كـتـاب ألموقع
• ليس في الإمكان أفضل مما كان:الانتخابات العراقية مثالا
إبراهيم الزبيدي
ليس في الإمكان أفضل مما كان:الانتخابات العراقية مثالا
المراقب المتأني لما قيل وما كتب في أجهزة الإعلام العربية والأوربية والأمريكية عن الوضع الانتخابي العراقي الأخير يكتشف بسهولة أن هناك خطأ جسيما يعتري ذلك التناول، البعض من أصحابه ارتكبه بحسن نية، ولكن البعض الآخر تعمد أن يقترفه عن سابق تصميم وترصد.
النوع الأول معذور، لأنه لا يعرف حقيقة المخفي من أسرار التكوين النفسي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لطبيعة المجتمع العراقي، وهو لذلك يقرأ نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة بما نشأ عليه من قيم ومباديء، وبنزاهة المخلص للعراق وللديمقراطية وللعلمانية، والكاره للطائفية والمحاصصة، والرافض للهيمنة الإيرانية الثقيلة على العراق (الجديد).
أما النوع الآخر فهو يعرف ويحرف. خصوصا وأن هناك أوامر مشددة من قبل حكومات شقيقة وصديقة، جوارية وأمريكية وأوربية، لكتابها ومحلليها وسياسييها بتحشيد الجهود الحكومية والشعبية معا ضد المالكي وحزبه ومع رحيله، أكثر مما هي مع أياد علاوي وقائمته العراقية.
والنوعان من المعلقين على نتائج الانتخابات الأخيرة تناولوها على طريقة (لا تقربوا الصلاة)، وتجاهلوا تكملة الآية (وأنتم سكارى). فكلاهما أخطأ حين عمد إلى الفرز بين قائمتي نوري المالكي وأياد علاوي على أساس فكري وعقائدي، فوضع الأولى في خانة الإسلام السياسي الرجعي المدموغ بالتبعية لإيران، وجعل من الثانية جبهةَ واحدة، في مواجهة الأولى، متناسقة فيما بين مكوناتها، وصفت بالعلمانية، ترفض الطائفية السياسية، ونصَّبوا أياد علاوي قائدا معارضا، بشهامة وثبات وصراحة، للهيمنة الإيرانية، ومصمما على مقارعة النفوذ الإيراني بقوة المبدأ والعقيدة والمال والسلاح.
والحقيقة أن الانتخابات الأخيرة أثبتت أن الملايين العراقية الصامتة المهمشة والمقاومة الحقيقية للطائفية ولكل أنواع التبعية لقوى الخارج، على اختلاف ألوانها وأشكالها وأحجام تدخلها في الشأن العراقي، قاومت جميع المغريات والحوافز المالية والإرهابية والدينية والقومية التي لم يقصر في إغداقها على الناخبين أي من المتسابقين إلى كراسي الحكم، ولم تخطيء كما أخطأت في الانتخابات السابقة، وظنت بأصواتها على جميع السياسيين (المخضرمين).
ولو لم يكن الأمر كذلك لحصل واحد من المرشحين على الملايين من الأصوات، ولفوجيء العالم بذلك القائد المحبوب المكتسح الذي هبت الجماهير بعفوية وصدق وحرارة فمنحته ثقتها ورفعته على أكتافها ليقود الشعب العراقي إلى شاطيء الأمان، دون محاصصة، ولا وصاية من أحد ومن أي نوع.
أثبتت الانتخابات الأخيرة أن العراقيين لم يفرقوا كثيرا بين المالكي وعلاوي أوغيرهما من المتسابقين. فالمالكي لم يضع حدا للفساد. بل تستر على بعض اللصوص من وزرائه ومستشاريه ومعاونيه، ولم يخرج من طائفيته، ولم يستطع أن ينسى كونه رئيسا لحزب الدعوة وليس زعيما للعراقيين. كما أن أياد علاوي لم ٌيثبت، بسلوكه وسلوك وزرائه وأعوانه أيام رئاسته القصيرة للوزارة، أنه مانديلا، ولا حتى حريري لبنان. ففي عهده القصير شهدنا أول عملية تهريب لمليارات الدنانير العراقية الجديدة إلى لبنان قام بها وزير داخليته وصهره نوري البدران. وسمعنا بفضيحة وزير دفاعه حازم الشعلان المليارية ومساعده زياد القطان. وعرفنا بقصة وزير مواصلاته لؤي حاتم العرس. وتابعنا حكايات وزيرة زراعته سوسن الشريفي. وضحكنا على تجليات وزير كهربائه أيهم السامرائي، دون أن يعلن موقفه الواضح الصريح من أي منها، لا في زمن رئاسته للوزارة ولا بعدها، مع الأسف الشديد.
هذا مع التذكير بأنه كان وما زال أحد المتحاصصين الكبار الذين جاؤا ضمن الشلة الأولى، مع أول دبابة أمريكية، جنبا إلى جنب مع المالكي والحكيم والجلبي والجعفري وجلال ومسعود. وفعل ما فعله رفاقه الآخرون، فقد احتل كثيرا من منازل مسؤولي النظام السابق في منطقة الحارثية، له ولحمايته وأعوانه المقربين، وأقام فيها مستعمرته الواسعة، حيث حرم المرور في عدد من شوارعها، ومنع مدير أمنه (اللبناني) أي عراقي من شراء أو استئجار أي منزل فيها إلا بعد حصوله على موافقة علاوي شخصيا. وها هو اليوم يجري من باب إلى باب، مطالبا باعتماد نظام جديد للمحاصصة يسمى (المشاركة) في الحكومة القادمة، حتى لو جاء على طبق إيراني كريم.
وبالحساب الموضوعي الدقيق نكتشف أن الجميع فقد شيئا مهما من بهرجة عنفوانه ومكاسبه السابقة. فائتلاف الحكيم خسر كثيرا من مواقعه التقليدية في مكامن قوته، والمالكي، هو الآخر، خسر كثيرا من امتداده السني السابق، وتقوقع في جنوبه الشيعي على حساب أشقائه في الائتلاف الوطني، وانكسر علاوي في أغلب المحافظات الجنوبية، وحوصر، إلى حد كبير، في حدود مناطق حلفائه السنة. والجبهة الكردستانية بدورها لم تنجُ من الخسارة، فقد عانت، هي الآخرى، من أفول بريقها السابق في عقر دارها. ولعل أبرز مظاهر ذلك الأفول حصول معارضيها على جزء غير قليل من أصوات جماهيرها في أربيل والسليمانية معا.
والذين يتعصبون لعلاوي ويطالبون بتنصيبه رئيسا للوزراء بسبب فوزه بمقعدين إضافيين على المالكي، يتصرفون وكأن تلك الانتخابات جرت في أمريكا أو فرنسا أو السويد، حيث يرجح مقعد واحد كفة هذا الحزب دون ذاك، ويجعل زعيمه صاحب الحق الأوحد في تشكيل الوزارة، كما أن نقصا بصوت واحد فقط كفيل بطرد رئيس الوزارة الحاكم وتنصيب غريمه مكانه. وهم يتناسون عن قصد أو عن غير قصد أن الانتخابات لم تدر بينهما وحدهما. والمسألة ببساطة، كما يعرفها العراقيون، وهم أهل مكة وأدرى بشعابها، هي أن الذي خاض الانتخابات جبهات ثلاث لا رابع لها، رغم وجود بعض التجمعات الصغيرة المتناثرة.
الأولى جبهة شيعة إيرانية الهوى، بقيت هي الأوسع وهي الأقوى، وقد حصلت على 89 مقعدا لتحالف المالكي و70 لائتلاف الحكيم. والتحالف بين الفريقين حتمي ومحكوم بالرغبة الإيرانية المؤكدة في نهاية المطاف.
والثانية جبهة سنية طائفية عشائرية عنصرية بعثية، لا علاقة لها بالعلمانية ولا بالديمقراطية، مهما تنوعت التسميات والشعارات، وحدت بين تياراتها العديدة أخطاء الأحزاب الشيعية التي حكمت العراق في السنين السابقة بضيق أفق وقصر نظر وتطرف طائفي مبالغ فيه، كان آخره بدعة اجتثاث بعض المرشحين السنة. وبرغم كل الدعم الهائل الذي حصلت عليه هذه الجبهة من دول وقوى وأحزاب وأجهزة إعلام عربية وعالمية كبرى عديدة، وبرغم كثرة تياراتها وأحزابها وعشائرها، لم تحصل سوى على 91 مقعدا مقابل 159.
أما الثالثة التي تقف بين الجبهتين العربيتين، الشيعية والسنية، فهي جبهة الحزبين الكرديين التي تعتبر بحق بيضة الميزان بينهما. وعلى أساس تحالفاتها المنتظرة سوف يتقرر مسار القطار العراقي في سنوات الضياع الأربع المقبلة. وقد صرح أحد أقطابها مؤخرا بأن تحالف الجبهة الكردستانية مع قائمة علاوي يضر بمصالح الجبهة. وفي ذلك إشارة خفية إلى عقدة كركوك ورئاسة الجمهورية وبعض المواقع السيادية، في مقدمتها وزارة الخارجية ورئاسة أركان الجيش.
أي أن عراق ما قبل الانتخبات باق ٍ على حاله، والفاعلون الكبار على الساحة العراقية باقون في مواقعهم، دون تغيير يذكر، سوى في بعض الوجوه والمواقع والشعارات أو التسميات. ولأن النتائج غي حاسمة فإن توزيع المناصب العليا سيكون صعبا ومعقدا وقد يأخذ وقتا طويلا اكثر من المعقول. فلا إيران ولا الأحزاب الشيعية، رغم الاختلافات بين أطرافها، يمكن أن تقبل بمنح رئاسة الوزراء لعلاوي، لأنها ببساطة تفزع من سطوة السنة على هذا المركز الخطير. ومسعود لن يرضى بتنصيب طارق الهاشمي رئيسا للجمهورية وإعادة الطالباني إلى كردستان، ليكون فيها اثنان بلقب السيد الرئيس. والتيار الصدري، الأقوى في الائتلاف، لن يسلم للمالكي برئاسة الوزراء، والاتفاق على بديل من داخل الائتلاف سيكون أصعب من إدخال جمل من ثقب إبرة. وعلى هذا فالعراق سيظل أمدا طويلا بلا حكومة فاعلة تحقق للجماهير الحد الأدنى من مطاليبها.
ولا مهرب للجبهات الثلاث، في النهاية، من القبول بنظام جديد للمحاصصة الطائفية تفرضه عليها القوى الوصية الخارجية، مختلف كثيرا عن المحاصصة السابقة التي ابتدعوها، منذ أن كانوا معارضين، قبل التاسع من نيسان/ أبريل 2003 بكثير. ولا يخفى أن جميع اللاعبين، المحليين والخارجيين معا، ينتظرون بفارغ الصبر نتائج المفاوضات والتفاهمات الدائرة خلف الأبواب المغلقة، ونهاية موسم الحج إلى طهران، لكي تتقرر الحصص، وتتوزع المكاسب، ويعرف الجميع مكانه على خارطة وطن ما بعد الانتخابات.
وبعكس ما بشرنا به كثيرون من الكتاب العرب والأجانب بحديثهم عن الفجر الديمقراطي الحقيقي الذي بزغ في العراق، في الانتخابات الأخيرة، ترى ملايين العراقيين أن الاصطفاف على أساس الطائفة والقومية والدين تعمق أكثر وتجذر في نتخابات الشهر الماضي.
وليس أمامنا بعد اليوم سوى القبول بتوزيع الوطن هدايا ومكارم على هذه الطبقة من السياسيين الذين يتحملون، هم وحدهم، ربما أكثر من بول بريمر وجورج بوش ورامسفيلد، مسؤولية المأزق الخانق الذي وجد العراق نفسه فيه.
ومن الآن وحتى موعد الانتخابات العراقية القادمة في 2014 سوف نغمض عيوننا عن فساد المفسدين، ونعتبرها سنوات عجافا أخرى من عمر العراق، ومن عمر الصفقات المشبوهة بين قادة صنعهم الاحتلال من ورق، وسلمهم وطنا عزيزا كريما، في غفلة من أهله، ومن الزمن، ومن الأصول.
المتواجون الان
575 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع