كـتـاب ألموقع

حرق مكتبة القوش 1902// نبيل يونس دمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

 

عرض صفحة الكاتب 

حرق مكتبة القوش 1902

نبيل يونس دمان

 

     كانت في احدى غرف هيكل مار ميخا النوهدري السرية مجموعة كبيرة من الكتب التاريخية يمتد زمانها الى القرن الرابع الميلادي، وقد اطلق على تلك الغرفة اسم( قليثد برطينه) ومعناها ملجأ البراغيث. وفي تلك الفترة من عام 1902 والصراع على اشده بين المذهب النسطوري القديم والمذهب الكاثوليكي المستحدث، قدم المبشرون الى القوش( الباتريه) من الموصل، وقد تعاون معهم في تسهيل مهمتهم بعض بيوتات القوش. فاخرجوا تلك الكتب الى ساحة مار ميخا وجمعوا ما تسنى لهم جمعه من البيوت بحجة نقلها الى مكتبة اكبر في الموصل.

 

     هكذا انطلت الحيلة، وفي ذلك الزمان لم يكن النفط موجوداً، فجلبوا ستة عشر قدرا من البزرة( مادة زيتية شديدة الاشتعال تستعصر من نبات اسمه قطّو او بزر كتان) ، ونسبة الى البزرة كانت في القوش في ذلك الوقت ثلاث بزارات، اي كما يمكن ان يقال معامل صنع البزرة او تحضيرها، احداها ملك بيت تغو( بلو) في محلة التحتاني، والثانية ملك بيت ابشارة في محلة قاشا، والثالثة ملك بيت اسطيفانا في محلة سينا.

 

     اضرمت النار في تلك الكتب وارتفع سعيرها لايام عديدة فخسرت القوش كنزا ادبيا وتاريخيا لا يعوض. ويذكر الوزير يوسف رزق الله غنيمة بان هؤلاء المبشرين اقدموا على افعال مماثلة في كثير من احياء الموصل، فاحرقوا تلك الكتب التي فيها تاريخ المنطقة بحجة كونها نسطورية، وكان الباتري عندما يدخل احد تلك البيوت يقول انه يشتم رائحة الضلال والهرطقة!!

     لقد روى تلك القصة الأليمة احد كهنة القوش المتعلمين ومدير مدرستها في اوائل القرن العشرين وهو الخوري يوسف كادو( 1892- 1971) .

 

     في تلك الفترة كان القس اوراها شكوانا( 1850- 1931) قد رجع للتو من اورميا، وكان يتهم بميوله النسطورية، وعندما شعر بالخطر على الكتب التواجدة في بيته منذ مئات السنين، اخفى كتابا منها مهما في نظره في الحائط. ومن المعلوم ان ابائه من خيرة من انجبتهم الكنيسة الشرقية، في ثراء علمهم وادبهم وخطهم الارامي، وفي مقدمتهم اسرائيل رابا( لازال كهف صغير في صدر القوش يحمل اسمه ويسمى محليا كبيثد رابي رابا) .

 

لم يكن القس اوراها في البيت عندما دخل المبشر( الباتري) بيته، قال وهو في عتبة الباب، انه يشتم رائحة ابليس! واستفسر من زوجة ابنه، ان كان هناك اي كتاب مخبأ، فقالت نعم، اذا كان الكتاب يبعث رائحة إبليس فخلصنا منه. وعلى بساطتها وصغر سنها اخرجت الكتاب المدفون في مكان بالحائط وسلمته له، وبدوره القاه في التنور ليحترق. كم كانت الصدمة كبيرة للقس اوراها عندما عاد الى البيت ولم يجد كتابه.

 

     تلك شذرات مما اقترفه المبشرون في وسائلهم لتحويل الناس من انتمائهم الكنسي القديم. انا لا اعتب على الدعوات السلمية المستندة على الاقناع للمذاهب. وشيء طبيعي ان ينتمي الانسان الى الكنيسة التي يحبها ويتفاعل معها دون قسر او إكراه او اغراء، كما هي الحال في البلدان المتمدنة اليوم. والمسالة الاكثر اهمية في نظري هي ابقاء الدين بعيدا عن السياسة، فالدين عبادة وعلاقة روحية بين الانسان وخالقه. اما السياسة فليست غاية بحد ذاتها بل وسيلة لادارة شؤون الناس والتعبير عن مصالحهم المترابطة مع المجتمع الذي تعيش فيه.

 

     ان البعثات الانكليكانية، والبروتستانتية، والدومنيكانية، ومبعوثي اساقفة كانتربري، غزت بلداننا منذ ثلاثة قرون تقريبا لغايات استعمارية، وتحت واجهات الدين. فكيف بهم ان كانت غايتهم دينية ان ياخذوا ميراثنا الروحي الذي انبثق من ارضنا، ويعيدوه لنا بدعوى اننا متخلفون؟! صحيح هناك تخلف في النواحي العلمية التقنية وحتى الاجتماعية بسبب الظروف التي تمر بها المنطقة منذ دخولها الصراعات والانقسامات والحروب، لكن عقيدتها الدينية هي من الثبات والاستمرار منذ الفي سنة على ابعد تقدير. وصحيح ايضا ان تلك البعثات حملت معها بعض نفحات الحضارة من مدارس ومطابع ولوازم اخرى لكنها ادخلتنا في اشكالات وصراعات بعضها دموية مع جيراننا الذين تقاسمنا الارض معهم منذ قرون وقرون.

 

     ربما هناك مبعوثين غربيين عن طريق الكنائس متدينين وشديدي التدين، اندفعوا ويندفعون لتلك الغاية، وقد يجهلون دوافع مسؤوليهم، بانها مصالح انانية تدفع بهم الى هذا الطريق. الحصيلة اننا احفاد تلك الامبراطوريات العظمى في التاريخ، قد دفعنا ثمنا غاليا لتلك الممارسات التي لم تعد خافية على احد ابدا.

 

من كتاب الرئاسة في بلدة القوش الصادر في 2001 م. ص 74

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

California on December 8, 2022