كـتـاب ألموقع

ما سر تحول المادة الصماء الصامتة الى طاقة إبداعية صاخبة // د. هاشم عبود الموسوي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

ما سر تحول المادة الصماء الصامتة الى طاقة إبداعية صاخبة

 (موضوع في التراث)

من كتاباتي:(العمارة للجميع)

 د. هاشم عبود الموسوي

 

      توجد في مختلف بلدان العالم، أمثلة متنوعة من الأبنية التاريخية والتراثية، نسميها أحيانا ب (المتاحف المعمارية المفتوحة) ، ويقطع الزائرون ليصلوا إليها آلاف الكيلومترات لكي يروها ويسيروا فيها، ويمشوا في رحابها. وهم يدرون بأن الحاجة الإستعمالية لها قد أنتهت منذ زمن بعيد، يأتون إليها ليشاهدوها وتمتعوا بها، حتى وإن تداعت وتهدمت بعض أركانها، وأحيانا تكون قد تحولت جزئيا الى أطلال .. إذا لماذا نسافر آلاف الأميال، وأحيانا عدة مرات في فترة عمرنا، عندما تتوفر الفرص لنزور شوارع مونتريال ومانهاتن وهونك كونك وصنعاء وأحياء إسطنبول وتونس والمغرب والقاهرة وغيرها من المدن التاريخية العالمية، نتجول في أحيائها الشعبية أو مبانيها التاريخية ومتاحفها المعمارية المفتوحة ولعدة مرات متتابعة دون كلل أو ملل.

     ماذا تثير في أنفسنا أطلال مدينة بابل أو معبد الكرنك ومديتة البتراء قي الأردن أو أحد شوارع مدينة صنعاء القديمة أو خان الخليلي في القاهرة وقوس النصر في باريس، أو أحد شوارع مدينة جدة القديمة؟

       وعندما نزور لندن، نحرص إثناء مرورنا في نهر التايمز في لندن على رؤية كاتدرائية سان بول، ودار البرلمان، وبرج بك بن، أو سيرا على الأقدام من حدائق الريجنت الى حدائق سان جيمس، وأنا شخصيا كلما كنت أزور بغداد إثناء إقامتي خارج العراق، كان يدفعني شوق غريب وشعور بالحاجة الملحة الى الذهاب الى السراي والمرور بشارع المتنبي والتجول في الأزقة القديمة للأعظمية والكاظمية.

    إذا ما السر في كل ذلك؟ لماذا نشعر بالإعجاب والإنبهار الفني أمام أهرامات الجيزة أو كاتدرائية نوتردام، بالرغم مما قلناه، بأن الوظيفة الإنتفاعية لهذه الأعمال قد زالت وأنقضى زمن الحاجة اليها والى المعتقدات الدينية والتاريخية التي كانت وراء تشييدها، رغم كل ذلك فإنها لا زالت تثير لدى المشاهد متعة فنية، من خلال تجارب سابقة عاشتها الحضارات الإنسانية، ورسخت في العقل الباطن الجماعي.. لا يفسر كل ذلك سوى أن الشعور بالإبداع الفني لدى الإنسان متأصل في طبيعته، وهو مَلَكَه فطرية متوارثة، بعيدة كل البعد عن أي غرض إستعمالي, وبالطبع فإن هذه المَلكَه تتفاوت مع إختلاف الأعمار من فرد لآخر، بإختلاف الخلفية الثقافية والتجارب التي يمر بها الإنسان. وهذا ما يفسر ظاهرة إختلاف الحكم لدى الأفراد على العمل الفني، إذ لا يعدو إلا أن يكون إختلافا في الأذواق والثقافة والطباع والذكريات.

 ونحن على  كل حال إن نختلف من فرد لآخر في حكمنا على رافد الجمال بإختلاف الخلفيات الثقافية والترسبات في العقل الباطن، فإننا نتفق في أغلب الأحوال على رافد الإبهار الذي نتحسسه في إبداعات المهندس التركي سنان، وفي التصميم المعماري لكنيسة سان بيتر بروما أو كنيسة سان مارك  وقصر الدوج في فينيسيا وكنيسة سان بول في لندن.

    والإبهار الذي نتحدث عنه يتحقق في العمارة مثلما يتحقق في الموسيقى، فكما تمتاز موسيقى فاكنر و بيتهوفن بالإبهار السمعي، تمتاز العمارة بالإبهار البصري، بالإضافة الى أنواع أخرى من الإبهار، فقد يلجأ المصور أحيانا الى الإبهار الحجمي الموضوعي، كما فعل مايكل إنجلو في سقف كنيسة سيستين، وليوناردو دافينشي في لوحة العشاء الأخير، أو في عمل مسرحي أوبرالي كمشهد النصر في أوبرا عايدة، أو في الفناء الهرمي المسقوف لفندق شيراتون في الدوحة، ذي الممرات الأفقية المتتابعة والخطوط العمودية الديناميكية للمصاعد البانورامية .

    والطبيعة الأنسانية تتفق على الجمال كأحد متطلبلتها، وفي كل الأمثلة التاريخية والتراثية التي ذكرناها فقد حاول المعماري أن يضيف من خياله الى الجمال رافد الإبهار وإبتكارات جديدة. والمعماري عندما حقق هذه فإنما حاول الوصول بالمتلقي الى هدف محدد. ألا وهو الهدف الإبهاري .

     وعندما نجح فإنه رقى بالإنسان الى منزلة السمو الشخصي أو العقائدي وإحترام النفس الإنسانية . وهنا يجب أن نفرق بين الجمال و الإبهار . فالجمال يمثل هدفا في حد ذاته ، أما الإبهار فلا بد له من هدف يعضده ويستند إليه ، وهكذا يحاول المعماري أو المتلقي البحث عن هذا الهدف الذي قد يكون إنسانيا إجتماعيا أو فرديا ذاتيا أو وطنيا.

    وفي الواقع غالبا ماكان الإبهار محاولة للإقتراب من الإعجاز الألهي ولكن أيا كان المستوى الذي قد يصل أليه المعماري في براعته، فإنه لن يرقى أبدا الى مثل هذا الإعجاز ، ولكنها مع ذلك محاولات هدفت الى تحقيق طموحات الإنسان .

     رغم أن الإبداع الفكري قد تغير مع طبيعة كل برنامج وموقع وظروفه البيئية و الإجتماعية الخاصة وحتى اسلوب الإبداع الذي أدى إلى إنبثاق الأفكار التي خلقت المباني و المراكز التاريخية و التراثية بشخصيتها وصورها الشكلية الخاصة ، وجعلت منها تجربة معبرة ، عن فكر مستقر ومستمر ومتوافق . وكانت النتيجة النهائية لمراحل الإبداع الفني والفكري و تأثيرها على المشاهد لتثير لديه تجربة المتعة الفنية عن طريق الحواس والعاطفة والإدراك , وهي تجربة فريدة من نوعها ، لأن الذي يحركها ليس سوى مادة بنائية صماء وصامتة ، وتحولت وبإتفاق أكثرية الناس الى طاقة صاخبة ومحركة للأفراد والجماعات  والشعوب  .