اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

سنواتُ السبعينات الحُلوة المُرٌّة: والذكرى 21 لرحيلِ الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي- ج2// فاضل البياتي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

فاضل البياتي

 

عرض صفحة الكاتب 

سنواتُ السبعينات الحُلوة المُرٌّة:

والذكرى 21 لرحيلِ الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي- ج2

فاضل صَبّار البياتي

الشاعر والفنان والكاتب

السويد 2020/6/28

 

 كانت حلقات اللقاءات والنقاشات في الليالي الصيفية بحدائق إتحاد الأدباء العراقيين أو في صالته الشتوية الداخلية، او في نادي التشكيليين وجمعية الموسيقين، أو في جلسات حوارات خاصة، هي بمثابة مَرَايا عاكسة لِما كان يجري تحت شمس النهار، خاصة فيما يهم الحركة الثقافية والإبداعية، ليس في بغداد والعراق فقط وإنما في الوطن العربي والعالم كله.

 

أجل كانت أياماً ليست ككلِ الأيام.. عاشت وتمتعت فيها حوارتنا الثقافية بروح مكابرة وألقٍ إنسانيٍ بهيج..  ولم تكن تخلو أحياناً من رفضٍ حبيس يطفو على سطح النقاشات.  كان جيلنا في السبعينيات يختزن في آنٍ واحد قوة الرفض وقوة الموافقة، ولكن لم نكن أتباع أوبقايا وإنما كنا الكل، كنا فقراء ونحن في منتهى الغنى والثراء بإعتدادنا بأنفسنا وبأفكارنا وتطلعاتنا ومشاريعنا.  شباب عراقي سبعيني مبدع يؤمن بالحياة، يوم لم تكن هنالك حروب أو حصار أو هجرات جماعية ولاإحتلالات ولا فايروس كورونا..

في آخر جلسات النقاش المسائية الصيفية في حدائق إتحاد الأدباء نتوادع بمحبة، توزعنا أحياناً وعلى مناطق قريبة سيارة الجيب المكشوفة العتيقة التي يمتلكها ويقودها رائد التصوير الفوتوغرافي المصور الفنان "جاسم الزبيدي"  نتكدس في سيارة الجيب ومازال أحدنا متشبتاُ برأيه ويواصل حوار ما.

 

ألأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب

قبل أن أقول إنه شاعر كبير، أقول عنهُ وأوصفهُ بألأخ الكبير أو ألأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب كان متواضعاً مع الأجيال المبدعة الجديدة ومسانداً لها، حتى أنه يوما أصدر وعلى نفقته أحد دواوين الشعراء الشباب، بَيدَ أنه كان حاداً مع أغلب شعراء جيله.

 

شاعرٌ مثل عبد الوهاب البياتي لن يكون أبداً في تصالحٍ مع الوظيفة، فالسأم هو الرابط الدائم بينهما، لذلك فلم تستقر نفسه معها لهذا السبب أو ذاك، فكان آخر مطاف يجمعه مع الوظيفة حينما شغل في سنة 1982 منصب مدير المركز الثقافي العراقي في مدريد، لكنه في عام1991 ترك هذه الوظيفة وأستقال منها وأختار أن ينتقل ويقيم في العاصمة الأردنية عمان، ليرحل مع ماتبقى له من العمر برفقة مشاريعه الشعرية كشاعر وإنسان، مثل نهر دائم الجريان يمتدُ مع الزمن ولايلتفت إلى الوراء، وهو القائل في إحدى قصائده:

ألنهرُ للمنبعِ لايعود

ألنهرُ في غربتهِ

يكتسحُ السُدود"

 

ومن مثل الوظيفة الروتينية التقليدية تمسك بتلابيب المبدع! كي لايمضي قُدماً إلى أقصى مايتمنى من إنجازات إبداعية في رحيلٍ دون سدود أو حدود...من؟

 

لذلك فالبياتي وغيره من الشعراء العراقيين الكبار في تلك المرحلة، عاشوا حياتهم مثلما أرادوها هم لا مثلما كان يُراد لها أن تُبرمج وتعاش.

 

منذ عقد السبعينات، أنا الذي أردتُ وأخترتُ إن أكون مستقلاً، فكان لي ومازال علاقات طيبة مع أخوة وأصدقاء رائعون من كل الأحزاب، وكان ومازال حبي لبلدي ولعملي الإبداعي هو إنتمائي.

 

ومنذ السبعينات انا الذي خدمتُ في الجيش كثيراً.. كثيرا.. مع أني لستُ بعسكريٍ على الأطلاق.. وليس لي مع هذا الجانب أية صلة.. أكثر من إثني عشر عاماً تحنّطت من حياتي وأُتلفت في الجيش، وقابلتُ الموث مرات..

 

في الشهر الرابع من عام 1991 تم تسريحي من الجيش وعدتُ لعملي في ألإذاعة، والتي رغم ظروفي القاسية في الجيش كنت أعود وأواصل عملي فيها من خلال كتابة المسلسلات أو إخراجها عندما أمنح إجازات من وحداتي العسكرية. تسلمتُ رئاسة قسم الثمثيليات في إذاعة بغداد بعد تسريحي بأشهر، ولكني كنت قد قررت الهجرة وإحالة نفسي للتقاعد. وخلال فترة إنتظاري لذلك بين عامي 1991 و 1992 وريثما أحصل على الموافقة على تقاعدي ومن ثم إكمال كل الأوراق فيما يتعلق بهذا الشأن في دائرة التقاعد ببغداد، قمت خلال هذين العامين بزيارات  للعاصمة الأردنية عمان من أجل مشروع إذاعي مع مجموعة من الفنانين والزملاء في الإذاعة الأردنية. وكنتُ التقي بالأستاذ عبد الوهاب البياتي في كل مرة أعود فيها من بغداد إلى عمان..

 

في العاصمةٍ عمان حيث كان يقيم مع السيدة زوجته وإبنته الرسامة أسماء، إختار "أبوعلي" ركناً أثيراً له في مقى ال "هورس شوز" في حي الشميساني. ولم يأت إختياره لهذا المقهى لشيء مميز فيه، وإنما لقربهِ من مقرِ مؤسسة "شومان" الثقافية التي كانت تشهدُ على مدارِ العام نشاطات فنية وفكرية، حيث كان يزورها نخبٌ من المهتمين بذلك.

 

في أحد الأيام من شتاء 1991 كنتُ ومجموعة من الزملاء المثقفين ومعنا الشاعر البياتي قد غادرنا قاعة "الشومان" التي كان يديرها الفنان شاكر حسن آل سعيد، وإستقر بنا الحال في مقهى "الهورس شوز" حيث كنا قد حضرنا ندوة عن الفنان الرسام العراقي الرائد فائق حسن. شاركتً فيها بطرح بعض الثساؤلات عن هذا الفنان الأصيل المتميّز.

 

كانت المجموعة تضم الشاعر والصحفي والقاص الأردني أحمد المصلح، والقاص محمود الريماوي، وبعض النقاد والفنانين العراقين، كالفنان التشكيلي علي رضا وعلي شلاه والناقد محسن أطيمش الذي كان يومها مبتهجاً بصدور ديوانه  «محمد عفيفي مطر.. الأناشيد" وكان يستعد للرحيل إلى اليمن للعمل هناك.

 

وفي المقهى إستذكر البياتي الفنان فائق حسن الذي يعرفه عن قرب، وتحدث عنه بإعتزاز ومحبة؛ حيث تطرق بحديثه عن تاثيرات رسومه على ماكان يرسمه طلابه، وكان الفنان علي رضا الحاضر في الجلسة واحداً من طلابه. لقد أثيرت قضية في منتهى الأهمية، إنها "التأثير والتأثر" التي قال كل منا رأيهُ فيها.. ولكن خلال ماكان يطرح كنتُ أفكر وأتأمل بالتأثير والتأثر بين أعمال البياتي الشعرية وشعراء آخرون عرفهم البياتي عن قرب، إذ كما أرى تأثروا بتجربة البياتي الشعرية، أمثال الشاعر التركي ناظم حكمت والإسباني رافائيل ألبرتي. في تلك الجلسة أهداني البياتي مجموعته الشعرية "بستان عائشة" التي كانت قد صدرت عام 1989، وكتب لي عليها بخط يده الأنيق سطور إهداءٍ لطيفة، أخذتُ "بستان عائشة" معي عندما عدتُ إلى بغداد، وبقيت "بستان عائشة" هناك في العراق.

 

في صيفِ عام 1992 وفي عمان تعرض البياتي لوعكةٍ صحيةٍ نجمت عنها ألآم في إحدى ساقيه، ولم يكن يتمكن من السير إلا بعصا لازمتهُ أشهراً، وحينما تلاشى الوجع من ساقه وإستطاع أن يستغني تدريجياً عن عصاه التي رافقته أشهراً، إقترح عليه الشاعر أحمد المصلح وبطريقته الفكهة أن يهديه تلك العصا حينما يفرغ حاجته منها تماما، إلا أن البياتي إجابه وبسرعة...

ـ لا.. إنها ليست للإهداء، وستبقى معي ذكرى فلقد ساعدتني في وقت الشدة ولابد أن أكون أميناً على رفقتها لي.

 

علق حينها القاص محمود الريماوي وبلطف..

ـتكون أحياناً خيالي رومانتيكي النزعة يا أبا علي.

ـ لا، إنه الوفاء وليس الخيال ياصديقي.

هكذا أجابهُ البياتي، وبلطفٍ كذلك

 

في نهايات شهر تشرين الأول/أكتوبر 1992 وقبل أن أسافر بيومٍ واحدٍ راحلٌ ومهاجرٌ إلى ليبيا، جئتُ في المساء إلى المقهى لإودع البياتي والأصدقاء الذين كنت التقيهم تلك الأيام. كانت حينها تلازمني مشاعر قوية مختلطة، الحزن لهجرتي من العراق والتفائل بحياةٍ وعملٍ في ليبيا.. لقد كنتُ متعبا ذلك المساء. حينما رأني البياتي بادر هو بالتحية.

ـ أهلاً ياولدي يازين الشباب..

أخذت مكاني في الجلسة وأنا أقول له..

ـ سأسافر غداً صباحاً وأتيتُ لأودعك.. وأودعكم، ربما لن أراكُم إلا بعد سنوات..

أجابني لائماً..

ـ ولكن أنتبه لتذكرة الطائرة.. فقد تسقط من جيب قميصك وأنت تضعها فيه بهذه الطريقة، فلن تسافر غداً.

ـ أريدُ أن أراها دائماً أمام ناظري يا أبا علي..

وجه كلامه لي وللحاضرين.

ـ لقد أخذ مكافأة تقاعده وباع مكتبته ليشتري هذه التذكرة ونفقات رحلته، لقد جمع المبلغ بدمع العين وماجرى.

نهضتً وحييت البياتي والأصدقاء مودعاً، وقبل أن أبتعد ناداني قائلاً..

ـ حينما تصل ليبيا أكتب لي رسالة.

 

كانت رحلةٌ مُضنيةٌ ومُرهقة بحق، حيث كان الحصار على أشده علينا نحن العراقيين بعد حرب الخليج، وكان من الصعب وصول العراقيين إلى ليبيا في ذلك العام، فلا طيران مباشر الى ليبيا ولا تونس ولا مصر المجاورتان لليبيا كانتا تسمحان بدخول العراقيين أراضيهما، لذلك كانت رحلتي بالطائرة الى السودان، ثم من العاصمة الخرطوم وبعد أيام رحلة شاقة بحافلة متعبة الى مدينة الفاشر الواقعة شرق السودان ومن بعد ذلك واجهتُ غمار أقسى رحلة عبور لجزء من الصحراء الكبرى مع مجموعة مسافرين عرب، حيث إستغرقت  الرحلة أياما بلياليها وبسيارة نقل مكشوفة من مدينة الفاشر نحو الشمال وصولا إلحدود الليبية، وما أن عرف موظفو الحدود الليبية أنني عراقي حتى بادروا بالترحاب الطيب ـ أهلاً بكَ في بلدك.

عبارةٌ رائعةٌ جميلة لن أنساها قالها لي حينها أحد موظفي الحدود الليبيين.

ومن الحدود تواصلت الرحلة الصعبة بسيارة النقل المكشوفة وعبر الصحراء وصولاً إلى مدينة الكفرة الليبية، وأخيراً وبعد أيام ومن هذه المدينة التي في جنوب ليبيا سافرت بحفلة برحلة طويلة إلى العاصمة طرابلس الجميلة بأهلها الطيبين والتي عشتُ وعملتُ فيها بالتدريس والصحافة وبشكل متواصل حتى عام 1998.

 

وقف الشعر ببابي حارسا

عام 1999 عملتُ وعشتُ في القاهرة وفي شباط/فبراير من ذلك العام حَل البياتي ضيفاُ عزيزاُ وبدعوة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، قابلته بعد سبع سنوات من آخر لقاء معه في عمان عام 1992 كنت أراه سعيداً وهو يلتقي بمعارفه وأصدقائه من مصريين أو جنسيات أخرى.. يومها قرأتُ له بعضاً من قصائدي فأستحسن ماسمعه مني وأثنى على قصائدي، لم يكن أحد يعلم أن زيارته تلك للقاهرة هي زيارة وداع أخيرة، فبعد ستة أشهر توفي في سوريا التي كانت مكان إقامته، ودفن وحسب وصيته قريباً من ضريح الشيخ محي الدين بن عربي الذي في دمشق. وعودة إلى مصر الحبيبة التي وبهذا الصدد أروي حكاية تصف مدى قوة وتأثير الشعر والشاعرعند الناس، فحينما عاش البياتي وأسرته عدة سنوات في القاهرة، منذ عم 1964إلى عام 1970 أقدم مجهولون على إختطاف إبنته أسماء، وهم لايعرفون آن هذه الصَبية هي إبنة البياتي، فأصيب الشاعر بنكسةٍ وشحنةٍ عاليةٍ من الحزن، ولكن بعد أن علمَ الخاطفون بعد إيامٍ قليلة أن أسماء هي إبنة الشاعر عبد الوهاب البياتي، أطلقوا سراحها فوراُ.

 

هكذا إذن.. لقد دافع الشعر عن أسماء، مثلما أنقذ الشعر أباها زمناً في عدةِ مواقفٍ صعبة، وهو القائل في أحدى قصائده التي أهداها إلى إبنته نادية التي كانت قد توفيت في أمريكا.

"وقف الشعر ببابي

حارسا يدفع عني القتلة

فلماذا اخطأ الموت

وأودى بك

يا نجمة صبح الغابة المحترقة"

 

ذلك هو المتواضع النبيل والعراقي لحَدِ العظم والنخاع، شاعرٌ أَبِيّ عانى وقاوم أكثر من نصفِ قرن، يسأل عن بغداد التي ولد وعاش فيها، يسأل عن عائشة وبستان عائشة وقتلة عائشة، يرثيها ويغازلها، يهجرها ويعود إليها، حارَت معه وحار معها..

 

إنني أسألك اليوم وأنتَ هناك في الغياب.. هل سننتظر أكثر لمجيء المستقبل الجميل السعيد لكلِ أهلنا الرائعين في العراق وللوطن! أم أننا سنبقى في إنتظار "الذي يأتي ولايأتي" ؟

 

هل تَودُّ سماع أخبار عائشة التي نحن جميعاُ مسكونون بحبها وبضوئها؟

أعلمُ أنكَ ستجيبني الآن وتقول وأنتَ تبتسم..

ـ عائشة... مازالت عائشة. إنها هناك مازالت في العراق.

ثم تودعنا مرةً أخرى وتغيب ثانية يا أبا علي.

 

الشاعر والفنان والكاتب

فاضل صَبّار البياتي

السويد 2020/6/28

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.