كـتـاب ألموقع

الشريعة والسياسة والأزمة التاريخية// عادل نعمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

عادل نعمان

 

عرض صفحة الكاتب 

الشريعة والسياسة والأزمة التاريخية

عادل نعمان

 

الكثير من الأحكام التى نزل بها القرآن كانت انتخابًا وانتقاء لما هو قائم فى زمانه «الجاهلى»، وما استقر عليه الناس واختاروه حتى لو نزل إلى العامة من علية القوم، جذورها ضاربة وصلاتها ممتدة تاريخيًا ومستقرة مجتمعيًا، تسير مع الناس برضا أو بغير، المهم أنهم يتواءمون معها أحيانًا ويتصالحون معها على مضض أحايين أخرى، وكان للمركز المادى والوجاهة الاجتماعية دائمًا شأن آخر، والأهم أن تنفيذها قائم وسلطانها نافذ ويخشاها الناس ويهابونها، إلا ما كان منها خارجًا عن منهج الله وإرادته، فقد غيّره الله وبدله على قدر طاقة الناس على الاحتمال والرضا، وبالتدريج على قدر القبول والاستيعاب «كشرب الخمر مثلًا، والمواريث، ومنها ما كان الحد الأدنى للقبول، ومنها ما كان منصفًا قدر الإمكان فى زمانه» على أن ما وصل إليه الناس من أحكام وحدود وقواعد وقوانين تخيروها واصطفوها وغربلوها زمنًا بعد آخر، لتتوافق مع احتياجاتهم وأحوالهم وحوائجهم، وتناسب عصرهم غير غريبة عنهم أو عصية على التنفيذ، فلم تكن الشريعة على غير مراد الناس أو تخاصمت مع عصرهم، لكنها غالبًا متوافقة متلائمة.

 

ويظن البعض أن ما حدث بعد الرسالة انحراف عن منهج الله، إلا أنه لم يكن انحرافًا عن منهج البشر، فقد كانت الرسالة فى أيديهم وفق قراراتهم دون مدد من السماء، وكان قد جدّ فى الأمر الجديد من الوقائع والأحداث والآثام والمُلمات التى لم تكن قائمة عند نزول القرآن، واستوجب الأمر قرارًا ورأيًا فقهيًا «الفقه» يساير الأوضاع الجديدة، وقانونًا محليًا ودينى الصنع على قدر بساطة الناس وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية المحدودة، ولم يكن هذا القرار أو الرأى بعيدًا عن طموحات الناس ورغباتهم وأطماعهم الدنيوية، وهذا محرك ودافع ومحرض الأمس واليوم وغدًا، فإذا كانت الغزوات والاستيطان والاستعمار منهج حياة تمارسه الإمبراطوريات الملاصقة لحدود الدولة الإسلامية، فلا غضاضة أن تمارس الخلافة نفس المنهج وتتسابق فى ذات السباق وتستعير أساليب الحكم والإدارة، ومن كان يومًا يربط على بطنه أو يتلوى من قسوة الجوع يموت من التخمة وكثرة الشراب، ومن كان لا يجد صداقًا ولو خاتمًا من حديد للزواج يموت وفى ذمته وحجره آلاف الجوارى الحسان، ولم يكن بعيدًا عن الفقهاء أو عسيرًا عليهم أن يكون التأصيل الشرعى لهذه الأحكام والآراء متاحًا وسهل الحصول عليه، إذا كانت المرويات تحت أيديهم، والتراث صناعة البعض حتى لو كان المتن حادًا أو ناعم الملمس.

 

إلا أن الخطورة فى الأمر أن رجال الدين لم ينشغلوا بالتأصيل الفقهى لاحتياجات الناس وتسيير حياتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم أو اكتفوا بذلك، بل انشغلوا بالسياسة ورجال الحكم، وأصبحت هى الأصل الذى تدور حوله الأحكام، وحتى أضحت موائد السياسيين صناعة الفتاوى والتشريع، «وزاد وغطى» أن العمل السياسى والمخالفات والأطماع والتنازلات والمظالم السياسية كانت تخرج إلى العلن أولًا ثم يأتى دور الفقهاء والمشايخ فى التأصيل الفقهى لهذه المخالفات والمثالب، ويعللون ويشرعون لها ويفرضون لها واجبات دينية أولى بالاتباع مهما كانت بعيدة عن جوهر الدين أو القيم الإنسانية، أو متناقضة بين الفصائل أو الدول الإسلامية ذاتها إذا دبَّ بينها خلاف أو قتال، وما جاءنا تحت مظلة الإرهاب حديثًا أكبر دليل على هذا، كل قتلى الطرفين شهداء ينعمون بالحور العين ويتنعمون فى جنة عرضها السماوات والأرض، فى حين أن طرفًا بينهما ظالم وقاتل، ولا نعرفه.. وهى نفس فتاوى الماضى، فهؤلاء شهداء جيش على بن أبى طالب، وهناك على الطرف الآخر شهداء جيش معاوية، وكلهم فى الجنة خالدون، وبين المتقاتلين هنا وهناك قاتل ومقتول وظالم ومظلوم وآخر شهيد، ولا نعرفهم.. ولا نعلم حتى الآن من الظالم ومن الشهيد قديمًا وحديثًا، ولو كان للفقهاء تأصيل شرعى واحد صادق بعيدًا عن السياسة ربما كان الكل قاتلًا وظالمًا ومأجورًا دون شهيد واحد.

 

 

 

هذه المصالح والمنافع التى جمعت رجال الدين ورجال السياسة، ورغبة الطرفين فى استمرار هذه العلاقة وعدم فقدانها أو زوالها، كان من الطبيعى أن تخالف مصالح الشعوب والمحكومين، ويصبح الإصلاح والتجديد من المهام الصعبة التى تثقل كاهل المثقفين والتنويريين والثوريين أيضًا، بل وشق عليهم أيضًا المطاردات والاتهام بالكفر والإلحاد من قبل رجال الدين وغض الطرف عن هذه الاتهامات من قبل رجال الحكم والسياسة، مما يجعل ظهور المصلح والمرشد من خارج منظومة السياسة الرشيدة والسياسيين الشرفاء أمرًا مستحيلًا وشاقًا، وهو الحل الأمثل..

 

(الدولة المدنية هي الحل).