اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

قراءة في رواية (قيلولة) للدكتور سلام حربة// نبيل عبد الأمير الربيعي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

عرض صفحة الكاتب 

قراءة في رواية (قيلولة) للدكتور سلام حربة

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

    كل رواية يكتبها الروائي د. سلام حربة؛ يخوض فيها بامتحان جديد لقدرته على الإبداع، ويكمن ذلك في سحر الكتابة والمفردات التي يستخدمها الروائي حربة من خلال تجربته الطويلة في هذا المجال، فيتحدى نفسه في كل مرة، وفي الحقيقة يدفع ذلك ثمن الإبداع غالباً، إنهُ يموت مراراً من اجل ذلك في حياته. إذاً فهو يكتب كما لو هو يموت غداً، وحينما يحدث له ذلك وقد يعجز عن الكتابة، وهو البلاء الذي يلبى به أكثر من مرة في الماضي، فيرى نفسه معلقاً من رأسه في الفراغ، شاعراً بدنوا أجله، فالروائي سلام حربة يعيش من أجل أن ينجز مشروعه الروائي، وهو أجمل أحلام وآماله.

 

    صدرت عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر في بابل رواية الدكتور سلام حربة تحت عنوان (قيلولة) وهي بواقع (168) صفحة من الحجم الوسط، تضمنت (16) مرحلة من مراحل الرواية، بطباعة أنيقة، وورق آرت جميل، وغلاف ذات لوحة أجمل؛ لم يذكر لأي فنان ولكنها من عمل وحي للتصميم. والرواية تحاكي واقنا المُرَّ أبان التحالف الجبهوي وانفراطه عام 1978م، عندما عقد قادة الحزب الشيوعي العراقي عزمهم على الهروب والخروج من البلاد وترك قاعدته المتمثلة برفاقه، فحكمت حكماً قاسياً على هروبهم، كان الحزب القوة الوحيدة في البلد المؤهلة لوقف الخراب، لكن جبن قادته والهروب دون تفكير لما يؤول له البلد والحزب، فتركوا اعضاءه عزلاً، فتطافر الكبار وتبخروا وتلاشوا في لمح البصر، كانوا ابطالاً بالهروب، لم يصمدوا بوجه العاصفة.

 

    ما يرغب به بطل الرواية الشاعر فرات من الغياب بتجميده بغاز النيتروجين في إحدى مستشفيات بغداد لفترة (40) عاماً تحت اشراف الدكتور مجيد وصديقه الطبيب عظيم؛ عسى ولعل الحال يتغير، فيعود للحياة ويجد أن حال العراق والعراقيين من السيء إلى الأسوأ، من حكومة نظام قمعي دكتاتوري، إلى حكومات لا وطنية تنتمي إلى اتجاهات سياسية طائفية موالية للمحتل الامريكي ولدول الجوار.

 

    أجد في رواية د. سلام حربة الأخيرة (قيلولة)، يرغب فيها الروائي أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. في ص9 يذكر في روايته قائلاً: (ولدنا سوية في محلة الوردية عام 1955م، فرات يسبقني بشهرين ولكن دفاتر نفوسنا تؤشر، كحال معظم ولادة العراقيين، إننا رأينا النور في 1/7/1955... كان أبي لديه علوة للحبوب في الصوب الصغير من مدينة الحلة مركز مدينة بابل وأبو فرات صاحب محل عطارية لا يبعد عن علوتنا سوى مسافة محلات قليلة... سُجلنا في سنتنا السادسة، في مدرسة الفيحاء الابتدائية الواقعة في محلة كريطعة القريبة من محلتنا الوردية). ثم يسرد الروائي حياته وحياة زميله الشاعر فرات بشكل مفصّل كأنه يسرد سيرته الذاتية في تلك الفترة، فالروائي سلام حربة اغلب رواياته تنتمي للمدرسة الواقعية التي تمتّ بصلة طبيعية لواقع مجتمعنا العراقي.

 

    يتساءل هنري ميلر في أحد كتبه: (من هو البطل؟) ثم يعلق: (إنه ذاك الذي يقهر خوفه). كل كتابة حقيقية هي كتابة وجهة ضد الخوف، ولكنها، وهي تفعل ذلك ستثير في الوقت ذاته الخوف عند الكثيرين اللذين لا يجرؤون على الحرية. مثل هذه الكتابة هي تمثل كتابة روايات سلام حربة، فهي لا تثير شكوك الحاكمين وحدهم وإنما أيضاً أعداء كل العاجزين عن الحرية. لأنها تجرؤ على القول بقدرتهم على أن يكونوا أحراراً وإن تخلوا عن خوفهم الذي يفتك بأرواحهم.

 

   يذكر الروائي في ص27 من روايته حياتهم الدراسية إذ يقول: (دخلنا إلى الجامعة عام ثلاثة وسبعين وتسمعائة وألف، فرات قُبلَ بكلية الآداب قسم اللغة العربية وأنا في كلية الطب، لم ننقطع يوماً عن اللقاء، كان يزورني باستمرار إلى الكلية وأنا أبادله الزيارة، كانت المسافة بين كليتينا، ما بين باب المعظم والوزيرية نقطعها بحسبة تأمل أو شطحة خيال واحد من التي تعتري الشعراء والقصاصين وما أكثرها من شطحات). فالروائي يجسد في روايته حياته الجامعية وتطلعاته أن يكون روائياً مستقبلاً فضلاً عن مهنة الطب، كذلك فرات الذي يتطلع إلى أن يكتب قصائده كشاعر يحمل هموم أبناء بلده.

 

    وبعد تخرجهما تبدأ طبول الحرب بالعزف الدائم على الحدود العراقية الإيرانية، في ص48 يذكر الروائي قائلاً: (طبول الحرب في عزف دائم على الحدود بين العراق وإيران بعد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وقيام الدولة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني. لقد حاول الطرفان التنصل من كل المعاهدات والاتفاقيات التي كانت بينهما ومنها معاهدة الجزائر بين الطرفين عام 1975م والتي بسببها انتهى التمرد الكردي في شمال العراق).

 

    يؤكد الروائي في روايته على الأحداث التي مرت على العراق ومنها التمرد الكردي والحرب العراقية الإيرانية التي حدثت بسبب تأزم العلاقات بين البلدين، فالرواية توثق مرحلة مهمة من تاريخ العراق.

 

    كانت رغبة فرات أن يغيب عن البلد فترة (40) عاماً كي يبتعد عن المعاناة التي يعيشها في ذلك المجتمع كونه شاعر ويحمل الفكر الماركسي وأحد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، مما اقترح عليه صديقه الطبيب عظيم أن يجمّد جيلاً كاملاً، لأنه يعتقد أن الشاعر فرات يسبق الآخرين جيلاً كاملاً، في ص51 يؤكد له قائلاً: (لقد اتفقت مع استاذي في المستشفى الدكتور مجيد أن نجمدك أربعين عاماً، أي ما يعادل جيلاً كاملاً، ثم نعيدك إلى الحياة، أكيد في الزمن القادم ستكون أكثر سعادة، والناس تفهمك وتتغنى بأشعارك). وافق فرات على تلك التجربة وأثبت له صديقهُ بنجاحها ودليل ذلك حيث تُحفظ الانسجة والحيوانات المنوية والبيوض في غاز النيتروجين، وفي الخارج أجريت على البشر ونجحت. وكان فرات يتوقع أن يعود للحياة بعد أربعين عاماً حتى الصحة ستكون غير التي هي الآن، قد تختفي الأمراض ويعمر الإنسان أكثر، فالتاريخ يمضي دائماً إلى أمام، وفرات على يقين ستكون الحياة مختلفة والمجتمع سليماً، وقد لا يحتاج إلى الطبيب ولا إلى القاضي لأن المجتمعات جميعاً تعيش بسلام، لا حروب ولا أمية ولا استغلال. فتم تحديد الأول من حزيران من عام 1980م موعداً لإجراء التجربة، وهو تاريخ معروف لدى العراقيين بيوم تأميم النفط من قبل الحكومة العراقية، وقد جمع الروائي هذا التاريخ كتجربة لمشروع التأميم مع مشروع تجربة التجميد في ذلك اليوم كما اعتقد.

 

    ودّعَ فرات عائلته المتكونه من الأخ جاسم وأخت هدى ووالديه قبل أن يجمد بغاز النيتروجين، ثم ودّع من كان يرعاهم ويساعدهم مادياً وهم كلٍ من: جابر السماك والد حامد المنغولي، كما ودع أم طارق الخبازة وولدها المعروف بخفة يديه في السرقات طارق، كما ودع شيخ مسجد الوردية الشيخ سلمان الذي علمه كيفية زرق الأبر كي يكون مصدراً آخراً يساعده في المعيشة. كان فرات قد حسم أمره لإجراء التجربة وهو يبحث عن عالم أكثر نظافة من العالم الذي يعيش فيه.

 

    فرواية (قيلولة) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي سلام حربة بعد عام 2003م، ذلك العالم المجهول بعد الاحتلال الأمريكي، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (فرات)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص. ففي ص5 يذكر الروائي في روايته قائلاً: (الزهو المفرط بأنفسهم شعارهم الدائم الوحيد وإن كانت الأرض تدور على قرن ثور كما هو سائد في الميثيولوجيا الدينية فهم يصححون الأمر ويقولون إن الأرض تدور على قرن ما يهوون ويرغبون ويقتنعون به، يعتقدون أن كلامهم لا يأتيه الباطل لا من قريب ولا من بعيد بل هو الحقيقة بعينها إن تجسدت الحقيقة كلاماً يوماً ما، هذا ما يفكر به النرجسيون والطغاة والملوك والقادة المتجبرون وحتى المرضى النفسيون). نجد في هذا النص يعاني الروائي من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. وبطل الرواية الشاعر فرات هو من الشعراء الذي يعاني من واقعه المُر بسبب عدم تفهم قصائده من قبل الآخرين، فيعيش المحنة والانعكاف. ففي ص6 وما بعدها يدور حوار حول قصائده فيقول له الرائي: (فرات، أنت إنسان وشاعر كبير ليس هذا ما أقوله أنا بل هو ما اجمع عليه كبار النقاد، ولكن ما يميز شعرك أنه مكتوب بلغة فلسفية عالية وبألفاظ لا يفهمها إلا الأدباء والمثقفون، أما بسطاء الناس فأن هذا الشعر يبدو لهم كالطلاسم، هذا ما يقوله النقاد وهم يتناولون شعرك بالفحص والدراسة والتفكيك). وما أكثر الشعراء اليوم من يكتب بالطلاسم ولا يفهمهُ حتى المثقفون والأدباء.

 

    ومع ذلك فإن الروائي سلام حربة لا يستطيع إلا أن يكتب. إنه قد يكتب لنفسه قبل كل شيء ولكن طموح الاعتراف بموهبته لن تفارقه، وهو اعتراف يظل في الحقيقة أبعد من طموح الحصول على المال، يتعلق بالمعنى الذي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ومهما بدا زاهداً بالمجد فإن المجد يأتي تالياً للاعتراف به (أنت شاعر كبير ولكني أرى أنك خلقت في الزمن الخطأ، أنت تعرف موقف السلطة الجاهلة منك كونك ضيفاً لدائرة الأمن بعد كل قصيدة تنشرها أو صولة ضد من يشتبهون بمعارضتك لهم، أنت تسبق الآخرين جيلاً كاملاً، من حق الآخرين أن لا يفهموا أشعارك).

 

    فالأدب الروائي قبل كل شيء يجب أن يكون أدباً حقيقياً. وحين يكون كذلك يكون للشعب أيضاً. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين.

 

    يذكر الروائي في روايته (قيلولة) في ص93 ما آل إليه بطل الرواية الشاعر فرات بعد أن يخرج من ذلك التجميد ليرى ما حصل بعد أربعين عاماً من التجميد بمادة النيتروجين حيث يقول الطبيب عظيم صديق الشاعر فرات: (اليوم الأول من حزيران عام 2020م حضرت إلى المستشفى مبكراً، وقد استوطنت وجهي، لا تفارقني طيلة اليوم، كمامة زرقاء بسبب جائحة كورونا التي غزت العالم منذ حوالي تسعة أشهر. عند باب قسم الولادة والعقم والأعضاء البشرية وجدت العشرات من مراسلي القنوات الفضائية... يصطفون عند باب القسم وهم مدججون بكاميراتهم الحديثة ويحملون بأيديهم ناقلات الصوت المعممة رؤوسها بأسماء القنوات التي فاق عددها الخمسين قناة. ما أن رأوني مقبلاً على القسم حتى هرعوا نحوي وهم يوجهون الأسئلة حول ساعة خروج الكائن الحجري). هذه الصورة ينقلنا فيها الروائي لما حدث بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وفوضى القنوات الفضائية وكثرة عددها، وانتشار فايروس كوفيد 19 (كورونا). ويطلق مراسلو القنوات الفضائية على الشاعر فرات (الكائن الحجري)، لكن لا يعرف هؤلاء ما سيصدم به فرات لواقع حال العراق، فينقلنا الروائي سلام حربة إلى الواقع المأزوم الذي نعيشه، وقد يصطدم به الشاعر فرات بعد أربعين عاماً من الغياب وتتبدد أحلامه.

 

    ما يهم الروائي سلام حربة ليس الشهرة ولا حتى المجد الذي تجلبه الظروف الطارئة، كما هو عليه الأمر في عالمنا، وإنما قناعته هو نفسه بالعمل الذي يكتبه. ويشكل موضوعة الرواية في مجال الضحية والجلاد جوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. إذ كل رواية جديدة للروائي سلام حربة في الحقيقة هو امتحان جديدي لقدرته على الإنجاز.

 

    ينقلنا الروائي إلى حالة ممن تركهم فرات بعد رحلة أربعين عاماً من التجميد وكيف تحولت أحوالهم من حال إلى حال، وهو يصفهم بأسماء وهمية لقيادات تحكم العراق اليوم تحت ظل اسماء احزاب أصبحت لها سطوة على مؤسسات البلد، كما ينقلنا في ص107 وما بعدها إلى حال العراق قائلاً: (البنايات الجديدة التي نبتت على أكتاف الشوارع المغلقة بقطع الكوبوند المعدني وألوانها القبيحة التي تؤذي العين ويلوث معمارها الرديء البصر. أعداد السيارات الخرافية التي يفوق عددها عدد البشر. مظهر الناس غريب لحى كثة في وجوه الرجال وملامح غائمة بالحزن... ما أثار استغراب فرات أنه لم ير أحداً في الشارع يتأبط كتاباً. أما النساء فأنهنّ أكوام من ظلام تمشي على الأرض تلف أجسادهنّ العباءات السوداء... تبدو النساء كأسراب موتى يُبعثنّ على خشبة المسرح... هاتف ظهر في بداية القرن الواحد والعشرين تستطيع أن تتصل به في كل أنحاء العالم... الشوارع هي هي لم تتغير بل العكس فأنها شاخت وامتلأت بالحفر وزينت أكتافها الأوساخ والقمامة... حال الطبيبات اللواتي اعتدن على مشاهدة مئة مريضة في اليوم لا وقت لديهن للابتسامات والمجاملات، بل قد نسينها في زحمة العمل في المستشفى والعيادة... هربت النوارس واللقلق المسن الذي تركه وحيداً على ساعة البلدية... مرغت هيبة الدولة بالوحل... دولة خاوية أهرق الكارهون والعملاء زيت قوتها وجبروتها... انهيار الاتحاد السوفياتي وتسيّدت امريكا على العالم... تمزق النسيج الاجتماعي بالأحقاد المذهبية والعرقية... ها هي منارة الكفل. أخبرته أن هذا المَعلم اليهودي القديم أصبح بعد عام ألفين وثلاثة مسجداً إسلامياً). كل ما ذكره الروائي سابقاً وما شاهده الشاعر فرات العائد من الانجماد كان يحلم فيها بالعودة إلى النيتروجين ولا يرى بلده على هذا الحال هو حقيقة ما نعيشه وليس خيال.

 

    ثم ينقلنا الروائي إلى حال الأشخاص الذين كان يعطف عليهم الشاعر فرات ويساعدهم مادياً قبل أن يجّمد في غاز النيتروجين، في ص138 وما بعدها يذكر الروائي قائلاً عن لسان صديقه الطبيب عظيم: (أعلم ما تفكر به الآن، أحاول أن أريك مصير الأشخاص الذين يزدحمون في ذاكرتك (تأمل فرات الصور الكبيرة المنتشرة على جدران البيوت في المحلة (الوردية) وجلب انتباهه أن ابناء المحلة طبعوا نفس الصورة على فانيلاتهم البيضاء ونقشوها على جلودهم وقريبة من نبض قلوبهم... دكتور عظيم أين نحن ذاهبان؟ ( الجواب) لزيارة حامد في منزله)، حامد هو الشخصية التي كان يعطف عليه فرات ويساعده مادياً سبعينيات القرن الماضي، بعد لقاء فرات معه تنكر حامد المنغولي لمعرفته به قائلاً (حبيبي لا اتذكره يومياً يأتي لزيارتي آلاف الأشخاص... حبيبي أخبر المكتب مالي اشتحتاج وآني أحاول اساعدك، يبدو عليك مسكين، منظرك يبكيني)، كان جواب حامد المنغولي لفرات وتنكره لمعرفته. أما طارق السارق ابن الخبازة فقد زاره فرات مع الدكتور عظيم، الذي كان فرات يعطف عليه أيام طفولته اصبح اليوم مسؤولاً ومشرفاً على أموال البلد ووزارة المالية، يذكر الروائي في ص148 قائلاً: (لا يخرج دينار من الخزينة دون أن يكون له حصه فيه. هو يعيش في العاصمة ولكنه يأتي إلى مدينة الحلة بين الحين والآخر لزيارة زوجته الثانية التي تسكن في أحد قصوره الباذخة). انها حالة يوثقها الروائي لما آل إليه البلد بشكل روائي، ففي ص150 يذكر الروائي على لسان ابن الخبازة طارق السارق قائلاً: (أين أبي وأمي الفاضلة التي كانت توزع أكلها إلى الجياع من جيراننا. أمي لم تنم يوماً وهناك بطن جائعة... إنها لا تقل شأناً عن ماما تيريزا، دام كوري، انديرا غاندي لو لا الجاحدون لحصلت ربما على جائزة نوبل كأعظم امرأة). ويقصد الروائي بالنص السردي (كانت توزع أكلها إلى الجياع من جيراننا)، هو عملها كخبازة وتبيع الخبز على عوائل المحلة، فأي تسويف للحقائق في هذا الزمن.

 

    وينقلنا الروائي إلى حال شيخ مسجد الوردية الشيخ سلمان كيف تبدل حاله من حال إلى حال، كان فرات يحمل همّ هذا الشيخ كيف سيعيش أبان التسعينيات حتى علمه كيفية زرق الأبّر للمرضى كي يعيش، حيث انتخب رئيساً للوزراء وهو اليوم يسكن كرادة مريم في بغداد، يذكر الروائي في ص156 قائلاً: (شيخ سلمان أصبح رئيس الوزراء. هل تعّلم معك زرق الأبّر... أصبح وكيلاً للأمن في زمن النظام السابق وكتب تقارير عن الذين يصلّون في المسجد واستلم راتباً آخر مدعياً أنه مصاب بمرض نفسي، تم ارساله للعلاج في الخارج وكان محط رعاية السفارة العراقية. بقيّ هناك لفترة نقاهة وحين سقط النظام ادعى أنه سياسي مطارد... بعد 2003 لم أره إلا وهو رئيس للوزراء... الفقير الجاهل الذي لم يحز في حياته ديناراً واحداً ويسمع بالدولار ولم يره وفجأة تسلمه خزائن بها عشرات المليارات من الدولارات، سيصاب بالشيزوفرينيا وعدم الاتزان، سيبقى شاعراً بالفقر والعوز ولن تَغنيّه أموال الدنيا كلها ويتصرف في مواقف كثيرة كأي متسول).

 

    في روايته سلام حربة يقدم ثلاثة نماذج تطبيقية فريدة من السياسيين العراقيين. ومن روايته (قيلولة) التي يتكون عنوانها من كلمة واحدة، حيث اعتاد الروائي على استخدام عناوين تتكون من أكثر من كلمة، وإذا ما طال العنوان كلما كان الروائي قلقاً من ناحية إيصال فكرته الأساسية في الرواية إلى القارئ من ناحية، وكتعبير عن الدقة المفرطة التي تتستر خلفها مخاوف الشعور بالتقصير من ناحية أخرى. وهو هنا يقوم بتصغير المعضلة التي تنتظرنا من خلال استدراجنا ببعض لنفاجئ مع توغلنا في مسار النص السردي إننا أمام جبل هائل من الهموم المميتة التي تحاصر الشاعر فرات صديق الراوي. والرواية تسرد بضمير لنا رغم أن البطل الفعلي هو الشاعر فرات والراوي.

 

    إن الحدّة الوصفية لطريقة حركة لسان صديق الشاعر فرات كمبضع يسري في لحم الأيام، وكنصل يشق وجه الماء تسهم في تهيئة استعدادنا النفسي لاستقبال ضربات الآلام المقبلة. ولو امعنا النظر في هذا الوصف فسنجد الانتقالة الموفقة التي تحقق من خلال التناقض بين فعل استعادة الصديق فرات لكتلة جسمية من الانجماد في غاز النيتروجين الخانقة والموجعة، وبين عودته كصديق للحياة وانفلاته بالحكي المحموم الذي ينطلق انفجارياً وببساطة تشبه السهولة التي يشق بها النصل وجه الماء.

 

    من عادة سلام حربة أنه لا يترك ثيمّة أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (قيلولة).

 

    هذا السياق الذي يفرضه تبلّد شعور الشاعر فرات الذي يوصله إلى توقعات قاتمة تتسق مع خواء وجوده ولا اكتراثه بسبب غيابه الطويل عن ما يحصل في الواقع، في حين أن تكشف الحقائق أمامه كرجال فاسدين يسرقون باسم الدين، يأتي كرجفة حسيّة حياتية ملتهبة تجهض بلادة الاستجابة. لكن السمّة التأملية لما يحدث في واقع الحال بعد عام 2003م هي من أهم خصائص السمات الأسلوبية لسلام حربة في خصائص الفن السردي بوضوح باهر في روايته. ولعل ما يميّز الرواية كجنس سردي إبداعي من الفنون السردية في سعة التأمل لتتحول الرواية إلى سرد فوتوغرافي خارجي في فن الرواية، فهو روائي ومحلل نفسي إذا ما جاز التعبير.

 

    وما يميز الرواية هو التداعيات التأملية الدفينة التي تعكس موقف الإنسان من الحياة والمجتمع والوجود، واستجاباته الانفعالية العميقة تجاه التحولات التي تجتاح كيانه، وتحاول تهشيم أواصر ارتباطاته بالآخرين والمحيط.

 

    بعد هذا الموجز مما تركه الشاعر فرات في غيبوبته في التجميد بدأ يلوم نفسه، ففي ص160 يقول الروائي على لسان فرات: (لو لم أهرب أنا في بطن العلم والآخرون إلى الخارج وتركنا البلد فارغاً لهؤلاء اللصوص لما أصبح حامد المنغولي مَثَّل البلاد الأعلى في العقيدة والفكر، ولن يقدر طارق أن يضع يده على خزائن البلد، ولن نسمح لسلمان أن يقود البلد لأكثر من دورة رئيساً للوزراء، وهو مريض ووكيل أمن. يجب أن أعدم وفي ساحة عامة كي أكون درساً لكل من يهرب بجبنه ويتجرد عن وطنه... الخلل فيَّ وليس في الناس. كان يجب أن أكتب بوعي الناس وبلغة يفهمونها، لا مترفعاً عنهم وشِعري زخرفة ألفاظ. الشعر ليس بالإبهام، الشعر روح، وروح الشعب حيّة وبسيطة وليست معقدة تعرفها من نظرات عيونهم السمحة.. أنا شاعر فاشل ولا استحق الحياة).

 

    ثم ينقلنا الروائي على ما حصل في العراق من احداث من مطالبة بعض النساء بقانون أحوال شخصية جديد يدعو إلى عصر الرق والعبودية، وخروج جموع من المتظاهرين في بغداد والمحافظات للمطالبة بالإصلاح في تشرين 2019، حتى وصل حال فرات إلى أن يشنق نفسه في مروحة غرفته بيت أهله. ففي ص 168 يذكر الروائي حال فرات عن لسان أخته هدى طليقة صديقه الطبيب عظيم: (دخلت نظرت إلى سريره الفارغ لكن ظلاله السوداء صفعتني وهو يتأرجح مشنوقاً متدلياً من مروحة الغرفة برقبة طويلة كرقبة بعير ووجه أزرق كامد من الاختناق ولسانه يتدلى طويلاً من فمه يسخر من حياة خسرها في السابق ومن موته الشنيع الذي لن يرثيه أو يتذكره أحد بعده).

 

     والروائي سلام حربة يصل بروايته (قيلولة) مستواً هائلاً في مجال قلب الظاهرة البسيطة على وجوهها المختلفة التي تتيح له مساحتها السردية بحرية كافية. لكنه لا يفّوت أي فرصة يظفر بها في روايته ليقدم تأملاً سريعاً عميقاً لا يؤثر في كثافة النص وتركيزه في الرواية كجنس مغاير محكوم بمحدودية المكان والزمان ومساحة التداعيات.

 

    وفي النهاية يدعو الروائي سلام حربة إلى انتحار بطل الرواية فرات بسبب ورود أفعاله النفسية تجاه محنته، فينبغي عليه أن يموت استجابة لضرورات أمنية ترتبط بسلامة أفراد عائلته في وطنه. ويضاعف هذا الموقف النفسي المدمر حالة الموت الداخلية المفزعة التي بات يشعر بها تدريجياً وهي تنسج شبكتها العنكبوتية السوداء شيئاً فشيئاً حول وجوده الهش في بلده.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.