اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

الاقتصاد الروسي يقاوم العقوبات الغربية.. لكن إلى متى؟// د. حميد الكفائي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. حميد الكفائي

 

عرض صفحة الكاتب 

الاقتصاد الروسي يقاوم العقوبات الغربية.. لكن إلى متى؟

د. حميد الكفائي

 

انهيار الاقتصاد الروسي، الذي عملت من أجله الدول الغربية، لم يتحقق، لكن الاقتصاد برمته صار يدور حول ماكِنة الحرب، وحتى السجناء جُندوا للعمل في مصانع الأسلحة، بينما تكبدت روسيا، ومازالت، أضرارا لن تستطيع تجاوزها في المستقبل المنظور.

 

انكمش الاقتصاد في العام الماضي، ولكن بنسبة 3 بالمئة فقط، وهي أدنى كثيرا مما توقعه المعهد الدولي للتمويل (IIF)، الذي تنبأ بانكماش قدره 15 بالمئة. البطالة بقيت منخفضة، رغم أن أجور العمال انخفضت كثيرا منذ بدء الحرب. سوق العقارات أصيب بالركود، ولكن لا توجد إشارة على حصول انهيار قريب حسب المصادر الموثوقة.

 

صندوق النقد الدولي يتنبأ بنمو اقتصادي روسي لعام 2023 قدره 0.3 بالمئة، وهذا الأداء المتدني، إن تحقق، فسيكون أفضل من توقعات النمو للاقتصاد البريطاني، الذي سينكمش بنسبة 0.6 بالمئة. يجب ألا ننسى أن المقارنة هي بعام 2022 الذي انكمش فيه الاقتصاد.

 

المشكلة أن الأرقام الحقيقية صارت سرا من أسرار الدولة، وأن الاحصائيات الاقتصادية الروسية المعلنة معدلة، وما يظهر للعلن منها هو ما تسمح به الحكومة.

 

كان مخططا للموازنة الروسية لعام 2022 أن تكون بحجم 23.7 ترليون روبل (320 مليار دولار)، لكن مراقبين قدروا الإنفاق الحقيقي بـ31 ترليون روبل (419 مليار دولار)! فأين ذهبت الأموال الإضافية؟ تقدِّر ناتاليا زوباريفيتش، الخبيرة الاقتصادية في جامعة موسكو الرسمية، وفق ما ذكرته مجلة "إيكونوميست"، أن 2.5 ترليون ذهبت للإعانات الحكومية، بينما أُنفقت الخمسة المتبقية على التسلح.

 

صناعة السيارات الروسية تضررت كثيرا بسبب العقوبات الغربية التي شملت حظر تصدير أشباه الموصلات، لكن انتاج الحديد تقلص بنسبة 7 بالمئة فقط، أي بأقل من نصف ما كان متوقعا، ما يعني أن باقي الإنتاج ذهب إلى الصناعات العسكرية.

 

إيرادات روسيا من الطاقة في الأشهر الخمسة الأولى لعام 2022 تضاعفت مرتين ونصف، نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، كنتيجة للحرب. لكن انخفاض الأسعار لاحقا، وحظر التصدير إلى أوروبا، وفرض سقف لسعر النفط، قد قلص تدفق الأموال على روسيا. بعض الإجراءات العقابية الغربية لم تكن مؤثرة، السقف السعري على المنتجات النفطية مثالا. والسبب أن الدول التي تستورد الطاقة الروسية، مثل الهند والصين وتركيا، لديها مصاف خاصة بها، والأجدى لها أن تستورد النفط الخام، بدلا من المنتجات المصنعة.

 

من المرجح أن يستمر هذا التدني في الإيرادات مع استمرار العقوبات وإيجاد البلدان الأوروبية بدائل للطاقة الروسية، الأمر الذي سيقود إلى مزيد من الانخفاض في أسعار الطاقة. القيادة الروسية تسعى للتعويض عن نقص الإيرادات عبر زيادة تصدير النفط الخام إلى الهند والصين وتركيا، بأسعار مخفضة.

 

الشركات الغربية أغلقت أعمالها في روسيا وكانت استثماراتها تتجاوز 350 مليار دولار، وقد أجبرتها الحكومة الروسية على استحصال تراخيص رسمية للإغلاق، وبيع ممتلكاتها وأصولها بالسعر الذي تقرره الحكومة، وهو يعادل نصف قيمتها الفعلية، وقد رفدت هذه الأموال آلة الحرب، على الأقل مؤقتا.

 

مفعول العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي كان مؤثرا، لكنه لم يكن قاصما، لأن دولا مثل الهند والصين وكازاخستان وتركيا، العضو في حلف الناتو، تستورد المواد المحظورة على روسيا، مثل أشباه الموصلات، وتبيعها لها مقابل أرباح، وفق مصادر عديدة. وحصيلة هذه العملية أن دولا أخرى تستفيد ماديا، لكن روسيا تحصل على ما تريده من مواد ضرورية للاقتصاد الحربي، وإن كانت بأسعار أعلى.

 

ولأن روسيا تمتلك موارد طبيعية هائلة، فسوف تبقى تبيع النفط والغاز، وأن الدول المذكورة ستبقى تشتري الطاقة منها بأسعار مخفضة، أو تساعدها على بيعها في الأسواق العالمية، مقابل مشاركتها في الأرباح. الموازنة الروسية لعام 2023 تفترض سعر النفط 70 دولارا للبرميل، لكن سعر النفط الروسي (يورال)، انخفض دون 50 دولارا، ما يعني أن عجزا كبيرا سيحصل في الموازنة. وإن كان ارتفاع أسعار الطاقة لبضعة أشهر في العام الماضي قد مكَّن روسيا من الإنفاق اللامحدود على الحرب، فإن هذا لن يتكرر هذا العام.

 

تجاوزت واردات روسيا بالدولار لشهر سبتمبر الماضي مثيلاتها لعام 2019، وهذا ما مكَّن روسيا من تفادي كارثة اقتصادية. كثيرون في المواقع القيادية الإدارية الروسية ليسوا موالين للنظام، بل متهمون بمولاة الغرب، لأنهم يعارضون الحرب والتوجه العسكري للنظام، وهناك من يرغب في إزاحتهم من مواقعهم، وكان هذا سيحصل لو لم يكن البلد بحاجة ماسة لخبراتهم.

 

الرئيس بوتين أعلن أن في ديسمبر أن الموارد المتوفرة للقوات المسلحة "لا حدود لها". وهذا سيعني دون شك أن الإنفاق على المرافق والخدمات الأخرى، كالتعليم والصحة والإعمار والتطوير والأبحاث العلمية، سوف يتقلص، وأن الدولة ستلجأ إلى المدخرات السيادية، التي تتجاوز 10 تريليونات روبل (حوالي 140 مليار دولار) حسب مجلة "إيكونوميست". فعندما تكافح روسيا "من أجل الوجود ضد الغرب المتغطرس"، حسب الدعاية الرسمية، فإن الغالي والنفيس سوف يُبذلان من أجل صد "الغطرسة" الغربية!

 

طبعا لا أحد في روسيا يستطيع أن يسأل الرئيس بوتن عن ضرورة غزو دولة مسالمة مثل أوكرانيا، والتسبب بكل هذه الصعوبات والكوارث، وهل حقا بإمكان أوكرانيا أن تهدد روسيا، وهي دولة متوسطة الحجم وقريبة ثقافيا وجغرافيا لروسيا، بل كانت حليفة لها، وقد تخلت عن أسلحتها النووية طوعا عام 1994 في اتفاقية بودابست، مقابل حصولها على ضمانات باحترام استقلالها وسيادتها، تلك الضمانات التي قدمتها لها روسيا والولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا، وأن الدولة الوحيدة التي أخلت بالتزامها تجاه أوكرانيا حسب اتفاقية بودابست، هي روسيا، أما الدول الأخرى فملتزمة بتقديم الدعم المطلوب لها كي تحافظ على وجودها واستقلالها.

 

العجز في الموازنة الروسية، استنادا إلى جريدة الفايننشال تايمز، بلغ 1.7 ترليون روبل (23 مليار دولار) الشهر الماضي، بسبب العقوبات الغربية. إيرادات روسيا من النفط والغاز تقلصت بنسبة 46 بالمئة لتصل إلى 6 مليار دولار حسب وزارة المالية الروسية، التي أنحت باللائمة على انخفاض سعر النفط الروسي، بينما تنامى الإنفاق بنسبة 59 بالمئة، ليصل إلى 43 مليار دولار، ويُتَوقَّع له أن يصل إلى 48 مليار دولار هذا العام.

 

كبيرة الاقتصاديين في بنك (BCS Global Markets) ناتاليا لافروفا، تقول إنها المرة الأولى في التأريخ الحديث التي ترفع فيها روسيا الإنفاق في وقت تتدنى فيه الإيرادات! لقد دفع الشُح المالي روسيا إلى بيع ما قيمته 38.5 مليار روبل من العملة الصينية (رنمينبي) والذهب، من صندوق الادخار الوطني، وتخطط لإصدار سندات محلية بقيمة 800 مليار روبل بهدف توفير الأموال المطلوبة للحرب.

 

العقوبات الغربية كانت حادة وسريعة وقد بدأت بتجميد الأموال الروسية، سواء الرسمية التابعة للدولة، أو الخاصة التابعة لرجال الأعمال الروس (الأوليغارك). بدأت العقوبات بتجميد أصول البنك المركزي الروسي البالغة 300 مليار دولار. تلا ذلك عزل روسيا عن نظام سويفت العالمي وإيقاف تدفق الاستثمارات الغربية إليها، وإيقاف تصدير التقنيات المتطورة والأجهزة الالكترونية وأجزائها وأشباه الموصلات. كما توقفت الرحلات الجوية والسفن البحرية وخدمات الصيانة والتأمين، وتبعها إيقاف استيراد الطاقة الروسية ثم وضع سقف على سعر النفط الخام والمنتجات النفطية، الأمر الذي دفع روسيا إلى التصدير بسعر مخفض عبر دول أخرى.

 

يقول الدكتور نيكولاس مولدر، الأستاذ في جامعة كورنل الأمريكية، ومؤلف كتاب (السلاح الاقتصادي: العقوبات سلاحا في الحرب الحديثة)، إن الأضرار الاقتصادية التي يتكبدها الاقتصاد الروسي لن تتوقف، بل سوف تتزايد، فنقص التكنولوجيا والاستثمارات والمهارات سوف يعيق تطور البلد، كما أن اعتماد قطاع النفط والغاز على الخبرات الغربية، سيعني صعوبة الإبقاء على المستويات الحالية من الإنتاج، ناهيك عن التوسع. أما قطاع الطيران فإن استمراره يعتمد حاليا على تفكيك الطائرات الصالحة من أجل استخدام أجزائها كقطع غيار، لكن هناك حدودا لمثل هذه الإجراءات الترقيعية.

 

ويضيف مولدر أن الغرب برهن على أنه يمتلك الأدوات اللازمة لإعاقة النمو في الاقتصادات المتوسطة-الحجم، المعتمدة على الواردات. مع ذلك، يرى أن العقوبات الغربية فشلت، حتى الآن، في إصابة الاقتصاد الروسي بالشلل، أو خلق مشاكل غير قابلة للحل، يمكن أن تقود إلى الانهيار. صحيح أن العلاقات التجارية المهمة مع الدول الغربية قد انقطعت كليا، لكن روسيا استطاعت أن تطور علاقاتها مع دول آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.

 

هل تعوض هذه العلاقات التجارية الأخيرة عن العلاقة مع الغرب، الذي تعتمد عليه روسيا في تطوير صناعاتها الثقيلة وانتاج الطاقة والحصول على الاستثمارات التي تساهم في تطوير الاقتصاد الروسي؟ بالتأكيد لا.

 

روسيا مازالت تعتمد على قطع الغيار وأشباه الموصلات الغربية، التي تحصل عليها عبر وسطاء، لكن ما تحصل عليه يزداد شحا وغلاء وصعوبة بمرور الزمن، خصوصا مع اشتداد العقوبات، إضافة إلى استغلال دول أخرى الأزمة للتربح، بعد أن كانت لها اليد العليا في التعامل مع الغرب. دورس التأريخ تشير إلى أن من الصعب على أي بلد أن يتطور إن كان محاصرا وخاضعا لعقوبات دولية، وأقصى ما يمكنه فعله هو البقاء حيا في غرفة الإنعاش. العراق في عهد صدام حسين، وإيران في عهد الولي الفقيه، مثالين صارخين في الفشل الاقتصادي والسياسي.

 

ويرى مولدر أن التدمير الأخطر، الذي سيشل روسيا هو هجرة آلاف العلماء والخبراء والمتخصصين وأصحاب الرأي والأساتذة والمهنيين والمهندسين الروس إلى الخارج، ومعظمهم يعيشون الآن في إسطنبول ويرافان وطشقند، ومن المرجح أن معظمهم لن يعود إلى روسيا، بل سوف تستقطبهم الدول الغربية وتوظفهم في مؤسساتها.

 

لقد برهنت الحرب الروسية على أوكرانيا بأنها ليست أقل من كارثة حلت بروسيا، وأن لا مخرج منها سوى بالتراجع والانسحاب إلى الحدود الدولية، وهذا مستبعد في الظروف الحالية، مازالت روسيا قادرة على مواصلة الحرب، وهو بالتأكيد لن يحصل بوجود الرئيس بوتن في قمة السلطة.

 

وحتى لو جنحت روسيا إلى المفاوضات، وانسحبت من أوكرانيا، فإن من المستبعد أن تتقبلها الدول الغربية دون إجراء تغييرات جذرية في نظام الحكم، بحيث يقضي على النزعة القومية التوسعية، التي تتعكز على التأريخ، والموارد الطبيعية الهائلة، والسلاح النووي، وعضوية روسيا في مجلس الأمن الدولي.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.