة" مستمرة. الإنجيل نفسه يتحدث عن تعدد سفن الرسل الصيادين في بحيرة طبريا، في إشارة رمزية إلى رفض الأحادية والانفتاح على التعددية.
المسيح دعا إلى المسيرة المشتركة بين الآب والابن والروح القدس، وإلى تواصل الرسالة عبر الأجيال بالروح القدس. هنا، لا مجال للتلقين الصارم، بل للتجدد المستمر. الهوية الكلدانية ليست قيدًا جامدًا، بل ديناميكية حية يمكن أن تجد تكاملها مع الثقافات الجديدة. كالشجرة التي تنتج أكثر من نوع من الفاكهة، يمكن للكلدانيين في المهجر أن يثروا هويتهم من خلال التفاعل مع المجتمعات الأسترالية أو الأمريكية أو الكندية، دون فقدان جذورهم.
بعض الكلدانيين يركزون على اللغة، ولكن الهوية الكلدانية لا تتوقف عند اللغة. فالانتماء أعمق من ذلك. قد يصبح الكلدانيون في المستقبل أشبه بالإيطاليين أو اليونانيين الذين اندمجوا في مجتمعات جديدة مع الحفاظ على كاثوليكيتهم، رغم تغير هويتهم الثقافية. هل هذا تحول إيجابي أم سلبي؟ الإجابة ليست سهلة، وهي تتطلب تأملًا عميقًا في معنى الهوية والانتماء.
السؤال حول مشاركة العلمانيين في اختيار البطريرك ليس مجرد نقاش تنظيمي، بل هو استشراف للمستقبل، ودعوة لتوازن جديد بين الأصالة والتجديد، بين التقاليد والانفتاح على عوالم جديدة.
سيدنا، نحن حافظنا في بلدنا العراق على هويتنا الكلدانية ولغتنا لمدة ما يقارب الـ 2000 عام على الرغم من اننا نعيش كأقلية ووسط دين وقوميات مختلفة وواجهنا الكثير من الصعوبات والتحديات. وهل نستطيع تكرارها؟
هنا صعب تكرار نفس التجربة لأنك هنا غير مضطهد ولا تواجه إشكالات الاختلافات الدينية ولا تواجه تحديات الانجيل المحرف واثبات الوهية المسيح وغيرها الكثير...
هل يمكن لرجل الدين أن يتصرف كديكتاتور عندما يمتلك السلطة؟
هذا السؤال يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا، إذ يجسد الصراع الأبدي بين الجانب البشري وما يتجاوز البشري، بين نزعة الإنسان للهيمنة وبين دعوته إلى السمو الأخلاقي والروحي. في الكنيسة الكاثوليكية، هناك دائمًا توازن حساس بين هذين البعدين: البشري والمسيحي. البشري يعبر عن ميل الإنسان إلى المال، اللذة، والسلطة، وهي ذاتها التجارب التي واجهها المسيح بحسب الإنجيل...
يحكي الكاتب الإنجيلي عن المسيح كإنسان تعرض لإغراءات السلطة واللذة والمال. حين جُرِّب بتحويل الحجارة إلى خبز، كان ذلك دعوة لتلبية اللذة بسهولة؛ وحين جُرِّب بإلقاء نفسه من الهيكل، كان تعبيرا للسلطة؛ أما طلب السجود مقابل المُلك، فكان صورة للتواطؤ مع أخلاقيات منحرفة. في سؤالك ركزتَ على السلطة، لكن السلطة في حقيقتها لا تنفصل عن المال واللذة، إذ هي باب مفتوح لهما. الإنسان، منذ طفولته، يمارس شهوة السلطة، حتى على أبويه، وتستمر هذه النزعة بالنمو لتتشكل في صور مختلفة على مدى حياته.
فرويد، حين فكك شهوة السلطة، أرجعها إلى المهد؛ إلى تلك اللحظة التي يحاول فيها الطفل ببراءته أن يتحكم في محيطه. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن السلطة هي محور المشاكل الإنسانية الكبرى، سواء بين الرجل والمرأة، أو بين الحاكم والمحكوم. من يريد أن يقود، ومن عليه أن يطيع؟ هذا السؤال يكمن في قلب الصراعات. لكن المسيح أعطى جوابًا بسيطًا وعميقًا: "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان". إذا اجتمع الرجل والمرأة حول المسيح، وسألاه عن أسباب خلافاتهما، سيجدان أنهما عالقان في دوامة السلطة، لأن "الأنا" هي جوهر السلطة، وحين تتضخم الأنا تصبح السلطة دمارًا.
كل ديكتاتور يحمل في داخله "أنا" مريضة، يضع نفسه في مرتبة تعلو على الآخرين، بل يقترب من الألوهية. ولكن عندما يتواضع الإنسان ويقول: "لست أنا الله، بل نحن جميعًا في حاجة إليه"، تنكسر تلك الدائرة المفرغة، وتتلاشى نزعات التسلط.
على المستوى الشخصي، أتذكر حين كنت صغيرًا، أراد أبي أن أصبح مضمّدًا، لأن المهنة تضمن دخلًا جيدًا. لكنه لم يمارس سلطته الأبوية حين أخبرته أنني لست ملكًا له. لأنه كان مؤمنًا، منحني حرية أن أختار طريقي. وعندما أصبحت رجل دين، ذكّرته بموقفه فضحك وقال: "هكذا كنا نفهم الأمور آنذاك". لأنه أعطاني هامشًا من الحرية، استطعت أن أحقق ما كنت أصبو إليه. وهكذا، فإن المسيح قال: "من كان منكم كبيرًا فليكن خادمًا".
السلطة ليست شرًا في ذاتها، لكنها تصبح مدمرة عندما تتحد مع الأنا المتضخمة. وحده التواضع، والخروج من دائرة الذات، قادر على تحويل السلطة إلى خدمة، والدكتاتورية إلى شراكة، والإنسان إلى صورة حقيقية لمن أراد أن يكون "خادم الجميع".