اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

كتاب: الشعب الصربي والإسلام في يوغسلافيا- شهادة للتاريخ ح3// أ.د. جعفر عبد المهدي صاحب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. جعفر عبد المهدي صاحب

 

عرض صفحة الكاتب 

كتاب: الشعب الصربي والإسلام في يوغسلافيا

شهادة للتاريخ

تأليف

أ.د. جعفر عبد المهدي صاحب

أستاذ العلوم السياسية

الحلقة الثالثة

 

مقاربات دايتون

تعد اتفاقية دايتون من أخطر الاتفاقيات الدولية الموقعة في القرن العشرين حيث سنثبت في هذه الدراسة كيف أن هذه الاتفاقية مهدت الطريق لنهج العولمة، فشرعنت سياسة التدخل بدلاً من مبدأ عدم التدخل1 ، وأجازت تحطيم مفهوم السيادة للدول2 وفتحت الطريق نحو محاكمة رؤساء الدول خلافاً لمبدأ الحصانة المتعارف عليه دولياً.

تسجل ،في رأينا، إتفاقية دايتون إنعطافاً خطيراً في العلاقات الدولية التي كانت قائمة على قاعدة التوازن في العلاقات الدولية والمحكومة بمبادئ القانون الدولي العام وقواعده الآمرة. نحن هنا لا نقول بإن تلك القواعد الآمرة كانت مثالية بقدر قولنا إنها كانت الحصيلة النهائية لنتائج الحرب الكونية الثانية والتي ضمنت الى حد كبير التوازن بين القوتين العظمتين طوال فترة الحرب الباردة. وتلك بالتاكيد مثلت صمام الأمان لحماية استقلال دول العالم الثالث وما انتجته الظروف الدولية آنذاك في ظهور مجموعة عدم الإنحياز والدور الذي لعبته على ساحة السياسة الدولية.

كانت الولايات المتحدة تخشى من عقوبات الدول النامية والنفطية بشكل خاص، خلال فترة الحرب الباردة، وبالضبط خلال حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وكانت دول العالم الثالث تلجأ الى الجمعية العامة لتمرير قراراتها كي تتخلص من حاجز الفيتو الأمريكي. لقد زاد أنين الغرب وقتذاك عندما خفض العرب فقط 5% من انتاجهم النفطي. وبالغ ملوك أوروبا في ركوب الدراجات الهوائية، على أثر ذلك، كي يرفعوا معنويات شعوبهم وحثهم على التقتير في استهلاك الطاقة.

سقط جدار برلين في 9/11/1989 بفضل البيروسترويكا الغورباشوفية، وبسقوطه انطلق المارد الأمريكي من قمقمه، لينتقم من كل ما شيء لا يلائم ذوقه السياسي- الاقتصادي، ويلصق التهم وفق معاييره، ويهاجم هذه الدولة أو تلك دون حاجة الرجوع الى  إصدار قرار من مجلس الامن الدولي، ويجعل من حلف الناتو كما لو كان شرطياً دولياً يتسلح بقوة الأحكام العرفية.

كانت يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية في مقدمة الأنظمة المزعجة للولايات المتحدة في شرق القارة الأوروبية.

 

هل كان الرئيس ميلوشفيتش مجرم حرب فعلاً؟

ولأن نظام الرئيس ميلوشيفيتش من الأنظمة القليلة بل النادرة المناوئة لتمدد حلف الناتو شرق القارة، وأن النظام الداخلي لحزبه، حزب صربيا الاشتراكي يندد علنا "بالأمبريالية الأمريكية ومحاولة سيطرتها على العالم وسيطرة ألمانيا على أوروبا"3.. لذا فأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تبخل جهداً في القضاء على ميلوشيفيتش ونظامه من خلال تشجيع الانفصاليين في البوسنة بقيادة عزتبيغوفيتش وما يسمى بجيش تحرير كوسوفو بقيادة هاشم تاتشي الذي بدأ دعمه بشكل مبكر الى أن جاء دوره للظهور علنا عام 1999.

 إن ظروفاً كهذه جعلت من اتفاقية دايتون بالضرورة أن تكون حجرَ أساس لدق مسمار نعش الدولة اليوغسلافية الاتحادية.

 

ماذا جرى في دايتون؟

سميت الإتفاقية بهذا الاسم نسبة الى مدينة دايتون في ولاية أهايو بعد أن جمعت الولايات المتحدة أطراف النزاع في البوسنة والهرسك للتفاوض بقاعدة رايت بيترسن الجوية قرب دايتــون للفترة من 1- 21 /11/1995. رأت إدارة كلنتون إن نجاح مفاوضات دايتون ووصول اطراف النزاع الى حل، إي حل كان، سيضمن نجاح بيل كلنتون بولاية رئاسية ثانية وفوزه في الانتخابات المقبلة. لذا أبلغت أطراف النزاع كافة بأنهم محتجزون في قاعدة رايت بيترسون وليس باستطاعتهم مغادرتها إلا بعد وصولهم الى صيغة إتفاق معين4 . وتصدر الموقعون على الإتفاقية ثلاثة رجال أقوياء بصفاتهم الحزبية أكثر من صفاتهم الرسمية ،الرئيس الكرواتي فرانيا توجمان رئيس حزب الإتحاد الديمقراطي الكرواتي والرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش رئيس حزب صربيا الاشتراكي وعليا عزتبيغوفيتش رئيس حزب العمل الديمقراطي. ومما يذكر أن الولايات المتحدة قد "بادرت" قبيل دايتون الى إقامة الفدرالية البوسنية الكرواتية داخل البوسنة لكي يتسنى لبيغوفيتش التوقيع على وثائق دايتون باسم تلك الفدرالية، وبتخطيط أمريكي خالص وذلك نكاية بالطرف الصربي المتعنت والذي استطار بالانتصارات الميدانية العسكرية التي أحرزها على الأرض.

كان رئيس جمهورية  صرب البوسنة رادوفان كاراجيتش مغيباً في دايتون* فلقد اتهمته الولايات المتحدة بجرائم حرب (سوف نتطرق لاحقا للدوافع الأمريكية الحقيقية لإلصاق هذه التهمة) وكذلك اتهام القائد الميداني العسكري الصربي الجنرال راتكو ملاديتش بنفس التهمة مما جعل الرئيس اليوغسلافي الاتحادي سلوبودان ميلوشيفيتش أن يحصل على تفويض من صرب البوسنة للتفاوض نيابة عنهم والتوقيع على الإتفاقية باسمهم.

 

كاراجيتش يربط ضباط الناتو على عمود كهرباء كالخرفان

أما قضية اتهام رئيس صرب البوسنة رادوفان كاراجيتش ووزير دفاعه راتكو ميلاديتش بأنهما مجرما حرب، فأن هذا الاتهام سبق وقوع مجزرة سريبرنتسا بستين يوماً تقريباً وليس كما تدعي الادارة الأمريكية زوراً بأن القرار جاء بعد وقوع المجزرة المذكورة. وهذه النقطة تحتاج الى شرح لكي نعرف كيف تتاجر القوى العظمى  بدماء الشعوب خدمة لمصالحها الإستراتيجية. فمجزرة سريبرنتسا وقعت في شهر تموز (يوليو) عام 1995 في حين الاتهام الأمريكي ضد الشخصين المذكورين صدر في شهر مايس من العام نفسه، اي قبل احداث سريبرنتسا. والسبب يتجسد بالقصة التالية: كان حلف الناتو، وبدون قرار من مجلس الأمن الدولي، يقصف قوات صرب البوسنة منذ عام 1992، وفي شهر مايس عام 1995 ألقت طائرات الناتو الحربية منشورات على المواطنين في منطقة بالي (مقر قيادة صرب البوسنة على مشارف سراييفو) دعتهم فيهاالى أن يتركوا منازلهم خلال ثلاث ساعات. كان معنى ذلك واضحاً بأن المنطقة التي توجد فيها قيادة صرب البوسنة ستتعرض للقصف الجوي.

 

*ظل متخفياً حتى ألقي القبض عليه في بلغراد في 21/7/2008 متنكرا وباسم مستعار يعمل كطبيب نفسي تحت إسم الدكتور داباتش.

ظل متخفيا ستة عشر عاماً حتى ألقي القبض عليه قرب مدينة نوفي ساد بتاريخ 26/5/2011.

 

ولتجنب وقوع ضحايا مدنيين تم إلقاء تلك المنشورات. وكرد على ذلك وبخطوة استباقية قامت مجموعة من مقاتلي صرب البوسنة بأسر مجموعة من ضباط الناتو بعد وضع كمين لهم، وأمر الجنرال راتكو ملاديتش ربط اؤلئك الضباط (عددهم خمسة) بأعمدة الكهرباء في منطقة بالي وسمح لهم بالاتصال بقيادتهم. وكان الهدف واضحاً حيث سيتراجع الناتو في توقيت بدء قصفه للمنطقة وسيستغل الصرب الوقت الكافي الى أن يتم سحب مقر القيادة الصربية واجهزة اتصالاتها وآلياتها من المنطقة باتجاه الغابات الكثيفة المحيطة بسراييفو. وكان لهم ما خططوا حيث تم الانسحاب وبعدها تم إطلاق سراح ضباط الناتو من مربطهم.

في رأينا الشخصي، هذا هو السبب الحقيقي في جعل رادوفان كاراجيتش وراتكو ملاديتش مجرمي حرب، وذلك أنهما قد تجاسرا على أسر ضباط من الناتو وربطهم بتلك الصورة المهينة أمام أنظار الجميع. هذا هو سبب حقد الولايات المتحدة عليهما وليس كما يقال بسبب مجزرة سريبرنتسا.

في دايتون تمت التسوية ونجح الراعي الأمريكي في فرض رؤيته السياسية على الأرض. فقد تم التوقيع علىالاتفاقية،  المعاهدة الأم، إضافة الى أحد عشر ملحقاً. وبموجب الاتفاقية تم نشر 60 ألف جندي من حلف الناتو على التراب البوسني، وتم اقتسام الأرض بين الأطراف التي قاتلت من أجلها، ووضعت البوسنة تحـــت "الإقامة الجبرية" سياسياً كما تم تقليم أظافر قيادة صرب البوسنة. ومن المثير أن الولايات المتحدة قد جاءت بالرئيس اليوغسلافي ميلوشيفيتش من دولة ثالثة (مع التغطية بإشراك الرئيس الكرواتي توجمان) من أجل أن يوقع  ميلوشيفيتش باسم صرب البوسنة باعتباره رجلاً نظيفاً لم تتلطخ يده بدماء الناس، ولا يدري العالم بأن الولايات المتحدة منذ البداية كانت تغمر العداء لميلوشيفيتش لأنه يمثل حجر العثرة أمام  تطلعهم في تمدد الناتو في المنطقة. لذا أصدرت بحقه فيما بعد مذكرة اعتقال تتضمن اتهامه القيام بجرائم ضد الإنسانية في البوسنة!

 

خطورة دايتون

نحن نتكلم في مؤلفنا هذا بصدق وواقعية دون رياء ونلعب هنا دور الشاهد الميداني المتفهم للأزمة ولسنا من الذين كتبوا عن البلقان والبوسنة وهم يعتمدون على السماع والنقل، وعلى الترجمات الأجنبية لما كتب عنها. نحن نتكلم بلغة أكاديمية لا يشوبها تهويش الإعلام الغربي المضلل. نحن نكتب ما يجري على الواقع ونسمع بشكل مباشر ما يقوله المسلم والصربي والكرواتي من غير حاجتنا الى مترجم. نحن لا نعتمد على السي أن أن  CNNوالبي بي سي BBC  أو الأندبندنت أو النيويورك تايمز أو الفيغارو...الخ.

إذن تكمن خطورة اتفاقية دايتون بانها شرعنت للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة والأعضاء في منظمة الأمم المتحدة بالإضافة الى نية "مشرع" دايتون على ترسيخ مفهوم البلقنة والتشرذم بشكل دائم ومتعمد، فالمادة 11 من الاتفاقية الأم تنص على أن " هذه المعاهدة ابرمت باللغات البوسنية والكرواتية والإنجليزية والصربية". ان منطوق هذه المادة مثير للاستغراب لعدم وجود لغة بوسنية ولغة كرواتية ولغة صربية وإنما هذه لهجات تعود للغة واحدة نطقاً وقواعد، ومن يجيد الصربو- كرواتية  أو الكرواتو – صربية سوف يستهزء من هذا النص. ونلاحظ في النص ترتيب مقصود بخبث لتلك اللغات فقد حشرت الإنجليزية، بحجة الأبجدة، لكي تفصل بين البوسنية والكرواتية من جهة والصربية من جهة أخرى. والمقصود من ذلك، حسب رأينا، كي تعطي إنطباعاً للقارئ العادي بأن الفرق فيما بين تلك اللغات كالفرق بين كل واحدة منها  مع الإنجليزية. ونعتبر تشخيصنا لهذه الجزئية ليس هامشياً بل هو كشف واضح للتسويف الذي ترتكز عليه هذه الاتفاقية5 . واستطيع ان أجزم للقارئ القدير بأن الفرق بين البوسنية والصربية أقل بكثير من الفرق بين اللهجتين البغدادية والموصلية أو بين اللهجتين البصرية والنجفية.

 الملحق الأول الخاص بالجوانب العسكرية فقد تناول الوضع القانوني الدائم لتواجد قوات الناتو على التراب البوسني وهو في حقيقته احتلال عسكري دائم مع تواجد 60 ألف عسكري من قوات الحلف المذكور. ويمكن ملاحظة اللف والدوران الواضح في المادة الأولى من هذا الملحق، فالفقرة 1 من هذه المادة تطلب من مجلس الأمن اصدار قرار في تشكيل قوة "دولية" تنتشر في البوسنة والهرسك تسمى "إيفور" ، وفي الفقرة الثانية من نفس المادة يرد تاكيد على " إن إيفور تعمل تحت سلطة مجلس حلف الناتو وتكون خاضعة لإرادته وسيطرته العسكرية وذلك من خلال سلسلة مراجع القيادة في حلف شمال الأطلسي...".

وفي سابقة خطيرة في العلاقات الدولية تضمن الملحق الرابع للاتفاقية وضع دستور الدولة في قاعدة عسكرية أمريكية خلافاً لطريقة نشوء كل دساتير دول العالم. والأنكى من ذلك تنص الفقرة الثانية من المادة السابعة من هذا الملحق على أن محافظ المصرف المركزي البوسني في أول مجلس ادارة  المصرف " لا يجوز أن يكون من مواطني البوسنة والهرسك أو أي دولة مجاورة ....".

ويشكل الملحق 11 من الاتفاقية والمسماة (الاتفاقية الخاصة بتطبيق الجوانب الممدنية للتسوية السلمية) ما يشبه نظام الانتداب على جمهورية البوستة والهرسك، وقد أطلقنا عليها في أحد مؤلفاتنا تسمية (اتفاقية المندوب السامي) إذ تتكون من ديباجة وست مواد6 . وتشير المادة الثانية الفقرة (أ) منها على أن ولاية  المندوب السامي تشمل مراقبة تنفيذ تسوية السلام، وفي حالة وجود خلافات بين الأطراف المتعاقدة فأن الكلمة الفصل تكون للمندوب السامي، إذ يعود تقدير ذلك إليه (الفقرة هـ)، وهو يشترك في اجتماعات المنظمات المانحة للبوسنة والهرسك ويقدم تقاريره الى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الروسي وسائر الحكومات والأطراف والمنظمات الأخرى (الفقرة و). ونشاهد هنا كيف يأتي تسلسل الأهمية في تقديم التقارير حيث تم وضع الاتحاد الروسي في المؤخرة مع العبارة المهلهلة" وسائر الحكومات والأطراف والمنظمات الأخرى" وهذه كلها عبارة عن تزويق لفظي لا يغير من طبيعة عمل المندوب السامي الذي يرتبط كلياً بحلف الناتو والبيت الأبيض. وبالاضافة الى تلك الصلاحيات الممنوحة له، فأن المندوب السامي يترأس "اللجنة المدنية المشتركة" وهو الذي يدعو الى عقد اجتماعاتها ( النقطة 2 من الفقرة 2) ويتبادل المعلومات مع قائد قوات إيفور، ويحضر اجتماعات اللجنة العسكرية( الفقرة 7)، وله الحق في إنشاء لجان فرعية في داخل وخارج البوسنة (النقطة 8). وتنص المادة الثالثة فقرة 4 على تمتعه وموظفيه وتابعيه بالحصانات الدبلوماسية. أما المادة 5 فتقول لنا بوضوح ،إن المندوب السامي هو المرجع الأعلى في تفسير هذا الاتفاق.

 

دايتون جعلت البوسنة منقوصة السيادة

إن الحديث عن استقلال البوسنة والهرسك وسيادتها والنظام الديمقراطي يعد ضرباً من ضروب الوهم في ظل صلاحيات وجود قائد قوات الناتو والمندوب السامي.

فما معنى وجود مجلس رئاسة ورئيس دولة؟

وما معنى وجود رئيس الوزراء ومجلس الوزراء؟

وما معنى وجود البرلمان؟

وما معنى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية؟

إن اتفاقية دايتون وما تضمنته من احتلال مقنن، وسابقة محاكمة الرئيس اليوغسلافي ميلوشيفيتش، قد وضعت حجر الأساس لاحتلال العراق وسقوط بغداد،  ومحاكمة صدام حسين . وإن سقوط بغداد  عام 2003 كان المهر المقدم في عقد نكاح الربيع العربي على سنة الولايات المتحدة ورسولها حلف الناتو. أما المهر المؤخر فهو اسقاط أنظمة التخلف الخليجية بدءاً بمملكة الشر الوهابية.

 

ما بعد الربيع...إستشراف على نار هادئة

يتميز الحكام العرب بميزة  القدرة  في الإستشعار عن بعد عندما يتعلق الأمر بمصير عروشهم، والربيع العربي ليس حدثاً مفاجئاً لهم وإنما توقيته المباغت كان مفاجئاً بحيث لم يمتلكوا الوقت الكافي الى لملمة ذيولهم فتم اتلافهم كما تقلع السنابل التي أفسدها مطر ما قبل موسم الحصاد.

فعندما شعر صدام حسين أن نية الولايات المتحدة مستمرة وجادة في اسقاط نظامه، بعد حصار رهيب دفع ثمنه الشعب العراقي، حينها قال ذات يوم: إذا سقط العراق – لا سامح الله – فإن الأنظمة العربية ستتهاوى الواحد بعد الآخر. واستلم  القذافي الحديث من بعد صدام ليقول أمام القمة العربية العربية العشرين، التي أقيمت في دمشق عام 2008، علناً وبوضوح تام بأن إعدام صدام حسين يمهد الطريق الى أن يأتي الدور على بقية الحكام العرب ليشنقوا متى ما قررت الولايات المتحدة شنق أي واحد منهم. وأكد القذافي أيضاً بأن أصدقاء أمريكا يجب أن يعلموا بأنهم ليس بمأمن منها، لأن صدام حسين كان صديقاً لها أثناء الحرب على إيران، وديك تشيني كان صديقاً حميماً لصدام حسين، وكذلك رامسفيلد، ولكن عندما تقرر أمريكا بازاحة أي حاكم عربي فإنها ستقضي عليه دون النظر الى أي إعتبار آخر. وليس الآخرون خيراً من الولايات المتحدة فقد رفضت فرنسا استقبال بن علي ساعة هروبه. وللقذافي كلام سابق مشهور مأثور يردده دائما " أمريكا لا تبحث عن صديق، فهي تبحث عن عدو أو عميل".

انتهت ثورات" الربيع" العربية بوصول الإسلامويين الى السلطة في كل البلدان التي حصلت فيها الثورات بدون استثناء، وهنا في رأينا الطامة الكبرى، لا بسبب ظلامية ورجعية القوى السياسية الدينية وعدم صلاحيتها لبناء نظم سياسية عصرية،  بل بسبب نجاح الاستدراج الغربي لوقوع العرب بهذا الفخ المرسوم بخبث بارع. فتشير الحقائق الميدانية، وكما ذكرنا سابقاً، إن الربيع العربي أدى الى وصول الحركات السياسية الإسلاموية الى سدة الحكم في كل الأقطار التي شهدت الثورات.

انتهت الثورة الشبابية المصرية الى سيطرة الاخوان المسلمين على الحكم في مصر  وما تلى ذلك من تخبط تجاه علاقة مصر بالكيان الصهيوني ومصير معاهدة كامب ديفيد والتي بدأت بشعارات استخدمت للاستهلاك المحلي وانتهت الى تبادل الرسائل المفعمة بالغزل السياسي بين محمد مرسي وشيمعون بيرس. وعندما شعر الشباب المصري بأن سياسة وسلوكية الاخوان ،المتمثلة في مرسي ستنقل مصر الى عصر الجاهلية، اندلعت الثورة المصرية الثانية في تموز يوليو 2013. ونجحت تلك الجهود بتنحية مرسي وبمساندة الجيش المصري الذي استجاب للارادة الشعبية في التغيير.

وأنتهى ربيع تونس الى مسك حركة النهضة لزمام الأمور في البلاد بزعامة راشد الغنوشي، وكأن الحركة السلفية التونسية هي التي أضرمت نار الثورة، وكأن الشباب التونسي الثائر كان تحت إمرة حركة النهضة.

فقد خاض الشباب الثورة حتى اينعت وجاء موسم الحصاد لتتقدم الحركات الدينية لاستلام المحصول ويخرج الشباب من المولد بلا حمص.

أما ثورة اليمن فقد أدت في النهاية الى زيادة قوة وشكيمة المجموعات الدينية المتطرفة وفي مقدمتها مجموعة عبد الملك الحوثي وهي التي تحكم البلاد حالياً، وجماعات ظلامية متطرفة أخرى مثل جماعة محمد عبد العظيم وحسين بدر الدين وحسن مجد الدين المؤيدي وحسين يحيى حسين الحوثي وعبد الرحمن شايم وعلي مسعود الرابضي وأحمد محمد الشامي أتباع علي بن محمد العجري ومحمد عزان بالإضافة الى مجاميع الوهابية السلفية الذين يبحثون لها عن دور في اليمن ومنهم وهابية دماج.

وفي ليبيا رغم الوعي العالي للشعب الليبي في الشأن السياسي ووجود العلمانيين على الساحة السياسية، فأن تأثيرات الحركة الوهابية والأصولية المتطرفة ظاهرة للعيان. وقد قامت تلك الحركات المتخلفة بأعمال هوجاء ربما كانت في نظرها "إنجازات" إستراتيجية تتوقف عليها مصلحة وازدهار الأمة وذلك عندما نفذت  "صولات الفجر" المتعددة في هدم المراقد الدينية والمساجد التي تضم قبور أولياء صالحين بحجة أنها تمثل مبعثاً للشرك بالله. فتم هدم ضريح الشعاب الدهماني وسط العاصمة الليبية طرابلس، وتفجير ضريح الشيخ عبد السلام الأسمر في مدينة زلتن، وتخريب وهدم عدد من مساجد الزاوية التي تضم أضرحة أولياء صالحين مثل هدم جامع علي القمودي في منطقة ضي الهلال في الزاوية. لقد كانت أعمالهم مثيرة للفوضى والفزع وهم ينبشون القبور ويحرقون الجثث، فمن أعطاهم الحق للقيام بمثل هذه الأعمال المشينة؟ هل هم يمثلون سلطة تنفيذ القانون؟ أم أن الوهابية أصبحت  وريثة الثوار حكماً؟

وفي سوريا والأردن فالاخوان المسلمون على الدور يشدون الطابور للقفز على أكتاف الشباب الثوار، هكذا تشير كافة الدلائل على الأرض. نأمل أن لا يفهم قولنا هذا فهما سطحياً على أساس الدفاع عن الأنظمة الفاسدة بل نؤكد هنا بأننا لسنا بصدد تبرير الدكتاتوريات المقيتة بقدر فضحنا لنوايا الخارج.

 

هل كان الناتو ظهيراً للعرب والمسلمين بالأمس ليصبح اليوم؟

ألقت المعارضة العراقية كامل أوراقها في سلة الولايات المتحدة عام 1990 من أجل ازاحة نظام صدام حسين، ولجأت الجامعة العربية الى نفس الأسلوب مستندة على شرعية المطالب التي رفعتها المعارضة العراقية. ولا ننسى هنا دور دول الخليج ودور الرئيس المصري حسني مبارك في استغفال الرأي العام في تمرير قرار باسم الجامعة خلافاً لأحكام ميثاقها. فالميثاق لا يبيح استخدام القوة ضد دولة عضو إلا وفق قاعدة الاجماع، اي ان أية دولة عضو في الجامعة  لها حق الفيتو ضد أي قرار يهدف الى استخدام القوة ضد عضو ما في الجامعة العربية. وقد شاهد العالم الخناقة التي حصلت بين القذافي والأمين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي بعد أن مرر مبارك القرار ضد العراق، وهو يرد على اعتراض القذافي بجملة "لا ياحبيبي بالأغلبية"، وما تلى ذلك من تداعيات أدت الى أن يقدم الأمين العام استقالته من منصبه. نحن هنا لسنا بصدد نوايا القذافي وإنما في سياق حدث قد حدث.

لقد لجأت المعارضة العراقية الى تبرير دخول قوات إحتلال الى وطنها بحجة عدم وجود البدائل، فالأهم عندها ازاحة صدام حسين الجاثم منذ عقود على صدور العراقيين.

لقد تم تلافي التدخل المباشر في التجربتين التونسية والمصرية لأن بن علي (ربيبهم) ليس صدام حسين، وأن حسني مبارك (خويدمهم) ليس صدام حسين الذي وضعوه منذ سنوات ضمن محور الشر. ولكن الولايات المتحدة والناتو اختاروا طريقا ثالثاً للتعامل مع الحالة الليبية، وهي التدخل عن طريق الضربات الجوية حتى مقتل القذافي وسقوط نظامه.

لقد انتهت ثورات الربيع العربي الى ربيع وهابي بأمتياز وصعود القوى والتيارات الإسلاموية المجرمة المتخلفة في خطف ثمار الربيع الشبابي.

 

الولايات المتحدة وراء  تأسيس تنظيم القاعدة:

  لعلنا نستفيد من التجارب لنرى كيف تلقى "المجاهدون" دعماً مكشوفاً من الولايات المتحدة في القضيتين الأفغانية والبوسنية. وكان الإعلام الغربي يطلق عليهم تسمية (المجاهدين). فكان أسامة بن لادن ورفاقه يتحركون وهم يحملون  جوازت سفر أمريكية. وقد عثرنا ضمن مصادر بحوثنا البلقانية على معلومة تفيدأن بن لادن زار البوسنة في 25/6/1986 بترتيب وتغطية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية–CIA- وهو يحمل جواز سفر أمريكي رقم 37/2110 ، وبصحبته فختي محمد وهو مسؤول ضمن حركة المقاومة الأفغانية ويحمل جواز سفر أمريكي رقم 069/369، وعصمان كالدريم وهو تركي مقيم في أمريكا ويحمل جواز سفر تركي رقم 37/347. وكان هدف الزيارة شراء أسلحة وذخائر "للمجاهدين الأفغان" بقيمة (100) مليون دولار. وقد ذكرت تلك التفاصيل مجلة باتريوت البوسنية الصادرة في بانيالوكا 7.

وخلاصة القول، من سياق الواقع إن الغرب لجأ الى إبراز التيارات الإصولية المتشددة على الساحة العربية من أجل الانقضاض عليها مستقبلاً وهذا يعد سبباً رئيساً لاستمرار حلف الناتو في الوجود بعد أن فقد مبررات وجوده منذ سقوط جدار برلين مطلع تسعينيات القرن الماضي. فقد أسهم في دفع بن لادن الى واجهة قيادة " المجاهدين " وفيما بعد جعلت منه الإرهابي رقم (1) في العالم. والآن جاء الدور للحركات والقوى السياسية التي تتخذ من الإسلام ستاراً لأنشطتها لتجعلها وريثة الثوار وتفسح المجال لهم لممارسة السياسة على هواها والتي ستوصلها حتماً الى النتيجة التي وصل إليها  بن لادن، لتأتي مرحلة الانقضاض على الإسلام بعد أن تتخلى الولايات المتحدة عن "أصدقائها" في شبه الجزيرة العربية. لقد بدأت الحركات " الجهادية " برعاية ومباركة الغرب في أفغانستان ثم في البوسنة حتى توقيع اتفاقية دايتون التي مهدت لتدمير قواعد القانون الدولي الآمرة ليتسنى لحلف الناتو السيطرة على مقدرات الكوكب دون منازع في عالم تسوده قطبية أحادية.

 

دول الخليج على الدور

سوف نرى بأن الموجة الأولى من الربيع العربي ستنتهي وتبدأ الجولة الثانية إذ يأتي الدور لأنظمة القرون الوسطى في شبه جزيرة العرب ليلتهمها الربيع الثاني وهو ربيع شعوبها. فمن مفارقات الدهر أن نظماً محافظة ومتخلفة حضارياً بامتياز تقوم برعاية ومساعدة وتبني الثورات في بلدان أخرى!!.

في عصر النهوض القومي خلال مرحلة بناء الدولة القومية وقفت كبرى تلك البلدان (السعودية) موقفاً رجعياً واضحاً ضد الثورات في الوطن العربي بحجة معاداة الشيوعية، وبقيت الى صف الولايات المتحدة على طول الخط رغم الإهانات المستمرة التي توجهها أمريكا الى العرب من خلال دعمها المكشوف للصهيونية العالمية وإسرائيل.

ومن سخريات القدر نرى رجلاً مثل أمير قطر يتبنى ويدعم "الثورات" العربية ويصبح إماماً للثوار في الوطن العربي وهو الذي وصل الى السلطة بطريقة تثبت عقوقه المبين. فأنظمة الخليج هي أنظمة تشبه دويلات القرون الوسطى، تحكمها عائلات ومشايخ تعج سلوكياتها بالفضائح وتستخدم قوانين القرن السادس وهي تعيش في القرن الحادي والعشرين.

ومن المؤسف وجود من يردد القول الساذج الذي يشير الى أن أنظمة  مشايخ الخليج  قد خدمت شعوبها، على أساس أن شعوب الخليج العربي تعيش بوضع اقتصادي جيد وهي تنعم ببحبوحة العيش. لكننا نعتقد أن هذا الكلام سطحي بامتياز، في يوم الثلاثاء 6-11-2012 كنت أتابع برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة ، وحلقة البرنامج كانت تدور حول قمع المظاهرات في الكويت، فكانت حصيلة نقاش الحلقة يقول (نحن الكويتيون لسنا جوعى ولا ينقصنا العيش الرغيد فلم نثور من أجل نقص العيش بل من أجل نقص الكرامة).

إن العامل الاقتصادي رغم أهميته كمؤشر من مؤشرات التنمية البشرية إلا أنه ليس المؤشر الحاسم فيها، فالرفاه الإجتماعي، مثلاً، لا يقاس بمعدلات طول العمرفقط  بل بنوعية الحياة وخلوها من العلل، ومن الناحية الاقتصادية هناك بلدان ذات معدلات دخل منخفضة تتقدم في قائمة التنمية البشرية على بلدان ذات دخل فردي مرتفع، وتقارير التنمية البشرية الصادرة عن صندوق الأمم المتحدة للتنمية تعج بالبيانات والجداول التي تؤيد ذلك.

إن الغرب سوف يصل الى مرحلة نهاية استهلاك هذه الأنظمة  كواجهة  لاستنزاف مقومات الأمة ليصلها دور الربيع الثوري ويكتمل الفصل الأخير من فصول انقضاض المتطرفين الإسلامويين على السلطة والذين سيرفعون الشعارات "الجهادية" المثيرة لرعب الغرب وتعطيه المبرر للهجوم على الأماكن الإسلامية المقدسة.

لقد كانت فضيحة قتل خاشقجي بداية لضعضعة العرش الوهابي الأكبر، ولكن الادارة الأمريكية برئاسة ترامب وجدت مجالاً للابتزاز المالي الكبير، ففضلت ذلك على بقية الخيارات. ونعتقد بأن السعودية وبقية أنظمة الخليج لازالت على الدور.

 

1  أنظر: الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.

2 أنظر: الفقرة الأولى من المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة.

3 - اللجنة العليا للعلاقات الخارجية لحزب صربيا الاشتراكي: موجز برنامج حزب صربيا الاشتراكي، بلغراد 1991 ص 3.(نص عربي).

 4- وهذا يخالف أحكام المادة 51 من اتفاقية فينا 1969 لقانون المعاهدات الدولية.

5 - د. جعفر عبد المهدي صاحب: اتفاقية دايتون، الزاوية، دار شموع الثقافة 2002 ص 78 .

6- المصدر السابق: ص 130.

7  -  نقلا عن: صحيفة غلاس، بلغراد، 30/4/2002.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.