اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• في الاشتراكية العلمية، لا مجال لتوظيف الدين في الأمور الأيديولوجية، والسياسية

محمد الحنفي

في الاشتراكية العلمية،

لا مجال لتوظيف الدين في الأمور الأيديولوجية، والسياسية

محمد الحنفي

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

إلى:

ـ الرفيق الكبناني، المناضل الطليعي.

ـ كل طليعي، يحرص على أن تصير الاشتراكية العلمية، اشتراكية علمية، وليست شيئا آخر.
ـ كل من اقتنع بالاشتراكية العلمية، ووظف منهجها العلمي، في التعاطي مع الواقع، بعيدا عن كل ما لا علاقة له بالعلم، بمعناه الاشتراكي العلمي.

ـ كل من تعامل مع الدين، أي دين، على أنه شأن فردي، ولا يمكن أن يصير غير ذلك.

ـ كل من يحرص على أن يصير الدين الإسلامي، كمعتقد فردي، متحررا من الأدلجة.

ـ من أجل مجتمع بعقل علمي.

ـ من أجل دين بلا أدلجة.

ـ من أجل إنسان متحرر، وبعقل علمي، يمكنه من الاختيار الحر، والنزيه.

ـ من أجل مغرب متحرر، وديمقراطي، واشتراكي.

محمد الحنفي.

تقديم:

في حديث مع أحد الرفاق، حول ما أنشره على حلقات، تحت عنوان (الإيمان، والإسلام، لا يعبر عنهما بالشكل..... !!!)، اختلفنا حول القول: بأن من حق أي كان، من المسلمين، أن يستغل الدين الإسلامي أيديولوجيا، وسياسيا. فكان رأيي الذي أدافع عنه في كتاباتي، أن الدين الإسلامي، هو لجميع المسلمين، لا يجب أن يستغل في الأمور الأيديولوجية، والسياسية، من منطلق: أن الإعلانات، والمواثيق، والاتفاقيات الدولية، المتعلقة بحقوق الإنسان، لا تسمح بذلك، لكونه يقف وراء انبثاق الطائفية، حتى وإن كانت تلك المواثيق، من وضع الغربيين، كما يدعي ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي، وما هو من وضع غربي، يتناقض مع خصوصيتنا، وقيمنا، كمجتمع إسلامي، كما يدعون ذلك أيضا، فكأن العلاقة القائمة بيننا، وبين الغرب، هي علاقة قطيعة أبدية، وكان المشترك الإنساني، غير قائم في الواقع الإنساني، ليتوقف الحديث العابر بيني وبين الرفيق، الذي أعزه، وأحترمه، ليتبلور بعد ذلك، في ذهني موضوع:

(في الاشتراكية العلمية، لا مجال لتوظيف الدين، في الأمور الأيديولوجية والسياسية.....).

وهذا الموضوع، يتطلب منا المعالجة المتأنية، التي نسعى إلى أن تكون دقيقة، حتى نعمل على ترسيخ الاقتناع بالاشتراكية العلمية، كوسيلة، وكهدف، كما يقول الشهيد عمر بنجلون، في التقرير الأيديولوجي، ونسعى إلى أن يصير المنهج الاشتراكي العلمي، يحكم مسارنا الفكري، في العلاقة مع الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، من أجل أن نعمل على إنتاج فكر علمي دقيق، يجعل الواقع الذي نحتك به واضحا، والعلاقة به واضحة، من أجل العمل على تغييره إلى الأحسن، حتى يصير في خدمة العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، ممنهجا، وهادفا، وممرحلا، انطلاقا من برنامج يحدد الأهداف القريبة، والمتوسطة، والبعيدة، التي يعمل المناضلون الأوفياء للاشتراكية العلمية، ولشهداء الطبقة العاملة على تحقيقها.

وسعيا منا إلى معالجة الموضوع، معالجة علمية دقيقة، فإننا نحرص على أن نتناول بالتحليل:

1) مفهوم الاشتراكية.

2) مفهوم العلمية.

3) العلاقة بين الاشتراكية، والعلمية.

4) المنطلقات العلمية، واللا علمية، في علاقة الفكر الإنساني بالواقع.

5) الاشتراكية العلمية، لا يمكن أن تكون منطلقاتها إلا علمية.

6) المنطلقات اللا علمية منطلقات تاريخية.

7) المنطلقات العلمية، منطلقات واقعية.

8) الدين، والتوظيف الأيديولوجي، والسياسي، بين العلمية، واللا علمية.

9) الدين الإسلامي، وتعدد التوظيفات الأيديولوجية اللا علمية.

10) خلاصة عامة.

وأثناء تنالنا لهذه العناصر، المشار إليها، بالتحليل، فإننا سوف نحرص على أن نسبر غور الموضوع، مع الحرص على علمية التحليل ما أمكن، من أجل وضوح الرؤيا لدى القارئ الكريم، وصولا إلى خلاصة تستجيب للغاية من طرح هذا الموضوع، للنقاش الهادف، والمتأني، من العمل على ترسيخ قناعات معينة لدى كل القراء، والمتتبعين، لدرء المغالطات التي تطرح في الساحة، حول رؤيا الاشتراكيين العلميين للدين الإسلامي، ورؤيا مؤدلجي الدين الإسلامي لهذا الدين، الذي تحول إلى مجرد مجال للاستغلال الأيديولوجي، والسياسي، بدل أن يبقى مصدرا للقيم الإنسانية النبيلة، المستمدة من النص الديني، في أفق أن يعود الدين الإسلامي شأنا فرديا، كما كان: (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر)، وأن يصير الواقع معالجا بالرؤى العلمية الدقيقة، حتى يصير في خدمة جميع الناس، مهما كان لونهم، أو جنسهم، أو معتقدهم، أو الطبقة التي ينتمون إليها، في إطار دولة مدنية، علمانية، ديمقراطية، تحرص على التوزيع العادل للثروة الوطنية، بين جميع أفراد المجتمع.

مفهوم الاشتراكية:

ونحن، عندما ندرج مفهوم الاشتراكية للنقاش، لا بد من استحضار مفهوم التحرير، ومفهوم الديمقراطية، نظرا للعلاقة الجدلية القائمة بين الاشتراكية، والتحرير، والديمقراطية.

فإذا كانت الاشتراكية تعني، ببساطة، تحقيق التوزيع العادل للثروة الوطنية، فإن ذلك التوزيع العادل للثروة الوطنية، لا يتم إلا في إطار مجتمع متحرر، وديمقراطي. والمجتمع المتحرر، لا بد أن تتحول فيه ملكية سائل الإنتاج، والمؤسسات الخدماتية، إلى ملكية اجتماعية، والملكية الاجتماعية، لا تأخذ دلالتها، ومعناها الحقيقي، إلا في إطار مجتمع ديمقراطي، حقيقي. والديمقراطية لا تكتسب معناها الحقيقي، إلا باتخاذها أبعادا اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية.

فالاشتراكية، إذن، لا تتحقق إلا بتحقيق تحرير ملكية وسائل الإنتاج الصناعية / الخدماتية، من الملكية الفردية، لتصير ملكية جماعية، وهي لا تتحقق، كذلك، إلا بتحقيق الديمقراطية، بمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية. والتحرير لا يأخذ مداه الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، إلا بتحقيق الاشتراكية. والديمقراطية، كذلك، لا تأخذ دلالتها الحقيقية، إلا بتحقيق التحرير الكامل، من كل أشكال العبودية، والاستغلال، وتحقيق الاشتراكية.

فالعلاقة الجدلية القائمة بين التحرير، والديمقراطية، والاشتراكية، كما أبدعها الشهيد عمر بنجلون، في تقديم التقرير الأيديولوجي، أمام المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، تعتبر مسألة أساسية، ومركزية، مما يجعل أي حديث عن الاشتراكية، دون ربطها ربطا جدليا بالديمقراطية، وبالتحرير، يبقى حديثا يفتقر إلى العلمية، كما أن الحديث عن التحرير، دون ربطه ربطا جدليا بالديمقراطية، وبالاشتراكية، يفتقر، كذلك، إلى العلمية، والحديث عن الديمقراطية، دون ربطها ربطا جدليا بالتحرير، وبالاشتراكية، يفتقر كذلك إلى العلمية.

ونحن، عندما نكون علميين، في حديثنا عن الاشتراكية، لا بد أن نربطها ربطا جدليا بالتحرير، وبالديمقراطية، وبالمضامين التي أشرنا إليها.

ولذلك، فالاشتراكية، هي التوزيع العادل للثروة المادية، والمعنوية، في إطار مجتمع تحررت فيه ملكية وسائل الإنتاج الصناعي، والخدماتي، من الملكية الفردية، بصيرورتها ملكية جماعية، تصير خيراتها الإنتاجية، والخدماتية، في خدمة جميع أفراد المجتمع، الذين يتمتعون بالديمقراطية، التي تتخذ أبعادا اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية.

وهذا الفهم الذي تأخذه الاشتراكية، هو الذي يجب أن يسعى المناضلون الاشتراكيون، إلى تحقيقه على أرض الواقع، وفي إطار وحدة اجتماعية متماسكة، محكومة بدولة ديمقراطية / علمانية متحررة، تحرص على جعل الاشتراكية هما يوميا، على المستوى الوطني، والقومي، والعالمي.

وهذا الفهم، كذلك، لا يلغي الملكية الفردية، التي يجب أن ترتبط بالحاجيات الضرورية للحياة، والتي يجب أن تبقى بعيدة عن ملكية وسائل الإنتاج الصناعية، والخدماتية، التي يجب أن تصير ملكا للمجتمع برمته، الذي يجب أن يحرص على حمايتها من التلف، ومن الانزياح في اتجاه تحويلها إلى ملكية فردية.

كما أن هذا الفهم للاشتراكية، لا يلغي ضرورة تمتيع جميع الناس، بجميع الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، باعتبارها تجسيدا لقيم الاشتراكية، التي تكرم الإنسان. وتكريم الإنسان، لا يتم إلا بتمتيعه بحقوقه، التي تقتضيها طبيعة وجوده.

والاشتراكية، باعتبارها توزيعا عادلا للخيرات المادية، والمعنوية، التي ينتجها المجتمع، بين جميع أفراده، تقتضي الحسم النهائي، مع كافة أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي، التي تستهدف الطبقة العاملة، وباقي الأجراء، وسائر كادحي المجتمع، والاستعاضة عن ذلك الاستغلال، بالملكية الجماعية، لكل وسائل الإنتاج، التي يجب أن يسود فيها مبدأ:

"على كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته".

حتى لا تؤدي التعويضات الخيالية، المسلمة في الدولة الرأسمالية، إلى قيام فوارق طبقية مهولة في المجتمع الاشتراكي، وفي ظل قيام الدولة الاشتراكية.

والحسم مع كافة أشكال الاستغلال في الاشتراكية، يقتضي رسم حدود الملكية الفردية، وحدود المسؤوليات، وإخضاع تلك المسؤوليات إلى الرقابة الجماعية، حتى لا تتحول إلى وسيلة للإثراء السريع، ولنهب ثروات الشعب، وللارتشاء، والمحسوبية، والزبونية، وغيرها من الأمراض، التي نخرت الكيان الاشتراكي، في الاتحاد السوفياتي السابق.

ومفهوم الاشتراكية، كذلك، يحتوي مفهوم العدالة بمعناها الواسع، بما فيه العدالة الاقتصادية، والاجتماعية، المتضمنة في إطار التوزيع العادل للثروة المادية، والمعنوية. إلا أن مفهوم العدالة بمعناها البورجوازي، الذي يبقى مسجونا في إطار حقوق الإنسان، بمعناها البورجوازي، لا يمكن أن تحتوي مفهوم الاشتراكية، من منطلق أنها تتناقض تناقضا مطلقا، مع الرأسمالية كنظام تنتعش فيه البورجوازية، التي لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الإنسانية، مهما ادعت احترامها لحقوق الإنسان.

والاشتراكية، كذلك، تقتضي بناء نظام اشتراكي، تنتفي فيه الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وتسود فيه الملكية الجماعية لتلك الوسائل، وتتحقق في إطاره الحرية، والديمقراطية، بالمعنى الاشتراكي، وتصير فيه إنسانية الإنسان مقدسة، وتتبوأ فيه حقوق الإنسان، بمعناها الاشتراكي، مكانة متميزة، يكون فيه هذا النظام محكوما بدولة ديمقراطية تقدمية، يسارية، علمانية، عمالية، تتعايش في إطارها جميع المعتقدات، واللا معتقدات، وجميع اللغات، واللهجات، التي تتفاعل فيما بينها، في إطار التعدد الذي يحقق الوحدة: وحدة الشعب، أو الشعوب، وحدة النظام الاشتراكي، على مستوى القطر الواحد، وعلى المستوى العالمي، ووحدة الدولة الاشتراكية، ووحدة التوزيع العادل للثروة المادية، والمعنوية، تجسيدا لوحدة الإنسان.

وفي ظل الدولة الاشتراكية، وحرصا منها على تأطير المجتمع، المحكوم بالنظام الاشتراكي، فإن هذه الدولة، لا بد أن تسمح بقيام التنظيمات النقابية، والجمعوية: الثقافية، والحقوقية، والتربوية، والترفيهية، التي ترسم لها حدود عملها، المتناسبة مع النظام الاشتراكي، حتى لا تصير وسيلة للانزياح في اتجاه تحويل هذا النظام، إلى نظام رأسمالي، كما حصل في الاتحاد السوفياتي السابق، وفي المنظومة الاشتراكية، التي كان يشرف عليها، ومن أجل أن تصير النقابات، والجمعيات، وسيلة لحماية النظام الاشتراكي.

وبذلك، يتبين أن مفهوم الاشتراكية، يقوم في إطار علاقة جدلية بين التحرير، والديمقراطية، والاشتراكية. وهو ما يفرض: أن النضال من أجل تحقيق الاشتراكية، هو في نفس الوقت، نضال من أجل تحقيق التحرير، والديمقراطية، وصولا إلى تغيير ملكية وسائل الإنتاج، من الملكية الفردية، إلى الملكية الجماعية، التي يتحقق في إطارها تمتيع جميع أفراد المجتمع الاشتراكي، بحقوقهم الإنسانية، بمعناها الاشتراكي، من أجل وضع حد لكافة أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي، لتحقيق العدالة بمعناها الواسع، بمعناها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، في ظل إقامة نظام اشتراكي، محكوم بدولة اشتراكية، ديمقراطية، تقدمية، علمانية، يسارية، عمالية، تتساوى في إطارها جميع المعتقدات، وتسمح بقيام تنظيمات نقابية، وجمعوية، ترسم لها حدود عملها، بما يتناسب مع المحافظة على النظام الاشتراكي، وحماية الاشتراكية من الانحراف، في اتجاه عودة الرأسمالية.

مفهوم العلمية:

بعد مناقشتنا لمفهوم الاشتراكية، التي لا تتحقق إلا بتحقق الملكية الجماعية، والاجتماعية، والمجتمعية، لوسائل الإنتاج، في ظل قيام نظام اشتراكي، تحكمه دولة اشتراكية، تقدمية، ديمقراطية، مدنية، علمانية، تحرص على تكريس احترام إنسانية الإنسان، نأتي إلى مناقشة مفهوم العلمية.

فالعلمية ،نسبة إلى العلم. والعلم، هو مجموع النتائج، التي يتم التوصل إليها، عن طريق توظيف قوانين معينة، في مجال معين، من المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والرياضية، والفزيائية، والطبيعية، وغيرها من المجالات، التي توظف فيها القوانين العلمية، لإنتاج المزيد من المعرفة العلمية، التي تصير في خدمة الإنسانية.

والمعرفة العلمية، تختلف عن المعرفة التاريخية، التي تعتمد الوثائق التاريخية المختلفة، وتفسيرها، واستنتاج ما يجب استنتاجه منها، والقيام بمقارنتها بأحداث تاريخية أخرى، مشابهة لها، وقعت في نفس الزمان، ونفس المكان، أو وقعت في نفس المكان، مع اختلاف الزمن، الذي وقعت فيه، أو اختلفت عنها زمانا، ومكانا.

كما أن المعرفة العلمية، تختلف عن المعرفة الأدبية، التي تهتم بدراسة النصوص الأدبية، وتصنيفها، وبيان إيجابياتها، وسلبياتها، وعلاقتها بأوجه الواقع الاجتماعي، وأثرها على المسار الاجتماعي، والفكري، والأدبي، وما مدى عمق الرؤى الأدبية لما يجري في الواقع، أو لما جرى فيه بالنسبة للنصوص الأدبية التاريخية، وما مدى التفاعل القائم بين النصوص الأدبية، وأوجه ذلك التفاعل، وإلى أي حد يصير الواقع متفاعلا مع مختلف النصوص الأدبية، شكلا، ومضمونا، وهي المؤثرات الكبرى، التي تقف وراء صياغة نص أدبي معين، وما علاقة النصوص الأدبية بالمعرفة العلمية، والمعرفة الأدبية، والمعرفة النقدية، والمعرفة التاريخية، والمعرفة الفلسفية، والمعرفة القانونية، والمعرفة السياسية، والمعرفة الاقتصادية، والمعرفة الاجتماعية، والمعرفة الثقافية، وغيرها مما تهتم به المعرفة الأدبية، ما دام النص الأدبي يمكن له أن يحيل إلى بعض ذلك، أو كله.

وتختلف المعرفة العلمية، كذلك، عن المعرفة الفلسفية، كتاريخ، وكموضوعات، والتي تهتم أساسا بطرح السؤال الفلسفي، الذي يقتضي إعمال العقل الفلسفي، من أجل استنتاج الجواب، الذي قد يعتبر علميا، يترتب عنه سؤال فلسفي آخر. ذلك أن المعرفة الفلسفية، التي تهتم بدراسة الأفكار الفلسفية، وتطورها عبر العصور، ودورها في إنتاج المعرفة العلمية بالواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، وبالطبيعة، وغيرها، لكونها وقفت وراء اكتشاف المزيد من القوانين العلمية، التي لعبت دورا كبيرا، في تطور الواقع، وفي تحوله إلى الأحسن.

وهذا الاختلاف القائم بين المعرفة العلمية، ومختلف المعارف التي ذكرنا، والتي لم نذكر، نظرا لكثرتها، مبعثه أن المعرفة العلمية، تقوم على وجود قوانين علمية متطورة، يمكن تطبيقها لإنتاج المعارف العلمية المختلفة، أما المعارف الأخرى، فتقوم على أساس مناهج البحث، والعمل على إنتاج معرفة تاريخية، أو أدبية، أو فلسفية، أو غيرها. وهذه المناهج تختلف من دارس، إلى دارس آخر، ومن مؤسسة للبحث، إلى مؤسسة أخرى للبحث، وهكذا...، بينما نجد أن المعرفة العلمية، لا تعتمد إلا على القوانين العلمية المكتشفة حتى الآن، والتي تتطور باستمرار، بفعل التطور الذي تعرفه مختلف العلوم.

أما مفهوم العلمية، الذي نقصده هنا، فهو مجموع القوانين العلمية، التي تم التوصل إليها، انطلاقا مما تم التوصل إليه في العلوم الطبيعية، والعلوم الفزيائية، وغيرها من العلوم، بالإضافة إلى توظيف المنطلقات المادية، التي تساعدنا على فهم الواقع الاجتماعي، فهما علميا، من أجل اكتشاف مجموع القوانين، التي تم تصنيفها، في إطار ما صار يسمى بالمادية الجدلية، والمادية التاريخية.

فالمادية الجدلية، هي مجموع القوانين، التي يمكن أن نقف عليها، في أي كتاب يحمل هذا الاسم، والتي تسعى إلى دراسة الواقع، دراسة علمية، من أجل اكتشاف القوانين المتحكمة فيه، والعمل على تغييره، تغييرا جذريا، ليصير في خدمة الإنسان المقهور، بدل أن يبقى في خدمة الطبقات الممارسة للاستغلال، من أجل أن يتغير النظام القائم، من نظام رأسمالي، أو رأسمالي تبعي، إلى نظام اشتراكي، تصير فيه ملكية وسائل الإنتاج بيد الإنسان.

وبالنسبة للمادية التاريخية، فإننا نقول، ببساطة، بأنها التطبيق العملي لقوانين المادية الجدلية على التاريخ، من أجل معرفة القوانين التي تحكمت في مساره، وفي تحولاته الكبرى، من أجل تحديد مراحله الكبرى، والمحطات التاريخية الكبرى، التي تفصل بين مرحلة، وأخرى، والوقوف على طبيعة التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية، في كل مرحلة، من أجل معرفة ما يجب عمله، من أجل الانتقال بتلك التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية، إلى تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية أرقى، وصولا إلى تحقيق التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الاشتراكية، بعد أن عرفت البشرية، في تاريخها الطويل، تمرحل مجموعة من التشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاعية، والرأسمالية، التي لا زالت تنهب الخيرات المادية، والمعنوية، للمجتمعات البشرية، ولا زالت تكبد البشرية المزيد من الكوارث، ومن أجل معرفة الوسائل التي يجب اعتمادها، للانتقال بالتشكيلة القائمة، إلى تشكيلة أرقى، حتى يتم تفعيل الصراع الطبقي في مستواه الديمقراطي، وفي مستواه التناحري.

وتطبيق قوانين المادية الجدلية، على التاريخ العام للبشرية، في إطار ما صار يعرف بالمادية التاريخية، لا ينفي إمكانية تطبيق تلك القوانين على بلد معين، في إفريقيا، أو آسيا، من أجل الوقوف على خصوصية التطور الذي عرفه هذا البلد، أو ذاك، من أجل معرفة القوانين الطبيعية، والاجتماعية، والتاريخية، التي حكمت ذلك التطور، المحكوم بخصوصية معينة، من أجل العمل على معرفة الوسائل، التي يجب اعتمادها، للقيام بعملية التغيير الشامل، في أفق تحقيق الاشتراكية.

ولذلك، فالعلمية بالنسبة إلينا، تعني إعمال القوانين العلمية، لمعرفة الواقع، كما تعني إعمال قوانين الاشتراكية العلمية: المادية الجدلية، والمادية التاريخية، من أجل معرفة القوانين المتحكمة في واقع معين، يعتبر مستهدفا بالتغيير، في أفق تحقيق الاشتراكية، كهدف أسمى، يخلص البشرية من كل أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي.

وما سوى القوانين العلمية، لا يمكن أن ننتج المعرفة العلمية بالواقع العام، وبالواقع الخاص، بقدر ما يؤدي ذلك إلى إعادة إنتاج نفس التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية القائمة، وقد تكون إعادة الإنتاج مشوهة.

والعلمية، وبهذا المفهوم الذي بسطناه، لا يمكن أن تكون إلا في صالح البشرية، وفي صالح كادحيها بالخصوص؛ لأن أي تطور يعرفه المجتمع الرأسمالي، لا يمكن أن يكون إلا في اتجاه تحقيق الاشتراكية، التي لا تخدم إلا مصالح العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، على خلاف إعادة إنتاج نفس التشكيلة القائمة، التي لا تخدم إلا مصالح الطبقة الحاكمة، والتحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، والرأسمالية التابعة، والرأسمالية العالمية.

للمتابعة على الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.